لم ير الأستاذ طلال حرجاً في متابعة الفتى الذي كنته رغم فارق السن والتجربة. وجهني للقاء الأستاذ زهير هواري، الذي كان حينها مسؤولاً عن الصفحة الثقافية، وكذلك للقاء الأستاذة ثناء عطوي مراسلة الصحيفة في صور. لكنني كنت صغيراً ولم استمر طويلاً.
قبلها بسنوات، حين كنت في الثامنة من عمري، زارنا الأستاذ طلال في سيراليون. ومكث في منزلنا في مدينتنا النائية في البر الأفريقي عدَّة أيام، بحكم الصداقة الجميلة التي كانت تجمعه وأبي. كنت، على صغر سني، مشدوها بالصحافي الكبير الذي يزورنا في بيتنا. لم أكن أدري أنني بعد عقدين من الزمن سأغدو كاتباً صحفياً في “السفير”، الصحيفة الأم التي سأكتب فيها مئات المقالات والتحليلات، وأصبح مراسلاً لها في العاصمة الإيرانية (طهران) لردح من الزمن.
لا أدعّي التتلمذ على يد الأستاذ، لكنه بلا شك، وعلى امتداد عشرات اللقاءات التي جمعتنا خلال السنوات الماضية، زرع في داخلي تحدي البحث خلف أكمة الأخبار عن جوهر كل صراع. لا زلت أذكر؛ قبيل ذهابي إلى العراق، إبان سقوط مدينة الموصل؛ طلبه أن اكتب كيف سقط العراق. كان حماسه يتخطى شغفي؛ وهو السبعيني حينها وأنا في ثلاثيناتي. أخبرني كيف يمكن أن تتحول القطعة إلى كتاب مرجعي، ولماذا علينا أن نشرح ونُبَسّط ونسرد للناس حقيقة ما حدث في هذا البلد العربي خلال السنوات التي تلت سقوطه بيد الأميركيين. عدت من العراق وإتمنت النص وحملته له مطبوعاً على أوراق. حمل قلمه وانطلق معدلاً وضابطاً. وبدوري احتفظت بالورقة التي عليها آثار قلمه والتي انتهت إلى قطعة صحفية سأبقى اعتز بها.
ليس جديداً القول إن طلال سلمان كان مدرسة خاصة في الصحافة. قدرته الفريدة على نسج علاقة شخصية بينه وبين من يجلس أمامه تولد فيك الشعور بالطمأنينة وعدم الحاجة لتنميق الكلمات. ثم يبدأ بالسؤال، وهو الذي يعرف الكثير مما سيسمعه. كان يحرص على الإنصات باهتمام، ويقاطع بأسئلة تحمل أحياناً تصويبات تفتح الباب على زوايا غائبة عن ذهن المتحدث. ثم تأتيك النكتة أو القصة التي تُضفي على الجلسة مزيداً من الحميمية.
لا شيء مستحيل
سيُخَلّد التاريخ ذكر ذاك الشاب القادم من البقاع إلى بيروت باحثاً عن حلمه، فاقتحم الاستحالة. طوَّعها وعجنها وصنع منها طائراً برتقاليا غرَّد قبل زمن التغريد مع إشراقة كل شمس لآلاف المنتظرين. حمل الطائر على أجنحته حبر مئات الأقلام التي كتبت ورسمت وسخّرت عرقها وإبداعها لتكون صوتاً لمن لا صوت لهم. حملها ونشرها في زمن الحرب وزمن السلم، تحت الضغط وفوق الألم، دون تخل عن الثوابت الأولى التي فرد جناحيه لإعلائها.
طلال سلمان أطلق طائر “السفير”، لكن الطائر أبعد من فكرة وتوليفة وحاجة. هو رمانة ميزان تناصر قضايا التحرر دون أن تغرق في سرديات السلطة والقوة ورأس المال. وحتى حين شكَّل المال السياسي حجر زاوية في تمويل “السفير”، عرف الأستاذ كيف يقود السفينة عبر أنواء الإنقسام والتحارب والتشظي. تلقى الرصاصات بصدره. مسح عنه الدماء ونفض الغبار. وعاد ليكمل الطريق.
هو، وإن لم تفه الصحافة العربية واللبنانية بل وحتى العالمية حقه، إلا أنه ارتكب خطيئة لا تُغتفر يوم قرر حجب “السفير” عن القراء. لعلَّه يومها وصل إلى لحظة اليأس التي جعلته يقرر الاحتفاظ بالطائر لنفسه. كان يدرك جيداً أن “السفير” لا تموت حتى ولو أزال عنها أجهزة التنفس الوهمية التي لا تقدم ولا تؤخر في حقيقة أنها حية في كل صحافي كتب فيها، وكل قارئ وفيّ انتظر صدورها. ربما هذا الذي جعله يأخذ ذاك القرار، ويذوي بعدها كشمعة متقدة الشعلة هرمة الجسد حتى لحظة الوداع الأخير.