بليغ حمدي.. “والنبي وحشتنا”

29 عاماً مرت على رحيل عبقري النغم الفنان المصري بليغ حمدي. كل ما قدّمته الدولة المصرية لبليغ بعد وفاته لوحة رفعت على باب منزله في الزمالك، في إطار مشروع "عاش هنا" لتخليد أسماء المبدعين المصريين. هنا تستحضرني العبارة الإنجيلية "لا كرامة لنبي في قومه".

بون من المدن الألمانية التي لا تثير شهية السائحين. أول عبارة تصادفك فيها “أهلاً بك في بون مُلهمة الموسيقار بيتهوفن”. قصدها كثيرون منا قبل أن يجدوا أنفسهم واقفين في صف طويل قبل صعود سلم يقودهم إلى طابق علوي بأدراج خشبية. هناك نتعرف على البيانو الذي عزف عليه بيتهوفن حتى آخر ايام حياته (توفي عن 57 عاماً).

أستدرك لأسأل: ومن قال إن بليغ حمدي أقل عبقرية في الموسيقى من بيتهوفن؟

لا أحب المرور بشارع بهجت علي في الزمالك حتى لا أرى المبنى المشؤوم الذي سقطت من على شرفته المطربة المغربية سميرة مليان في العام 1984، لتلفق بعد ذلك لبليغ تهمة هو منها براء فيخرج من بلده ذليلاً بتهمة سوقية رخيصة لا تشبه إلا صفوت الشريف ومدرسة صلاح نصر. في تلك السنة، بدأت رحلة عذاب شاب أمسك بالعود وهو بعمر العشرين أمام “كوكب الشرق” أم كلثوم مُلحناً لها “حب إيه اللي إنت جاي تقول عليه”.. ليسكت كل من في المكان. هذا الفتى النحيل الصغير بقامته والكبير بقيمته لم يترك العود في ذلك المساء إلا وقد أنجز لحناً غيّر مسار الأغنية العربية من مقام إلى مقام آخر في عز سطوة الموسيقار محمد عبد الوهاب وخصمه الموسيقي رياض السنباطي.

بزغ نجم فتى إسمه بليغ حمدي كان يقول عنه عبد الحليم حافظ إنه أمل مصر في الموسيقى.. بالله عليكم أخبروني كيف يُغتال الأمل؟

هو شاعر الموسيقى. مارس الحب لحناً وكتابة فبليغ كتب ولحّن لميّادة الحناوي “أنا بعشقك أنا” و”كان يا مكان“. هذه الفنانة التي تُعتبر من الجيل ما قبل الأخير الذي لحّن له بليغ حمدي.

كانت ذروة الإبداع مع “كوكب الشرق” أم كلثوم في أغاني “حب إيه“، “فات الميعاد“، “أنساك“، “سيرة الحب“، وأخيراً “حكم علينا الهوى” التي سجّلتها أم كلثوم قبل أن تدركها المنية، وهذا كان إحساس بليغ عندما أخبرها أنه يريد إدخال كوبليه من الأصوات البشرية، فقالت له “إعمل اللي إنت عاوزو يا بليغ”. هنا أدرك بليغ حمدي بحساسيته العالية والمرهفة أن نهاية أم كلثوم باتت قريبة لأنه ليس من عادتها أن لا تناقش في هكذا أمور موسيقية أو فنية.

لحّن بليغ حمدي جميع الألوان الغنائية (القصائد والأغاني الشعبية والوطنية وحتى الإبتهالات الدينية وأشهرها ابتهال “مولاي إني ببابك قد بسطت يدي” للشيخ النقشبندي، كما لحّن للأطفال ومن أشهر تلك الألحان “أنا عندي بغبغان“.

حاول بليغ في البدايات أن يدخل عالم الغناء وتم اعتماده في الإذاعة المصرية لكنه انسحب بعد تسجيل أربع أغنيات، وذلك لإقتناعه أنه لا يملك المقومات التي تجعل منه مطرباً. في الوقت نفسه، كان يزداد ثقة بإبداعه في عالم التلحين. لحّن بليغ حمدي لكل من شادية وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية وعفاف راضي وفايدة كامل وطلال مدّاح وصباح ومحمد رشدي ومحرّم فؤاد وسميرة سعيد وسعدون جابر والقائمة طويلة جداً، إلا أن تجربته مع عبد الحليم كانت بمثابة الطريق السريع لإقتحام عالم الشباب في تلك المرحلة، فأدخل الموسيقى الإلكترونية واستخدم آلة الساكس التي إشتُهر بها العازف سمير سرور.. وكانت ألحان مثل “جانا الهوا جانا” و”زي الهوا” و”موعود” وغيرها من الأغاني الجميلة التي لحّنها بليغ حمدي، وكانت تتميز بجملها الموسيقية حد الإعجاز والبساطة في آن معاً.

وفي أكثر من كتاب عن حياة بليغ حمدي، تناول المؤلفون سرعة بديهته. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان مسافراً وأطال الغياب وعندما عاد إلى القاهرة، سأل مدبرة منزله عن أحوالها فأجابته بعفوية “إحنا من غيرك ولا حاجة وناقصنا كم مليون حاجة”!

أخذ بليغ جواب السيدة وركض به إلى صديقه سيد مرسي، وسرعان ما ولدت أغنية “والنبي وحشتنا” التي غنّتها شادية، لا بل ربما تكون من أجمل ما غنّت.

وبين بليغ حمدي والتراث علاقة قوية جداً، برغم نفسه التجديدي. ففي الستينيات قام بجولة في كل قرى مصر للتعرف على الكلمات والألحان الشعبية المصرية ودرس الكثير من التركيبات اللحنية وكيفية تجذرها في الذاكرة الشعبية لأبناء مصر. في تلك المرحلة، قفزت إلى الواجهة مجموعة من شعراء العامية المصرية، ومعظمهم من جيل الشباب أمثال عبد الرحمن الأبنودي القادم من قنا في الصعيد وسيد حجاب القادم من الدقهلية ومحمد حمزة صاحب الأغنية الشهيرة “عيون بهية” وغيرهم من شباب تلك المرحلة الذين تميّزوا بطاقاتهم الواعدة التي ضخّت دماء جديدة في الأغنية المصرية.

في هذه الفترة، تبنى بليغ حمدي الصوت الصارخ محمد رشدي الذي غنى وقتها أغنية “عدوية“. في هذه اللحظة، اقترب بليغ من أغاني الكادحين والفقراء والفلاحين.

إقرأ على موقع 180  حلمي التوني.. والحمامة البرتقالية التي صنعت هوية "السفير"

لا تكفي مقالة واحدة للحديث عن بليغ حمدي. إنها مجرد تحية لهذا العبقري لمناسبة مرور ثلاثين سنة على رحيله. ففي مثل هذا اليوم من العام 1993 توفي بليغ عن عمر ناهز 62 عاماً. هو عمرٌ قصيرٌ نسبياً لكن قياساً إلى عطائه، فقد قدّم الرجل أكثر من ثلاثة آلاف لحن واستحق أن يُطلق عليه لقب “ملك الموسيقى” أو “العبقري بلبل”، كما كان يناديه المقربون إليه وبينهم عبد الحليم حافظ ومجدي العمروسي والماكيير محمد عشوب وغيرهم.

أنا أجد أن من نعم الخالق على الشعوب العربية أنه بعث إلينا ببليغ حمدي ليؤنس وحشة ليالينا الطويلة في حضرة وابل من الحُكّام الذين عاثوا فساداً وكانوا يريدون فقط أن تبقى لهم فئة من الفنانين الذين يُطبّلون لهم صبحاً ومساءً.

أتمنى على أهل مصر أن يعيدوا لبليغ حمدي إعتباره من خلال إطلاق إسمه على أحد الميادين العامة أو إنشاء كلية موسيقية تحمل إسمه كما حمل هو إسم مصر ورفعه عالياً بما قدّمه.

في الختام لنا عبر صوت شادية ما كان يُرددّه بليغ حمدي:

يا بلادي يا أحلى البلاد يا بلادي

فداكي انا والولاد يا بلادي

بلادي يا بلادي

بلادي يا بلادي

يا حبيبتي يا مصر يا مصر

يا حبيبتي يا مصر يا مصر

ما شفش الأمل في عيون الولاد وصبايا البلد

ولا شاف العمل سهران في البلاد والعزم اتولد

ولا شاف النيل في أحضان الشجر

ولا سمع مواويل في ليالى القمر

أصله معداش على مصر.

Print Friendly, PDF & Email
نوال الحوار

شاعرة وإعلامية سورية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الأمتار الأخيرة في الإنتخابات الأمريكية