لم تقل وزيرة الخارجية السودانية الجديدة السيدة أسماء عبدالله في تصريحات لها أنها ضد إقامة علاقة مع إسرائيل أو التطبيع، وانما اكتفت بالقول وبذكائها المعهود نظرا لخبرتها الطويلة سابقا في السلك الدبلوماسي السوداني والمنظمات الدولية في افريقيا “ليس الوقت مناسبا الآن لذلك، وان العلاقات مع إسرائيل في الظروف الحالية التي تمر بها المنطقة العربية مستبعدة.. فنحن في مشاكل ولا يمكن فتح باب للخلافات، والعلاقات على الأقل في الوقت الحاضر لن تكون ذات أهمية”، لكنها أكدت انه من حيث المبدأ لا توجد مشكلة في هذا الأمر ذلك أن “لمعظم الدول العربية علاقات بطريقة أو بأخرى. السودان هو أحد الدول العربية”.
وقبل الوزيرة كان زميلها وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجديد نصر مفرح (المنتمي الى طائفة الأنصار بقيادة الصادق المهدي)، قد دعا اليهود الى العودة الى السودان قائلا:”أقليات يهودية فارقت البلد ونحن ندعوها بحق التجنس والمواطنة للرجوع إلى البلاد”، وهو ما وافقه عليه رئيس الحكومة الجديد عبدالله حمدوك بقوله ان هذه الدعوة جاءت من باب التوجه إلى خلق سودان متصالح مع نفسه وقادر على إدارة التنوع والتسامح الديني.
ثم ان إسرائيل أعلنت بلسان كبار مسؤوليها مرارا رغبتها بالتطبيع مع السودان، وهو ما أكد عليه مجددا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإعلانه ان السودان سيسمح قريبا بتحليق طائرات العال الإسرائيلية في مجاله الجوي وهي في طريقها الى اميركا الجنوبية، وهو ما نفته مرارا ايضا سلطات الخرطوم خصوصا بعد مرور طائرة لنتنياهو نفسه فوق جنوب السودان بينما كان في طريقه الى افريقيا إبان العهد المخلوع.
وقبل أيام قليلة، اثارت المغنية السودانية هند الطاهر المقيمة في فرنسا جدلا واسعا بقبولها الذهاب الى إسرائيل من أجل الغناء للجالية السودانية هناك، برغم تأكيدها انها لو جاءتها الدعوة من إسرائيل لرفضتها.
الواقع ان الضغوط على السودان لفتح علاقات مع إسرائيل كبيرة وليست وليدة فترة ما بعد الثورة الأخيرة. جاءت هذه الضغوط بعد ان قطعت العلاقات الإسرائيلية الأفريقية شوطا بعيدا ووصلت الى حد الإعلان عن اول قمة افريقية إسرائيلية في توغو (تعطلت بسبب مواقف مغاربية) وعن زيارة هي الاولى من نوعها لرئيس تشاد المجاور للسودان الى إسرائيل.
كان الرئيس المخلوع عمر حسن البشير قد كشف في لقاء مع مشايخ الطرق الصوفية قبل فترة قصيرة من خلعه، عن اغراءات أميركية وعربية لمساعدته في حال اقام علاقات مع إسرائيل وقال “أنهم نصحونا بالتطبيع مع إسرائيل لتنفرج عليكم، ولكننا نقول الأرزاق بيد الله، وليست بيد أحد وان القضية الفلسطينية هي قضية عقائدية وليست سياسية”. قال ذلك في اوج ارتفاع أصوات سودانية داخلية كانت تطالب بالتطبيع.
وفي مطلع العام الجاري كانت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية قد أكدت ما أعلنه البشير من رفض لإقامة علاقات او السماح للطائرات الإسرائيلية بالعبور في أجواء بلاده، لكن القناة العاشرة الإسرائيلية كانت قد كشفت مع وسائل اعلام إسرائيلية أخرى عن لقاءات سرية جرت بين مبعوثين إسرائيليين ونظراء لهم سودانيين في تركيا في عهد البشير. وقالت إن مبعوثا خاصا من الخارجية الإسرائيلية عقد اجتماعا سريا مع مسؤولين من الحكومة السودانية في مدينة اسطنبول، أحدهم مقرّب من سفير الخرطوم في واشنطن رئيس المخابرات السودانية السابق محمد عطا في محاولة لتجديد الحوار بين الجانبين تمهيداً لإقامة علاقات ديبلوماسيّة.
لماذا هذا الضغط على السودان لاقامة علاقات مع إسرائيل؟
أولا، لان نتنياهو يحتاج لتأكيد مقولته التي يكررها دائما من ان دولا عربية عديدة بدأت تتوجه لإقامة علاقات فعلية مع اسرائيل.
ثانيا، لان السودان شكل دائما هاجسا إسرائيليا بتهمة تمرير أسلحة إيرانية الى حماس وحركات المقاومة وقيامه بتصنيع صواريخ إيرانية في مصنع اليرموك جنوب الخرطوم (برغم القطيعة التي وقعت لاحقا بين الخرطوم وطهران بفعل ضغوط سعودية وإماراتية).
ثالثا، لان السودان الشاسع والذي تحده عشر دول افريقية بالغ الأهمية استراتيجيا وأمنيا لإسرائيل وهو سوق واعد للتكنولوجيا والسلاح.
رابعا، لان المجال الجوي السوداني هو القادر أكثر من غيره على تقصير مسافات الطيران الإسرائيلي صوب دول العالم وهو ما تعجز عنه دول افريقية كثيرة مجاورة.
خامسا، لتطويق الأمن العربي (ومن ضمنه المصري) في منطقة البحر الأحمر وافريقيا.
سادسا، للمشاريع الاقتصادية والتجارية المقبلة التي تعتزم إسرائيل تطويرها في افريقيا وعبرها.
من الملاحظ أن السودان الجديد الذي يتلقى منذ الاطاحة بالبشير تطمينات أميركية كثيرة بتوسيع قاعدة التعاون، يدرك ان اميركا لن تفعل ذلك من دون حتمية التطبيع مع إسرائيل.
ما هي مصلحة السودان بإقامة علاقات؟
أولا، الدول العربية الحليفة للسودان والتي تمده بمساعدات جمة وساهمت في اسقاط البشير برغم وقوفه الى جانبها في حرب اليمن، لا ترى غضاضة في علاقات سودانية إسرائيلية بل قد تشجعها في سياق التنسيق مع اميركا.
ثانيا، من الملاحظ أن السودان الجديد الذي يتلقى منذ الاطاحة بالبشير تطمينات أميركية كثيرة بتوسيع قاعدة التعاون، يدرك ان اميركا لن تفعل ذلك من دون حتمية التطبيع مع إسرائيل.
رئيس الوزراء السوداني الجديد عبدالله حمدوك الذي قال إن “تفاهمات كبيرة حدثت مع الإدارة الأمريكية حول رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب” لديه خبرة طويلة في المؤسسات الدولية التي عمل فيها لسنوات عديدة في افريقيا، ويعرف ان إقامة نوع من العلاقة مع إسرائيل ضروري لاستمرار الدعم الاميركي والحصول على مساعدات وفيرة، عربية ودولية.
ولو دققنا في أرقام إستطلاع للرأي أجرته مؤسسة “باروميتر العربي”، يتبين أن 32 في المئة من المشاركين فيه من السودان يوافقون على أن تنسيق بلادهم سياستها الخارجية مع إسرائيل مفيد للمنطقة العربية”، وهي اعلى نسبة عربية في هذا الاستفتاء.
تبقى مسألتان مهمتان، الأولى؛ ان جنوب السودان الذي دعمته إسرائيل طويلا قبل الانفصال، غرق في حرب أهلية وحالة من المجاعة والفقر بعد الانفصال. الثانية؛ ان الشعب السوداني بغالبيته الإسلامية العربية الافريقية، لا يزال حتى الآن يرفض التطبيع وان أطرافا عديدة جاهرت برفض ذلك، وان أي خطوة ناقصة في هذا المجال قد تدفع خصوم عهد ما بعد الثورة للقول ان النظام الجديد تطبيعي وتستغل هذه الفجوة… لكن الى متى؟ ففي مصر المجاورة كان هذا هو الشأن ايضا وكانت الظروف اصعب بكثير حين تم توقع اتفاقية كامب دافيد .
من يشاهد اليوم الجدل الكبير في السودان بشأن العروبة وهل تكون في الدستور المقبل أم لا، يدرك اننا أمام مخاض كبير، قد يفضي الى تحولات كبيرة، فأميركا تريد أولا وأخيرا جذب السودان مجددا الى كنفها واخراجه من المنظومة الافريقية للصين وغيرها…فلننتظر ما يقرره السودانيون الذين أطاحوا بنظام البشير حتى تكون حياتهم أفضل وأكثر استقلالية. أما النظام الرسمي العربي، فهو طبعا لن يعترض على أي تطبيع، بل قد يشجعه.