لقد حالفتني ظروف عملي الصحفي، فاقتربت من زعيم حزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي)، لأنسج معه علاقة خاصة، ستتجاوز علاقة صحافي طموح يتلمس خطواته الأولى، بفاعل سياسي كبير ملأ الدنيا وشغل الناس.
بدأت العلاقة من أول لقاء لي معه، بغاية إجراء حوار صحفي، عندما استقبلني في مكتبه الصغير بشقة تقع في الطابق الأول من عمارة قديمة وسط الدار البيضاء مبنية من طابقين، بزقاق لُدرو رولان، وهو اسم أحد المحامين الثوريين التقدميين في فرنسا القرن التاسع عشر، (ألكسندر أوغست لُدرو رولان).. لتستمر وتتوطد تلك العلاقة على مدى سنوات، إلى أن رحل الزعيم عن دنيانا في حادثة سير مفجعة، لم تحل حتى اليوم خيوطها الدامية وملابساتها الغامضة.
***
ذات يوم، من شهر ماي/أيار 1984، ألفيتني أمام “السي علي”، كما يناديه الرفاق. وكانت المناسبة من تنظيم المصور الفوتوغرافي الكبير محمد مرادجي. ما أن لمحني علي يعتة حتى ناداني باسمي واقترب مني، بعد التحية والسلام سيسألني عن جديد الأخبار. سأجيبه باستغراب لم أُخْفه:
– كل الأخبار لديك السي علي.
فسارع وبتواضع شديد، بدّد كل استغرابي، ليؤكد لي أن أخباراً كثيرة تفوته، لكنه يحاول استدراكها حسب الإمكان. ثم جدّد السؤال، والذي كان يهم تطورات الصراع المحتدم وقتها داخل البيت الاتحادي، بين أنصار من كان يطلق عليهم في الصحافة “جماعة بنعمرو”، وبين باقي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من أنصار عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي. طلب مني السي علي أن أمكنه من وثيقة نادرة، كانت محدودة التداول، وكنت أتوفر على نسخة منها، وهي لمن أسميتهم في مجلة “السؤال” التي كنت أصدرها، بـ”التيار الثالث” وعملت على نشر ملخصها فقط. و”التيار الثالث” جمع ثلة من “الحكماء” الذين سعوا لإيجاد مصالحة ترأب الصدع وتحول دون انشقاق التنظيم العتيد، قبل فوات الأوان، بين الراديكاليين الرافضين للمشاركة في الانتخابات وللخط السياسي العام الذي صار عليه بوعبيد، وكانوا يشكلون جماعة وازنة، بعضهم كانوا أعضاء في اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي المنبثقة عن المؤتمر الوطني الثالث، من أبرزهم عبد الرحمان بنعمرو وأحمد بنجلون والعربي صادق الشتوكي ومحمد بوكرين ويزيد بركات والطيب الساسي ومحمد فلاحي وعبد الرحيم اعميمي ومحمد بوشطو وأحمد يزي. وبين المكتب السياسي بقيادة عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي وعبد الواحد الراضي. والوثيقة إياها كان من أبرز محرريها المرحوم محمد الحيحي صهر الشهيد المهدي بنبركة.
وحِرصُ الرفيق علي يعتة على تتبع أسرار الصراع الاتحادي – الاتحادي، يأتي من صلب حرصه على تكوين صورة حقيقية عما يجري، خصوصا وأن علاقات ودية كانت تربطه بعدد من القيادات الاتحادية، لذلك ربما حاول إجراء وساطة، من دون التدخل في الشؤون الداخلية للحزب الحليف، كما عمل على إرسال إشارات، ولو من بعيد للمتصارعين، إشارات تحث على استعمال العقل والتريث، واستحضار المصلحة العليا للوطن، بعدم تكسير القوى اليسارية والديمقراطية، بل التسارع ما أمكن إلى مد الأيادي “من أجل تأسيس جبهة تقدمية عريضة” الشعار الذي ظل يحمل رايته على كتفيه بلا عياء.
وأذكر، أنه في اليوم الموالي، تركت نسخة من النص الكامل للوثيقة في مغلف بمكتب علي يعتة.
لقد كان الراحل يعمل على تنويع مصادره الإخبارية ومعلوماته بشأن الحياة الحزبية والسياسية، ولا يتردد في التعامل مع الصحفيين اليساريين من خارج صحافة حزبه.
***
ما زلت أذكر كيف أُخذْت بتواضع علي يعتة، وقد أزيحت عن عيني غشاوة الصورة القبلية التي كانت لدي عن عجرفته وصلابته، لقد وجدتني أمام شخص لطيف، يتمتع بمزايا إنسانية عالية، هو غير ذلك الخطيب الفصيح، الذي كان يصر على الضغط على مخارج الحروف، ونطقها بصوت جهوري، وكنت أتابعه من على منبره في التجمعات النضالية التي كان يدعو إليها في المسرح البلدي بالدار البيضاء، وكانت تُلبى من طرف جمهور واسع من الشباب والطلبة والمناضلين الحالمين بغد أفضل، وكان الزمن هو زمن المد اليساري. وليس هو ذلك المتدخل في جلسات البرلمان، كان رجلاً بحشد من الرجال، فريق كامل يتشكل من برلماني واحد، إذ كان السي علي “الممثل الوحيد والشرعي” لحزبه في برلمان الحسن الثاني، أو هكذا كان خصومه اليساريين، وغير اليساريين ينتقدونه في دعاباتهم ونكتهم السياسية.
***
لم يكن سهلاً الحصول على موعد مع السي علي لإجراء حوار صحفي معه، فأجندته المليئة لا تسمح كثيراً. الرجل موزع ما بين عدة جبهات ومواقع، صحيفتي الحزب اليوميتين، بالعربية والفرنسية، يمر بمقر “البيان” ليجتمع بهيئتي تحريرها ومناقشتهم وتوجيههم، ثم الانزواء داخل ركن مكتبه لتحرير الافتتاحية التي ستصدر في عدد الغد، ثم عليه الاجتماع بأعضاء من حزب التقدم والاشتراكية لمتابعة شأن أو قضية حزبية ما، وتحرير بعض المراسلات، والرد في الهاتف على أكثر من مكالمة. واللقاء بمسؤولين من الإدارة المحلية بغاية إيجاد حلول لبعض مشاكل المواطنين ممن يلجأون إليه. ثم الانتقال إلى العاصمة الرباط لحضور جلسات ولجان البرلمان. وهو الاستثناء من بين سائر أعضاء مجلس النواب أجمعين، الذي يحرص كل الحرص على عدم التغيب، ولا أعتقد أنه تغيب يوماً، إلا إذا أجبره على ذلك القيام بمهمة خارج الوطن. إنه النائب الوحيد الذي يمثل حزبه التقدم والاشتراكية تحت صرح هذه المؤسسة الدستورية الكبرى.
لذلك كان أحيانا يطلب مني تأجيل موعد إجراء لقاء أو مقابلة صحفية معه، خصوصاً وأن المواعيد المفاجئة والطارئة كثيراً ما كانت تداهم برنامجه العامر.
“لتسمح لي على مواعيدي العرقوبية”. بهذا التعبير اعتذر لي مرة عندما اضطر لتأجيل موعده معي مرتين.
ولم يعد يطلب مني بعدها، أن أمر عليه بعد إجراء الحوار لقراءة صيغته النهائية التي سيظهر عليها.
وبعض الحوارات التي أجريتها معه كانت مكتوبة، بعد أن يطلب مني ترك الأسئلة، وقد يكون كتب ردودها ما بين موعدين.
مرة حضرت إلى موعد متفق عليه مسبقا مع السي علي، بغاية استجوابه لفائدة صحيفة “الكشكول” التي أصدرها في مستهل التسعينيات أحد قدماء الحزب الشيوعي ممن ابتعدوا عنه، وهو الزميل الصديق عبد الله الستوكي. ما أن رآني علي يعتة حتى وقف وخاطبني بأنه تراجع عن التزامه معي، وأنه لن يخصني بأي حديث أو تصريح صحفي. كان واضحاً أن الرجل غاضب، ومن يعرف “السي علي” عن قرب يدرك تماما أنه من الصنف الذي لا يقدر على إخفاء انفعالاته. لم أجرؤ على فتح فمي بأي رد فعل من وقع المفاجأة التي لم أكن أنتظرها. مرّت لحظة سريعة كأنها زمن، بعدها تقدّم نحوي بقامته المديدة، وناولني العدد الأخير من صحيفة “الكشكول”، وفيه ما اعتبره تحاملاً غير مقبول على حزب التقدم والاشتراكية. كانت الصفحة الأولى تتضمن مادة إخبارية تقول بأن مطبعة “البيان” الجديدة تم الحصول عليها من المخابرات الأمريكية، بعد الاستقبال الذي حظي به نادر يعتة من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، برفقة ثلاثة رؤساء تحرير عرب، من “الأهرام” المصرية، و”النهار” اللبنانية، و”السياسة” الكويتية، إلى جانب “البيان” المغربية طبعاً. مكافأة لهم على موقفهم المناهض لاحتلال صدام حسين للكويت في العام 1990.
أذكر أني لم أبذل جهدا كبيرا لثني السي علي عن قراره بعدم مقابلتي، إذ قلت له ما مفاده:
– دعني أخاطب فيك علي يعتة الصحافي، بل المهني المتمرس البارز، وليس الزعيم الحزبي، أنا لست مسؤولاً عن تمرير الخبر الذي أغضبك، لكن ألا ترى معي، وحزبكم اليوم في مرمى الاتهامات الثقيلة من كل صوب، بعد موقفكم من حرب الخليج، ومعارضتكم لاجتياح الكويت من طرف جيش صدام حسين، في الوقت الذي أيّدته الجماهير العربية الواسعة. لتكن استجابتكم لإجراء الحوار مع جريدتنا بهدف توضيح وتنوير القارئ بصواب موقفكم وتحليلاتكم الاستراتيجية.
هكذا نجحت في الحصول على حوار جيد ومثير، نشر على صفحة كاملة من “الكشكول”، وترك صدى إيجابياً، كما سيُخبرني بذلك السي علي نفسه لاحقاً.
***
كان الشاب علي يعتة يُعطي دروساً خصوصية في سنوات الأربعينيات للقنصل العام للولايات المتحدة الأمريكية في الدار البيضاء، الأمر الذي أثار سلطات الحماية الفرنسية، وعملوا على تحريض والده ضده كي يوقف “تعامله مع الأمريكان”، لكن الوالد أجابهم بأن ابنه ليس قاصراً وهو مسؤول عن نفسه. وقد يكون علي يعتة الشيوعي المؤيد للسوفيات أعداء الولايات المتحدة الأمريكية في زمن الحرب الباردة، لم يخف عداءه لأمريكا حتى بعد نهاية تلك الحرب، إذ كان لا ينسى رفيقه الدكتور عزيز بلال الذي راح ضحية حريق في أحد فنادق أمريكا، وهو موت لم يفصح عن غموضه أبدًا.
ولمّا أردت التقاط صور للسي علي، لنشرها مع الحوار، حرص الزعيم على أن نأخذ له صوراً وهو جالس تحت راية كبيرة تملأ الجدار الذي خلفه، منسوجة عليها صور مؤسسي الشيوعية: (كارل ماركس وفريدريك انجلز وفلاديمير لينين). وظهرت الصورة باللونين الأسود والأبيض، وبدا علي يعتة في مكتب يعلوه ركام من الصحف والمطبوعات والأوراق والمراسلات.
عن علاقة الأمين العام لـحزب التقدم والاشتراكية بالصورة، أذكر أن المصور الفوتوغرافي حميد الزروالي، الذي رافقني مرة إلى مكتب “السي علي” بزنقة لُدرو رولان، بعد أن التقط لنا صوراً خلال المقابلة، طلب أن يلتقط صوراً خاصة للسيد الأمين العام بمفرده، وقد استجاب بكل سرور. وجلست أنا أتفرج على الزروالي وكيف يُحرّك ويدير أمامه “موديله”، وعلي يعتة يتجاوب مع”أوامره”. مرة يطلب منه أن يقف جنب طاولة المكتب، أن يجمع ذراعيه معاً، ثم في لقطة أخرى أن يدخل يداً في جيب سرواله، وأن ينظر إلى تلك الجهة. كانت جلسة تصوير حرفية بكل ما تختزنه الكلمة من معنى، وأعتقد أن هذا الألبوم التوثيقي النادر لا يزال في خزانة الفنان الفوتوغرافي والمخرج حميد الزروالي.
وبصدد الصورة دائما، كنت مرة برفقة المرحوم نادر يعتة، في مكتبه بالطابق الأرضي لمطبعة “البيان” بلاجيروند، بعد أن صار متعذراً على نادر صعود الدرج. كان رئيس تحرير “البيان” بالفرنسية قد أصبح مشلول الساقين إثر حادثة سير مروعة، وقعت ليلاً على الطريق السيار الرباط ـ الدار البيضاء، ولما دخل علينا والده كان بصحبة المرحوم الأستاذ شمعون ليفي عضو المكتب السياسي وعديله، إذ أن ليفي تزوج من شقيقة روزلين زوجة علي يعتة الاسبانية الأصل.
في تلك اللحظة، كان نادر يُحدّثني عن مزايا الكرسي المريح الذي يستعمله، وأخبرني أنه كرسي جلب من أحد كراسي طائرة. وأنا كنت منشغلاً بالتقاط صور لنادر وهو يتحدث إليَّ. فجأة حولت زوم الكاميرا إلى علي يعتة ثم إلى رفيقه الجالس جنبه، شمعون ليفي، فما كان من شمعون ليفي إلا أن تدخل قائلاً بلكنته اليهودية الخاصة، ملوحاً بيده:
– واش بغيتي عندي؟ لماذا تلتقط لي صوراً؟
وقبل أن أفكّر في جواب، تكفل الصحافي علي يعتة بالتوضيح، قائلاً:
– كَمَرَادْ.. ليفي.. قد يحتاجون مرة صورتك فيجدونها، وعلى الصحفي أن يخزنها للأرشيف.
فسكت ليفي مبتسماً.
كما كانت صور علي يعتة تظهره وهو يتصدر الصفوف الأمامية لأهل الإعلام في الندوات الصحفية التي كان ينظمها العاهل الراحل (الحسن الثاني)، وكان الملك يفضله لافتتاح جولة الأسئلة، وغالباً ما كان الحسن الثاني ينوه بوجاهة أسئلة علي يعتة، خصوصاً المتصلة بقضيتنا الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية. ويعد كتاب “الصحراء المغربية” باللغة الفرنسية (346 صفحة) والذي يحتوي على افتتاحيات الراحل، من أهم المراجع التحليلية في الموضوع.
***
لقب “الرفيق الحاج علي يعتة” الذي اشتهر به فترة، كان اليساريون الراديكاليون يتندرون به، بل يُسوّقونه في إطار انتقاداتهم “البوليميكية” ضد أقدم زعيم سياسي في المغرب زمنها.
في حوار خصّ به مجلة “الدستور” التي كانت تصدر من لندن، في بداية الثمانينيات، أجراه الصحفي السوري قصي صالح درويش المتخصص والمطلع على شؤون المغرب، لم ينس قصي التنصيص وبالبنط العريض على وضع اسم “الحاج علي يعتة” في عنوان المقابلة. وهو ما اعتبر في حد ذاته وقتها إثارة صحفية ما بعدها من إثارة. كيف؟ شيوعي عربي حاج؟
كما أن “السي علي” كان لا يفوته أن يُضمّن محاضراته وخطبه ومداخلاته البرلمانية بعض الآيات من القرآن، أو من الأحاديث النبوية.
بل إن البعض من المواطنين في فترة الحملات الانتخابية، أشاعوا أن “السي علي” كان من المواظبين على أداء الصلوات الخمس.
يجب استحضار حقيقة علي يعتة الذي درس صغيراً في الكتاب القرآني، وتابع دروسه في اللغة العربية على يد مشايخ الحركة الوطنية في الدار البيضاء، مثل الشيخ مولاي أحمد السباعي الشنقيطي، والوطني الكبير الشيخ الفقيه الحمداوي. ولما سافر إلى الجزائر عاد بدبلوم عالٍ في أصول اللغة العربية. لذلك فثقافته الدينية واللغوية لا مجال للجدال حولها.
ولم يكن يجري على لسانه بعض الآيات القرآنية التي يختارها، إلا لما تحمله من قيم إنسانية ومن رفض للظلم الطغيان، وهي الآيات التي تتكلم عن العدالة والمساواة، ومحو التفاوت الطبقي الشاسع بين بني البشر، أو تلك التي تقبل التأويل الاشتراكي.
واليوم مع سيطرة الأصولية، وتراجع اليسار، انتبه بعض مفكرينا، مثل عبد الإله بلقزيز، ليلفتوا الانتباه إلى أن من بين صعود الظلاميين، هو استقالة اليسار وابتعاده عن دين الشعب، وتسليمه الإسلام للمهربين الدينيين، وتمكين المستغلين الرأسماليين والمستبدين من استغلال الدين واستعماله لتمرير وتبرير أفكارهم الاقتصادية والثقافية والاستبدادية وتسخيره لكبح جماح التقدم الاشتراكي.
يقول المفكر عبد الإله بلقزيز في حوار معه، نشر مؤخرا على حلقات في يومية “الاتحاد الاشتراكي”:
“… يبدو وكأنّ الدين قد عاد، والحال إنّ الدين لم ينقطع، فهو موجود في المجتمع. خذ العمل السياسي في المغرب، أكان الأمر يتعلق بحزب الاستقلال، أو بحزب الشورى والاستقلال، أو بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وفيما بعد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، هذه الأحزاب التي انتسلت من نسل واحد الذي هو الحركة الوطنية، كان نصف أعضائها من المتدينين، وأحياناً من علماء الدين، تبنوا الوطنية، وتبنوا الديمقراطية، وتبنوا الاشتراكية. هذا هو الإسلام الطبيعي في المجتمع، الإسلام الذي لا يصطدم بالمجتمع، ولا يجعل الدين حائلاً بين الإنسان وبين المجتمع وبين التاريخ. لكن تديّن هؤلاء كان منفتحاً، بل يدخل ضمن أفق أشمل كالوطني، أو كالأفق القومي أو الإنساني، وليس ضمن أفق طائفي”.
وتأسيساً على هذا التحليل، يكون الزعيم الراحل علي يعتة المثقف الوطني اليساري الكبير، لا يخرج عن أولئك الآباء المؤسسين للعمل الوطني السياسي الديمقراطي، كاشفا عن رؤية الاشتراكية للدين. بجدلية واعية ومنتبهة. خصوصاً أنه لا يمكن محو أو القضاء على أي دين مهما كان، بل يجب التعامل معه بكل ما تقتضيه الحكمة والمسؤولية.
***
من الطرائف التي أتذكرها؛ كان علي يعتة، وهو في طريقه ليلاً إلى زنقة الفراشات بحي الوازيس حيث مسكنه، يتوقف عند بعض باعة الجرائد الليليين، يلاطفهم ويسألهم عن أحوالهم، وعن سير بيع الجرائد ومكانة “البيان”، وقد ربط مع عدد منهم صلات إنسانية لا زالوا يفتخرون بها.
كما ربطته علاقة جد خاصة بالرئيس المدير العام لشركة التوزيع “سبريس” الإعلامي محمد برادة، وأعرف جيداً أن لدى هذا الأخير الكثير مما يمكن قوله عن صداقته المميزة بـ”السي علي”.
مرة، اقترح علي أن يوصلني من منطقة “لاجيروند” إلى وسط المدينة بسيارته المرسديس 200 الرمادية الزرقاء، وما أن صرنا داخل السيارة حتى وضع السي علي سيجاراً كوبياً كبيراً بين شفتيه. وشغل كاسيت أغنية من أغاني فريد الأطرش. برغم كل مشاغله كان “السي علي” يقتطع بعض اللحظات للاستمتاع بالحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وحديثنا عن يعتة الإنسان والسياسي والصحافي يكاد لا ينتهي، وأعتقد، بل أجزم أن الكثيرين ممن عملوا إلى جانبه في التنظيم أو في صحافة الحزب أو خارجه، لديهم الكثير مما يمكن سرده من الحكايات والطرائف التي تروى عن علي يعتة. وأتمنى لو عملت مؤسسة علي يعتة على تجميعها، وعلى نشر التراث السياسي والصحافي الغزير الذي تركه الفقيد.
***
إنّ مناسبة تذكر الرجال الكبار المؤسسين في مغربنا، من المناسبات التي تثير في نفسي الكثير من الحزن والأسى، حين نجد مثلاً أن شخصية كبيرة من حجم علي يعتة، أو عبد الرحيم بوعبيد أو أحمد بنسودة وعبد الله العياشي وعبد السلام بورقية وامحمد بوسته.. وتطول القائمة، لا نجد من يبادر إلى التأليف عن سيرهم لتخليد أثرهم بين الأجيال، ألا يمكن أن نصف هذا بالعقم المغربي، بل بالجحود ضد النبوغ المغربي؟