إنتهت الانتخابات المعادة في الكيان الإسرائيلي بنتيجة تبدو ظاهريا وكأنها مختلفة عن تلك التي كانت في نيسان/ابريل الفائت لكنها في الواقع تكرار جوهري لها. وما اختلف فعليا هو عجز زعيم اليمين، بنيامين نتنياهو عن تحقيق غرضه الأساس بنيل تفويض لمعسكر اليمين من دون زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان لمواصلة الحكم. وهذا يعني أن القول بأن معسكري اليمين واليسار، لم يحصلا على أغلبية تسمح لأي منهما بقيادة الحكم في الكيان، ينطوي على نوع من المبالغة والمغالطة.
فقد أظهرت النتائج الأولية أن معسكر اليمين، من دون ليبرمان، حصل في المتوسط على 56 مقعدا فيما حصل معسكر الوسط – يسار على 54 مقعدا. وبديهي أنه لا يمكن اعتبار ليبرمان من معسكر الوسط أو اليسار إلا إذا أراد أحد خنق الحقيقة ودفنها. وهنا يكمن أساس المعضلة التي واجهت الحلبة السياسية الإسرائيلية وهي الخلاف الشديد داخل معسكر اليمين.
والواقع أن الخلاف في معسكر اليمين، وأغلبه شخصي، سواء بين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان أو بين نتنياهو وكل من أييلت شاكيد ونفتالي بينت من حزب “إلى اليمين” هو ما خلق الأزمة أصلا. ولو حدث توافق بين نتنياهو وليبرمان في نيسان/ ابريل الفائت لما عجز زعيم الليكود عن تشكيل حكومته.
لذلك، يمكن القول إن استمرار عدم التوافق بين ليبرمان ونتنياهو قد يحول دون تشكيل حكومة يمينية، لكنه لا يفسح المجال لتشكيل حكومة وسط – يسار. إذ أن حكومة وسط ـ يسار هي آخر ما يمكن لليبرمان أن يشارك فيها، ولذلك، فإنه، ومنذ البداية، طالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية.
إذا لم يفلح قادة “الليكود” في إنهاء الصراع بين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، فإن الطريق ستغدو مفتوحة للتفكير بخيارات أخرى
ومن المؤكد، أن استمرار هذا الحال من المحال، خصوصا وأن اليمين يشعر بقدرته على مواصلة السيطرة على الحكم، إذا أفلح في تغيير نتنياهو أو على الأقل في تغيير عقلية نتنياهو. وإذا لم يفلح قادة الليكود في إنهاء الصراع بين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، فإن الطريق ستغدو مفتوحة للتفكير بخيارات أخرى. وبين الخيارات الأقل احتمالا، خلق أزمة سياسية جديدة عبر معاودة إقرار حل الكنيست وإجراء انتخابات جديدة، وهو ما قد يحاول نتنياهو فعله.
ومن الجائز أن رئيس الكيان رؤوفين ريفلين حذر من هذا الاحتمال ووعد ببذل أقصى الجهد لمنع حدوثه. وهذا يعني أنه سيشجع إما على تشكيل حكومة وحدة وطنية أو على دفع “الليكود” لاختيار شخصية أخرى لتأليف الحكومة أو إحداث أي اختراق آخر.
وفي كل الأحوال، من الجلي أن نتائج الانتخابات لم تحل الأزمة السياسية وإنما فاقمتها وهي تدفع الأطراف وخصوصا “الليكود” و”أزرق أبيض” للبحث عن بدائل. ومن الجائز أن أهم البدائل المطروحة هي دفع “الليكود” للتخلي عن نتنياهو وعرض مرشح آخر لرئاسة الحكومة.
وإذا حدث هذا، فإن أحد أهم أهداف الحملة الانتخابية لمعارضي نتنياهو يكون قد تحقق: إخفاق نتنياهو في نيل التفويض لقيادة الدولة العبرية لسنوات قادمة من ناحية وإخفاقه أيضا في توحيد معسكر اليمين من ناحية أخرى.
ومن المؤكد أن الحملة الشرسة التي أدارها نتنياهو ضد أحزاب اليمين الأخرى أثناء المعركة الانتخابية سوف تشجع هذه الأحزاب على مطالبة “الليكود” بعرض مرشح آخر.
ومن المعروف أن أحد أهم أهداف نتنياهو من إعادة الانتخابات هو حشر خصومه في اليمين، تحديدا ليبرمان وشاكيد، وضمان توفير الحصانة له لمنع محاكمته أثناء توليه رئاسة الحكومة بتهم الفساد الموجهة له.
ومن المؤكد أيضا أن عجز نتنياهو عن تحقيق ذلك، يدفع خصومه في اليمين للتخلي عن تحفظاتهم السابقة تجاه تقديمه للمحاكمة. وهذا ما جعل العديد من الخبراء يقولون بأن فشل نتنياهو الأساسي ينبع في خسارته فرصة توفير أغلبية تضمن له الحصانة من المحاكمات المنتظرة.
عموما، منحت النتائج الأولية حزب “أزرق أبيض”(كاحول لافان) تفوقا ولو بمقعد واحد على “الليكود” وهو أمر يعني الكثير بالنسبة إلى نتنياهو. وبرغم أن النتائج أولية حتى الآن، وهي قابلة لتغييرات طفيفة بسبب التقارب القائم، من الواضح أن أيا من الحزبين الأكبرين لا يملك ضمانة بالقدرة على تشكيل حكومة جديدة. ولذلك، اشتد الحديث عن امكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية علمانية من الحزبين الكبيرين و”إسرائيل بيتنا”. وهذا يعني أن الكيان يتجه إلى تغيير وجهة داخلية هامة أساسها إبعاد من يعتبرون “غير صهاينة”، وهي الصفة التي يتسم بها “الحريديم” والعرب، عن الحكم.
وليس مستبعدا أن يتم اللجوء إلى هذا الخيار خصوصا بعد تصريحات كل من نتنياهو وزعيم “أبيض أزرق” بني غانتس حول أهمية إنشاء حكومة “صهيونية”، حسب قول الأول وحكومة وحدة وطنية حسب الثاني. ومن الملاحظ أن نتنياهو تخلى تقريباً عن استخدام تعبير الحكومة اليمينية بعد أن ملأ الدنيا صراخا حول “يسارية” أفيغدور ليبرمان بل ويسارية أحزاب اليمين الأخرى. وصار أكثر ميلا للحديث عن حكومة وحدة خصوصا مع “أزرق أبيض” ما يعني فتح باب المساومة مع الأحزاب الأخرى لضمان استمرار قيادته للحكم أو للشراكة التناوبية في رئاسة الحكومة.
وستبدأ الألاعيب الحزبية من الآن وحتى قبل ظهور النتائج الرسمية النهائية. ليبرمان، الذي ظهر وكأنه لسان الميزان، يخشى من أن يتم تجاهله من الحزبين الكبيرين اللذين قد يتفقان على إبعاده. ولذلك، فإنه دعا الرئيس الإسرائيلي للمسارعة إلى الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية طبعا سينال حصته فيها. ويأتي هذا الطلب بعد أن أعلن عدد من قادة “الليكود” أنهم قد يعملون على إنجاز اتفاق مع حزب “أزرق أبيض” لتشكيل ائتلاف لا يضم ليبرمان.
يمكن للأحزاب الصهيونية إذا أنشأت حكومة وحدة وطنية أن تخلق سابقة هامة وهي أن القائمة العربية المشتركة ستغدو رسميا حزب المعارضة الرئيس
ولا بد من الإشارة إلى مشاهد أخرى في الحلبة الانتخابية تبدو ضرورية لفهم حقيقة ما جرى في إنتخابات السابع عشر من أيلول/سبتمبر. فمن ناحية هناك الصوت العربي الذي تعرض لحملات عنصرية واستبعاد من قبل الأحزاب الصهيونية وأفلح في أن يغدو القوة الثالثة في الكنيست. ويمكن للأحزاب الصهيونية إذا أنشأت حكومة وحدة وطنية أن تخلق سابقة هامة وهي أن “القائمة العربية المشتركة” ستغدو رسميا حزب المعارضة الرئيس. أي أن العرب سيتولون زعامة المعارضة الرسمية في الكنيست ما يمنحهم قوة أكبر من أي وقت.
ومن جهة أخرى فإن الحريديم، ممثلين بقائمتي “شاس” و”يهدوت هتوراه”، قد يفقدون قوة هامة امتلكوها في حكومات اليمين المتعاقبة. وقد وضع الحريديم كل بيضهم في سلة نتنياهو ووقفوا طوال الوقت خلفه ولكنهم اليوم قد يجدون أنفسهم إما خارج الائتلاف الحكومي أو على الأقل في إحدى زواياه غير الهامة.
ومن الواضح أن نتائج الانتخابات كسرت هيبة نتنياهو وألغت صفة “الساحر” التي كان يتمتع بها وهي ما توحي بأن صراعا مريرا على الزعامة داخل “الليكود” وخارجه قد بدأ. فصمت القطيع السائد في “الليكود” حاليا سيجد قريبا من يكسره بعد أن يفسر عدد من زعماء هذا الحزب ما جرى على أنه هزيمة لهم. إذ أن “الليكود” لم يعد الحزب الأقوى في الكيان كما أن معسكر اليمين تفتت ولم يعد يرى في نتنياهو زعيما غير متنازع معه أو عليه. وهذا يفتح الباب أمام صراع قريب على الزعامة ربما يكون نتنياهو أول ضحاياه.
ومعروف أن مختلف الأحزاب المتنافسة استماتت في مساعيها لجلب أكبر قدر من ناخبيها إلى صناديق الاقتراع حتى اللحظة الأخيرة. وبلغت المنافسة ذروتها مع بدء الاقتراع، ليس بين المعسكرات وحسب وإنما بين الأحزاب، بحيث بدا التعامل كما في يوم القيامة، وذلك وفق مبدأ “اللهم نفسي”. وبدا الأمر أشد جلاء في معسكر اليمين حيث ساد العداء داخل المعسكر القومي بين “الليكود” و”إلى اليمين” بل وحتى بين “الليكود” وحركة “شاس”. كما أن العداء بين اليمين المتطرف في حزب “القوة اليهودية” و”الليكود” اشتد بقوة مع اقتراب موعد إغلاق صناديق الاقتراع.
وتجاوز الاتهام باليسارية في صفوف اليمين كل الحدود. فزعيمة “إلى اليمين” أييلت شاكيد اعتبرت أن الأصوات اليمينية التي تذهب إلى “الليكود” يمكن أن تدفع نحو تشكيل ائتلاف مع اليسار. ووصل الأمر لأول مرة بحركة “شاس” لإعلان أن كل صوت يذهب لنتنياهو سيقود إلى تشكيل حكومة يسارية.
والأمر نفسه تجلى في الصراع بين حزب “العمل” وكل من “ميرتس” المتحالفة مع إيهود باراك وحزب “أرزق أبيض” بزعامة بني غانتس. فهذا الحزب الذي يصارع من أجل تخطي نسبة الحسم والبقاء في الحلبة تصارع مع اليسار الأيدولوجي ممثلا بـ”ميرتس” ومع الوسط البراغماتي ممثلا بـ”أزرق أبيض” من أجل كل صوت. فالمسألة في نظره كانت مسألة حياة أو موت، وهو غير معني بنجاح أو فشل الوسط وإنما بصراعه من أجل البقاء. وهذا أيضا ما حكم حركة “ميرتس” التي أشارت استطلاعات الرأي إلى احتمال العجز عن تجاوزها نسبة الحسم، فعمدت إلى التحالف مع إيهود باراك وحزبه “إسرائيل ديموقراطية” الذي وُلد حديثاً.
في كل حال، ثمة حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن الانتخابات دللت على يمينية الشارع اليهودي في الكيان وعلى استمرار الصراع في داخل هذا الشارع. والنتيجة المستخلصة هي أن نتائج الانتخابات ستقود إلى صراع يجعل الحلبة السياسية الصهيونية أقل استقرارا في المرحلة المقبلة وخصوصا في ظل “صفقة القرن” وخطط اليمين لفرض السيادة على المستوطنات في الضفة الغربية. ولا يبدو في الأفق احتمال أن توفر الحالة الراهنة أية فرصة من أجل تحقيق اختراقات سياسية على صعيد التسوية مع الفلسطينيين.