ينتمي نوري عبد الرزاق حسين إلى عشيرة “البيات”، وهي عشيرة كبيرة ومتعددة الطوائف والأعراق، أغلبها من العرب وقسم من الكرد والآخر من التركمان، وهم منتشرون في عموم العراق، إلّا أن ما يربطهم هو اللقب فقط. وقد وُلد نوري في بغداد في 21 آب/أغسطس 1934. والده الضابط عبد الرزاق حسين، تخرج من الكلية العسكرية في اسطنبول، وشارك في حرب البلقان، وقد تم أسره لمدّة عامين قضاها في صربيا. ثم عاد إلى العراق حين تأسست المملكة العراقية، وقد التحق ﺑ”فوج موسى الكاظم”، وأرسل بعدها إلى كلية سانت هرست العسكرية في بريطانيا. وفي العام 1934، أصبح آمرًا للكلية العسكرية، وقد أُرسِل إلى الهند في دورة الضباط الأقدمين “الأركان”.
الطفل المدلل
في هذه الأجواء، نشأ نوري “الطفل المدلّل” البكر الذي غرس فيه والده روح الشعور بالمسؤولية، ودرس في مدرسة السعدون النموذجية وواصل دراسته الابتدائية في الموصل بعد نقل والده كآمر لموقع الموصل.
ومنذ الطفولة تفتقت قابليات نوري وكفاءاته القيادية والفكرية، وكان في كلّ يوم خميس يلقي كلمة نيابة عن زملائه في فاعليات المدرسة الثقافية والفنية، وبفعل تفوقه، دخل كلية الملك فيصل الأول، وفي هذه المدرسة بالذات تأثر بالتوجهات اليسارية، وبدأ فضوله يتّسع ويتنوّع لقراءات مختلفة، وكان الحدث الأكبر في تلك المرحلة من حياته، هو وثبة كانون الثاني/يناير 1948 ضدّ معاهدة بورتسموث (جبر – بيفن)، وبعد ثلاثة أشهر من هذا الحدث شارك في تأسيس اتحاد الطلبة العراقي في 14 نيسان/أبريل، والذي سيكون نوري لاحقًا أحد أبرز قادته وممثله على المستوى الدولي، ولا سيّما بعد انعقاد المؤتمر السادس لاتحاد الطلاب العالمي في بغداد، حيث تم اختياره في العام 1960، لمنصب الأمين العام باقتراح من ييرجي بليكان، رئيس الاتحاد والذي كان قد تعرّف عليه في الخمسينيات في فاعليات طلابية دولية مختلفة، وقد التقاه في بغداد مع عامر عبد الله وسلام عادل وممثلين عن الاتحاد السوفياتي.
واقتنع نوري منذ فتوته الأولى، وهو ابن العائلة الارستقراطية، بضرورة التخلّص من ربقة الاستعمار وتحقيق العدالة الاجتماعية، وكما ذكر لكاتب السطور أنه قرّر الالتحاق بالحزب الشيوعي بعد إعدام الرفيق فهد ورفاقه في العام 1949.
وحسب أوراقه يقول: كان عام 1948 عامًا حاسمًا في حياتي، التي شهدت تطورًا شهرًا بشهر، ولا سيّما إزاء مناخ اليسار متاثرًا بجريدة القاعدة السرية بعد جريدة الأساس العلنية، وكان مسؤوله الأول حمدي أيوب العاني، حيث جمعتهما صداقة حميمة تعمّقت بالثقافة والأدب وحب القراءة والسينما، كما تأثر ﺑخليل محمود، الذي يقول عنه أنه مدرسة تعلّم منها الكثير ومحمد صالح العبلّي، وهؤلاء هم النخبة التي قضى معهم آخر ليلة قبل سفره إلى لندن للدراسة، ديسمبر/كانون الأول 1951.
المناضل وممر الإعتقال
اعتقل للمرّة الأولى في مدينة الكاظمية، بعد انكشاف أمر تظاهرة كان من المزمع انطلاقها، ولوحق في البساتين لعدّة ساعات، حتى تمّ اعتقاله مع أحد أقاربه، وقام والده بالتدخّل لدى دائرة التحقيقات الجنائية لإطلاق سراحه، ثمّ اعتقل مرّة ثانية في العام 1951، واستبقي في موقف السراي وعذّب تعذيبًا شديدًا، حيث كُسر أنفه، بسبب الضرب المبرح والتعليق بالسقف، وهو ما أشارت إليه جريدة القاعدة، وقدّم للمحاكمة، وهنا لعبت “الواسطة” دورها في الإفراج عنه، بالرغم من إصرار نوري السعيد على محاكمته بسبب خلاف شخصي مع والده، وتطوّع عدد من المحامين للدفاع عنه، وقد حكم عليه بالسجن مع إيقاف التنفيذ، لكن مجلس الجامعة أوصى بعدم قبوله في أي كليّة، فاضطّر للسفر إلى بريطانيا، كما جرت الإشارة.
وحال وصوله إلى لندن شرع بالعمل في جمعية الطلبة العراقيين، التي أصبح لها شأن كبير مع نخبة من زملائه، كما باشر في حضور دروس خاصة ومحاضرات كان ينظمها الحزب الشيوعي البريطاني، الذي ارتبط بعلاقات وثيقة مع عدد من قياداته، أبرزهم ادريس كوكس (الذي قرأ كلمة سلام عادل في اجتماع الأحزاب الشيوعية لدول الكومنولث 1954) وبالم دات وأرنوت وغيرهم، وكان يحضر محاضرات سكرتير الحزب هاري بولت.
الشيوعية والأرستقراطية
وكان من بين أصدقائه الأوائل في بريطانيا مصطفى ماجد مصطفى وشقيقه نوزاد ماجد مصطفى (رئيس أول جمعية طلابية)، وهما أبناء الوزير ماجد مصطفى ولؤي نوري القاضي وكان والده وزيرًا كذلك، وابراهيم الشيخ نوري ابن أحد كبار القادة العسكريين وشقيقه قتيبة الشيخ نوري من مؤسسي اتحاد الطلبة، إضافة إلى أنيس عجينة مسؤول التنظيم الشيوعي، وهؤلاء جميعهم من النخبة الأرستقراطية والتجارية وأصبح نوري عضوًا فيه ومن ثم مسؤوله بعد ترحيل أنيس بسبب اكتشاف السلطات البريطانية أن سلام عادل، الذي جاء إلى لندن عام 1954 بجواز سفر واسم آخر كان مقيمًا عنده كما كان مقيمًا عند نوري، ثم بعد قيام حلف بغداد، أُبعد نوري عبد الرزاق أيضًا، وتوجه إلى دمشق وبيروت لملاقاة عائلته، والتقى بصفاء الحافظ وجورج تلو وأبو سعيد (عبد الجبار وهبي) وعبد القادر اسماعيل البستاني.
وقبل ترحيله اتسع نشاط نوري ليشمل أوروبا، إنجلترا وفرنسا وبلجيكا والنمسا وألمانيا وهولندا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا والمجر وغيرها. والتقى خلال وجوده في لندن عدد من قادة الحزب بينهم سلام عادل الذي أعجب به أيّما إعجاب، وشريف الشيخ ود. نزيهه الدليمي.
لجوء سياسي في القاهرة
في صبيحة يوم 14 تموز/يوليو 1958، وكان قد أصبح لاجئًا سياسيًا في القاهرة أخبره البقال عن قيام الثورة، وعاد بعدها إلى العراق، وأصبح سلام عادل صديقًا لوالده، كما أنه كان صديقًا للزعيم الذي يلتقيه بصفته سكرتيرًا عامًا لاتحاد الشبيبة الديمقراطية، إضافة إلى علاقة مودة ربطتهما، كما كان يلتقي المهداوي وماجد محمد أمين ووصفي طاهر (أقاربه) وجلال الدين الأوقاتي، الذي أخبره في أواخر العام 1959، أن عبد الكريم قاسم صار موسوليني العراق، ووصفي طاهر الذي قال له في العام 1961، خلال زيارته براغ، حيث كان نوري يقيم، أن قاسم ميؤوس منه وأن المهداوي قاطعه.
قبل سفره إلى براغ اعتقلته سلطة قاسم لعدّة أيام، بعد أن كتب مقالة انتقد فيها إجراءات الحاكم العسكري العام للتضييق على عمل الشبيبة، وتدخّل قاسم لإطلاق سراحه عبر محي الدين عبد الحميد وأخبره الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي أنه سيتم إطلاق سراحه بناءً على أمر من قاسم وأنه يتنازل عن الدعوة وأنه عزيز كريم.
جيفارا وعرفات
قابل نوري جيفارا مرتين، الأولى في العام 1961 بعد انتهاء معركة خليج الخنازير، وشارك معه في بناء مدرسة كنوع من التضامن الرمزي مع الشعب الكوبي، وانطباعه عنه أنه شخص متواضع وهادئ وقليل الكلام، وقضى في كوبا شهرًا كاملًا، ومرة ثانية في العام 1963، بعد “إعصار فلورا” كما أشرت في دردشتي معه في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، المنشورة في جريدة الزمان (العراقية) على عدة حلقات، وزار جبال السيرامايسترا التي انطلقت منها الثورة، ويروي عن جيفارا أنه في تلك الزيارة اتّهم الاتحاد السوفياتي بالانتهازية، منتقدًا موقفه من معاهدة الحد من الحظر الجزئي للأسلحة النووية وهو انتقاد ضمني إلى اتحاد الطلاب العالمي، الذي اعتبر موقفه هو الآخر انتهازيًا، وكان يعتقد أن الطريق الوحيد هو “الكفاح المسلّح“، في حين ردّ عليه نوري أن المعاهدة خطوة لتخفيف حدّة التوتّر الدولي.
وامتاز نوري بآراء استقلالية ووجهات نظر اجتهادية، وهو من المثقفين الشيوعيين القلائل الذي امتلكوا رؤية استشرافية مستقبلية وبعيدة النظر، فضلًا عن مرونة تكتيكية عالية وتكوين نظري متين وثقافة موسوعية، قلّ نظيرها لأقرانه. وقد ارتبط بعلاقة صداقة مع ياسر عرفات منذ العام 1956 ومع المقاومة الفلسطينية وزار معسكراتها في الأردن ودافع عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير في المحافل الدولية، وبقدر ما كان أمميًا صافيًا فقد كان عروبيًا بامتياز، وحمل وجهات نظر نقدية للتجارب الاشتراكية، وكنت قد سمعتها منه منذ وقت مبكّر وقبل انحلال المنظومة الاشتراكية.
آراء متميزة
من بين آرائه النقدية للسياسة الداخلية ولمواقف الحزب، يشير في أوراقه إلى أنه اعتبر رفع شعار الحزب الشيوعي بالحكم كان بمثابة نكسة، كما انتقد انفلاتات بعض الشيوعيين بأعمال عنف وإعدامات ضدّ العناصر المؤيدة والمشتركة في حركة الشواف الانقلابية الفاشلة، 8 آذار/مارس 1959 (خصوصًا بعد انتهائها).
ويتطرّق إلى ما يسميه مذبحة التركمان (تموز/يوليو 1959)، التي اشترك فيها الفرع الكردي للحزب الشيوعي والحركة الكردية، علمًا بأنه لم يكن للحزب الشيوعي قرار ولا موقف، دون أن ننسى تدخلات شركات النفط والعملاء، الذين لعبوا دورًا في تأجيج الصراع، وهو ما دفع الزعيم قاسم لاحقًا لإقصاء الشيوعيين وتسميتهم بالفوضويين في خطابه بكنيسة مار يوسف، علمًا بأن الحزب انتقد نفسه لأنه لم يتّخذ موقفًا حازمًا لوقف ما حصل كما يقول.
في حواراتي مع نوري عبد الرزاق، لاحظت تكرار ذكره لبعض التخبطات والتذبذبات في سياسة الحزب خلال فترة قاسم، لضياع البوصلة، ومنها:
أولًا؛ العلاقة مع قاسم لم تكن واضحة وفيها مزاجية وارتياح أحيانًا.
ثانيًا؛ إقالة الوزراء القوميين مسألة سلبية في حين أن الحزب رحّب فيها، واعتقاده هذا قائم على أن غياب مشاركة الأحزاب، ستضع الأفراد محلهم، وهؤلاء لا يمكن أن يواجهوا قاسم. وشرح رأيه لسلام عادل، معتبرًا ذلك خطوة إلى الوراء.
ثالثًا؛ من أكبر الأخطاء، انحلال جبهة الاتحاد الوطني، التي كان آخر فعالية لها احتفال ساحة الكشافة (27 كانون الثاني/يناير 1959)، ويعتقد أن قاسم استخدمنا هراوة ضدّ الآخرين، وقد قمنا بتلك الخدمة المجانية له.
رابعًا؛ هناك تناقضٌ بين سلطة الدولة وسلطة الشارع، والأخيرة بيد الحزب، أما الأولى فإنها ضدّه، لا سيّما بعد استدارة قاسم.
خامسًا؛ انتقد نزعات التفرّد، والقول إن قوتين بقيتا في العراق، بعد حركة الشواف التآمرية، والمقصود قوّة الزعيم وقوّة الحزب، وبما أن الزعيم فرد وحوله بضعة أفراد، فهذا يعني أن الحزب هو وحده في الميدان، وهو ما ألّب الكثير من القوى ضدّنا.
سادسًا؛ الموقف من جمال عبد الناصر لم يكن صحيحًا، على الرغم من تدخلاته، وقد اقترح على سلام عادل إرسال وفد عالي المستوى للقاء عبد الناصر، وأقتنع سلام عادل بذلك وكلّفه بنقل رسالة شفوية إلى خالد محي الدين (رئيس تحرير صحيفة المساء حينها)، وقام بذلك بالفعل خلال وجوده في القاهرة ذاهبًا إلى صوفيا، واتفق عند عودته إلى القاهرة متوجهًا إلى العراق يمكن أن يكون الجواب جاهزًا، لكن خطاب عبد الناصر التصعيدي في كانون الأول/ديسمبر 1958 ضدّ الشيوعية، والمباشرة باعتقال الشيوعيين المصريين، والحملة الإعلامية حالت دون ذلك أو أضاعت هذه الفرصة.
سابعًا؛ تراجع الحزب لم يكن منظمًا، حتى عندما حاول استعادة الثقة بقاسم، خصوصًا بفعل الانقسام في قيادة الحزب، حتى حصل انقلاب 8 شباط/فبراير الدموي العام 1963.
ثامنًا؛ تلك السياسة، ويقصد “تضامن – كفاح – تضامن“، ومن ثم “كفاح – تضامن – كفاح” قادت إلى انحسار نشاط الحزب جماهريًا.
إن رحلة نوري الفكرية والثقافية والسياسية ومواقفه من الحرب العراقية – الإيرانية ومن الحصار الدولي وتجديد الحركة الشيوعية وعمله في منظمة التضامن الأفرو – آسيوي لنحو نصف قرن، والمليئة بالكثير من الأسرار والمعلومات تحتاج إلى معالجة مستقلة يمكن التوقف عندها في وقت لاحق. فقد كان أرستقراطي المنبت والسلوك والأخلاق وإنساني النزعة واشتراكي التوجّه.
نوري عبد الرزاق شخصية استثنائية وعاش في ظرف استثنائي.