مارتن لوثر كينغ.. أينك من أمريكا اليوم؟

الآن وقد أصبحت كامالا هاريس رسميّاً مرشّحة الحزب الديموقراطي للإنتخابات الرئاسية المقبلة، استذكر مارتن لوثر كينغ، الذي أُغتيل يوم 4 نيسان/أبريل من سنة 1968، وبعض خطاباته عن ولع أمريكا بالعنف والإرهاب.

يوم 20 كانون الثاني/يناير المقبل لن يكون يوماً عاديّاً في أمريكا. يومٌ تحتفل فيه الولايات المتحدة بذكرى مارتن لوثر كينغ، إغلاقاً للمدارس والدوائر الحكوميّة ومعظم مؤسّسات القطاع الخاصّ. من تقاليد هذا اليوم أنّ يستذكر الأمريكيّون حياة وخطابات شخصية من بين أهمّ شخصيّات القرن العشرين ونضاله من أجل حقوق السود، خصوصاً خطابه الشهير المعروف بـ”لدي حلم“. لكن مع كلّ هذا التركيز على “تكريم” مارتن لوثر كينغ، يتمّ تجاهل جوهر مسيرته ونضاله من أجل عالم أقلّ عنفاً. وما زال معظم السود (بعكس سياسيّيهم والكثير من أثريائهم) يعانون من تمييز قبيح ومعاملة عنفيّة، بحيث لا يمرّ أسبوع إلاّ ونسمع عن شرطي أطلق النار على شخص أسود لسبب غير مبرر.

وللمفارقة الغريبة، يوم 20 كانون الثاني/يناير المقبل سيشهد أيضاً تنصيب الرئيس الجديد للولايات المتّحدة. فإمّا أن نكون أمام مشهد كامالا هاريس (والدها من جامايكا ووالدتها من أصل هنديّ) تقوم بأداء اليمين الدستوري لتصبح أوّل أمرأة ترأس الولايات المتّحدة (ثاني شخص من أصل أسود)، أم يبتسم الحظّ من جديد لدونالد ترامب فيعيده إلى البيت الأبيض.

يمكن أن يخطر في بالنا للوهلة الأولى أنّ مارتن لوثر كينغ كان ليبتسم في ذلك اليوم وهو ينظر من علياء إذا ما كان التنصيب من حظّ هاريس. لكنّ هكذا قناعة فيها سذاجة كبيرة لأنّ الموضوع أثير في السابق عندما انتُخب باراك أوباما، وتبيّن مع الوقت أنّه أوّل رئيس أسود لأمريكا لم يأبه لكل إرث مارتن لوثر كينغ، وباعه بأبخس الأثمان من أجل عنجهيّة السلطة. بل أكثر من ذلك، تدهور واقع السود أثناء رئاسته، وذلك لأنّ استمرارهم في بؤسهم أفضل وأنفع للحزب الديموقراطي ولمعظم السياسيّين السود!

وما سيحدث مع هاريس إذا فازت هو نفس ما حدث مع أوباما. الفرق فقط في الشكل (الوجه واللباس ولكنة الصوت و..). أمّا في الجوهر، فلا فرق بينهما، تحديداً في انبطاحهما لإسرائيل ودعمهما الغير مشروط لجرائمها.

***

لنُعيد طرح سؤالنا: ما كان مارتن لوثر كينغ ليقول عن وضع أمريكا؟ وما كان ليقول أو يفعل في ظل استمرار الدعم الأمريكي المفتوح (ماليّاً وعسكريّاً وإعلاميّاً وسياسيّاً وقانونيّاً و..) لإسرائيل لكي ترتكب باسم ما يُسمى “العالم الحرّ” و”المتمدّن” أفظع المجازر وحملات الإبادة وأهول الدمار؟

لم يكن مارتن لوثر كينغ شخصيّة عاديّة. تطرّق في خطاباته للكثير من المشاكل في أمريكا وحول العالم، ويمكن أن نستشرف منها بعض الأجوبة عن سؤالنا. تحديداً، خطابه “أبعد من فيتنام” (Beyond Vietnam)، والذي يبدو لقارئه وكأنّه ينطبق على أمريكا اليوم كما كان ينطبق عليها في ستّينيات القرن المنصرم، بل أكثر. وأنا أكيد أنّه لو كان هناك من إمكانيّة للتواصل مع كينغ في عالم غيبه لكان سيوافق على ما سننسبه إليه.

بغضّ النظر عمّن سيكون رئيس أمريكا المقبل في 20 كانون الثاني/يناير 2025، ستُشكّل المناسبة إغتيالاً جديداً لمارتن لوثر كينغ، الذي أصبح يومه السنوي خيانة لكلّ ما ناضل من أجله. فلا واقع السود تغيّر جذريّاً ولا العالم أصبح أقلّ عنفاً. وما كان ليرعبه أكثر هو أنّ معظم الزعماء السود يقفون الآن بالصفّ، يُقبّلون (…) إسرائيل (لولا الحياء لقلناها)!

ظهر كينغ ككثير من زعماء السود في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية كصوت ضدّ الظلم والعنف الذي كان يواجهه السود في أمريكا. لكن سرعان ما تمايز عن الباقين بأسلوبه الخطابي البارع وتركيزه على جوهر معاناة السود. لكن حتّى سنة 1967، لم يتطرّق بجدّية لمواضيع عالميّة، خصوصاً تورّط أمريكا في فيتنام.

نعم، تردّد كثيراً قبل أن يُعلن موقفاً من حرب فيتنام والإجرام الذي كان يرتكبه هناك الأمريكيّون (ساسةً وجنوداً). تجنّب الحديث عن الموضوع خوفاً من تأثير ذلك على النضال من أجل حقوق السود. لكن مع تطور وعي الرجل صار يُركّز على أنّ نضال السود في أمريكا هو جزء من نضال عالمي، وكما توقّع، جرت محاربته ومقاطعته إعلاميّاً. وانتقده معظم السياسيّين البيض، خصوصاً الديموقراطيّين، وتعرض أيضاً للوم من بعض قيادات السود. وما زال الكثيرون على قناعة أنّ كينغ أُغْتِيل خوفاً ممّا يمكن أن تقود له مواقفه المناهضة لاستمرار حرب فيتنام في تأليب الفقراء السود ضد الدولة الأمريكيّة.

في خطابه الشهير “أبعد من فيتنام” (Beyond Vietnam)، والذي ألقاه في 4 نيسان/أبريل 1967 في مدينة نيويورك (سنة تحديداً قبل اغتياله في 4 نيسان/أبريل 1968)، يعترف كينغ بأنّ صمته وتردّده حيال الحرب التدميريّة في فيتنام هو “خيانة” منه لمبادئه. ويعترف أيضاً أنّ كثيرين لاموه قائلين له إنّه يُعرّض حقوق السود للخطر وأنّ مشاكل السود لا علاقة لها بـ”السلام” العالمي. وكأنّه استشرف ما يفعله معظم زعماء السود الآن بخيانتهم لمبادئهم كلّ يوم من أجل جبروت إسرائيل!

إقرأ على موقع 180  الترامبية ماركة أميركية.. للإحتيال وخوض حروب خاسرة

وتطرّق كينغ أيضاً إلى حقيقة أنّ أمريكا ترفض أن تستثمر أموالاً ومجهوداً وطاقات بشريّة لتحسين الواقع الأليم الذي يعيشه الفقراء، طالما هي مهووسة بحروب شيطانيّة وكيفية تمويلها.. واليوم نقول إن شيئاً لم يتغيّر بتاتاً في سلوك أمريكا.

ويسخر كينغ أيضاً من التبريرات التي يُردّدها سياسيّو أمريكا لأسباب خوض حرب فيتنام ومنها أنّ هدفها ضمان وتثبيت الحريّة في جنوب آسيا، بينما الجنود السود الذين يُساقون إليها لا يجدون تلك الحريّة في ولاية جورجيا أو ضاحية هارليم (في مدينة نيويورك) أو غيرها من الولايات أو المدن الأمريكيّة. والأنكى، أنّ الفقراء السود والبيض، كما يقول كينغ، يُساقون للحرب في فيتنام ويتعاضدون هناك في الهجوم على قرى الفيتناميّين وحرقها، ويموتون في حضن بعضهم البعض، بينما في أمريكا لا يرضون بتاتاً أن يقطنوا في جوار بعضهم البعض في نفس الحيّ أو أن يدرسوا معاً في نفس المدرسة.

تحسّنت بعض الشيء علاقة البيض بالسود، لكن ما يزال الحكّام الأمريكيّون يبيعون هيمنتهم وطغيانهم حول العالم على أنّه نشر للحريّة والديموقراطيّة والسلام (وحسب كينغ، هذا يعني فعليّاً: قنابل وقتل وتهجير). ويُساق كثيرٌ من السود لنشر تلك “الحريّة” حول العالم، بينما هم لا يجدونها في ولايات كثيرة في بلدهم. هنا لا أجد أعمق تعبير ممّا قاله كينغ في خطابه: “أعظم مموّل اليوم للإرهاب في العالم هو حكومة دولتي”.

ويشير كينغ إلى معاناة النساء والأطفال والمسنّين في فيتنام بلغة تنطبق كاملةً على معاناة الفلسطينيّين اليوم:

“إنهم يشاهدون ونحن ُنسمّم مياههم، وُندمّر محاصيلهم. يبكون وهم يرون الجرافات تعيث فساداً في قراهم وتدميراً في بساتينهم. مستشفياتهم ممتلئة بضحاياهم (نقتل منهم 20 ضحيّة لكلّ إصابة لحلفائنا). لا نعرف كم منهم قتلنا، ربّما مليون، أكثرهم أطفال. هم تائهون في بلداتهم بالآلاف، من دون مأوى وبلا ملابس، يركضون في الأزقّة كالحيوانات، يهينهم جنودنا عندما يتوسّلون الطعام”.

وكأنّ كينغ كان ينظر إلى غزّة وما يفعله الصهاينة والأمريكيّون بأهلها هناك، كلُّ ذلك تحت شعار “الحريّة” و”السلام”!

***

بدأ تحوّل مارتن لوثر كينغ إثر حصوله على جائزة نوبل للسلام في سنة 1964 حين أحسّ بمسؤوليّة ضخمة وضعت على كاهله وأنّ عليه الإعتراف أنّ “اللا-عنف” هو نضال عالمي يجب أن يتمحور حول الأخوّة بين الشعوب وليس فقط بين البيض والسود في أمريكا أو من أجل مصلحتهم الوطنيّة. ولا يمكنني هنا إلاّ أنّ أقارن بين هذا التغيير الذي حصل في فكر العملاق كينغ وبين انزلاق الصغير باراك أوباما عندما أُعطيت له جائزة نوبل (وهو كان غير مؤهّل لها بتاتاً) والحضيض الأخلاقي الذي هوى فيه عندما قرّر، مثلاً وليس حصراً، توديع منصبه بهديّة الـ 38 مليار دولار إلى الكيان الصهويني النازي من أجل أن يستمرّ الصهاينة ببطشهم بفقراء وأطفال فلسطين.

***

في الختام، لا أظنّ أنّ كينغ كان ليأبه بأنّ الناس يحتفلون به في يوم من أيّام السنة ويتحدّثون عنه مدحاً بألسنتهم، بينما في نفس اليوم وفي باقي أيّام السنة يرفسون أفكاره بأقدامهم ويعيثون في الأرض فساداً وتدميراً.

نعم، بغضّ النظر عمّن سيكون رئيس أمريكا المقبل في 20 كانون الثاني/يناير 2025، ستُشكّل المناسبة إغتيالاً جديداً لمارتن لوثر كينغ، الذي أصبح يومه السنوي خيانة لكلّ ما ناضل من أجله. فلا واقع السود تغيّر جذريّاً ولا العالم أصبح أقلّ عنفاً. وما كان ليرعبه أكثر هو أنّ الزعماء السود (إلاّ بعض الشخصيّات المهمّشة) يقفون الآن بالصفّ، يُقبّلون (…) إسرائيل (ولولا الحياء لقلناها) وينبطحون أمامها لعلّ اللوبي الصهيوني (المسيحي واليهودي على حد سواء) يرضى عنهم.

علينا أن نُعيد قراءة خطاب “أبعد من فيتنام” ليس فقط للفضول التاريخي، بل أكثر من ذلك، لكي نعي أنّ كينغ كان نبيّاً، تنبّأ بما فعلته وستفعله أمريكا في أفغانستان وأوكرانيا وفلسطين، والأمثلة لا تحصى (سابقاً وحاليّاً ومستقبلاً). فهو يحدّثنا عن أسلوب أمريكا في الهيمنة الذي هدفه منع أو إجهاض أي فرص للسلام والإصرار على الحرب طالما هناك من يمكنها أن تُضحّي بهم (من شعبها أو من باقي الشعوب).

***

في الختام، تستوقفني عبارة اقتبسها مارتن لوثر كينغ في خطاب له (وهي للرئيس الراحل جون كينيدي)، تقول:

“من يجعل الإحتجاجات السلميّة مستحيلة، سيجعل الثورات العنفيّة حتميّة”..

 

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عام الأحزان في طهران.. وكؤوس خامنئي "النووية" المرة!