للفينيقيين في عقول الجزائريين وقلوبهم مقام رفيع، لا يضاهيه في العلو سوى رفعة العروبة وحظوتها، ومن النادر العثور على مفكر أو باحث أو كاتب جزائري لا يضع الفينيقيين في منزلة السمو والنيافة.
وعلى ذلك، يُشيد العلامة والوزير الجزائري أحمد توفيق المدني (1898 ـ 1983) في “قرطاجنة في أربعة عصور” بسمات الفينيقيين ومزاياهم وإنجازاتهم الحضارية ويقول “حسبهم فضلاً على المدنية أنهم هم الذين اخترعوا الحروف الهجائية الصوتية، وعنهم أخذها اليونان والرومان ثم انتقلت إلى العالم جميعاً”. كما كان تأثير الفينيقيين على البربر من خلال قرطاجة تأثيراً عظيماً وجسيماً، فالقرطاجيون كانوا الأساتذة الذين حملوا إلى البربر تعاليم مدنية كانت من أكبر مدنيات العالم، وأفضى ذلك إلى تشكيل لغة واحدة “اللسان اندمج اندماجاً كاملاً، وأصبحت هناك لغة وطنية قرطاجية هي مزيج مما أخذه الفينيقيون عن البربر ومما أخذه هؤلاء عن أولئك، ولا ريب أن هذه اللغة القرطاجية مهّدت السبيل إلى سيادة اللغة العربية في هذه الديار”، يقول المدني.
أما المفكر والمؤرخ محمد علي دبوز (1919 ـ 1981) فيرفع الفينيقيين في “تاريخ المغرب الكبير” إلى عُلا الأمجاد ويعتبرهم “فخر البشرية وتاجها، وحاملو نبراس الحضارة إلى الأمم الأوروبية، ومنقذو أوروبا من ظلمات الهمجية، ومكتشفو الكثير من البقاع المجهولة بمغامراتهم في البحار والبراري”.
استمر تأثير الفينيقيين على المغرب العربي وفي صلبه الجزائر أكثر من 1500 عام، منذ ما قبل نشوء قرطاجة عام 814 ق.م إلى ما بعد إحراق الرومان للمدينة سنة 146 ق.م كي لا تنافس روما، وحتى مرحلة أعقبت القرن الميلادي الخامس، حيث يقول القديس أوغسطين إن أناساً هناك كانوا يتكلمون البونيقية (لغة فينيقيا المغاربية).
ومن مظاهر هذا التاريخ المديد أن عشرات المدن بناها الفينيقيون في الجزائر وشقيقاتها المغاربيات، ومن هذه المدن جيجل وعنابة كما في “تاريخ الجزائر” لأحمد توفيق المدني، وكذلك مدن بجاية وشرشال وتنس، وكلها في الجزائر “وكانت قرطاجة التي تجمع 800 ألف نسمة ترتبط مع كل البلاد المغربية بطرق معبدة كانت الوحيدة من نوعها في الدنيا، وأهمها الطريق الذي يصل قرطاجة بطرابلس ولبدة (ليبيا) ويصل بينها وبين طنجة (المغرب) ثم الطريق الذي يصل بين قرطاجة وشرشال على طريق تبسة وقسنطينة وسطيف، إلى غير ذلك من الطرق التي يدعونها اليوم ظلماً وتطاولاً على التاريخ، بالطرق الرومانية”.
وتدخل في قائمة المدن الجزائرية التي أنشأها الفينيقيون، تبسة وسكيكده وقسنطينة والقل ومدينة هنين بالقرب من تلمسان وأيضاً الجزائر العاصمة.
وهذا التاريخ الحي الذي يفخر به الجزائريون، قابله اللبنانيون وأهل الشام عموماً بإعلاء شأن الأمير عبد القادر الجزائري (1808 ـ 1883) إلى مصاف الأولياء الصالحين، حين لاذ من الفرنسيين واتخذ دمشق مسكناً، خصوصاً إثر موقفه الديني ـ الأخلاقي في الفتنة الطائفية البغضاء عام 1860، حيث أبعد شرور الفتنة عن مسيحيي دمشق، فحمى 15 ألفاً في داره وفي قلعة العاصمة السورية.
هذا الموقف السامي للأمير عبد القادر، جعل الشهود المسيحيين على تلك المرحلة يصفونه بالعجيبة ويرمونه بالقداسة، وفي ذلك يسرد ديمتري الدبّاس (1837 ـ1912) في “تاريخ وذاكرة نزاع” مشاهداته ومعاناته آنذاك إلى أن يقول “أمّا العجيبة الثالثة، فالأميرعبد القادر، باشا المغاربة، جمع ثلاثة آلاف عسكريّ مغاربة وحمّلهم السلاح، وصاروا يطوفون البلد بحسب أمره، وكلما وجدوا مسيحيّين كانوا يحضرونهم لبيت الأمير عبد القادر، نجاة المسيحيّين الدمشقيّين تعود إلى ثلاث وسائط: ثالثها الأمير عبد القادر، وهؤلاء يشبهون الثلاثة الملائكة برسم الثالوث القدّوس: الآب والإبن والروح القدس”.
والشاهد الآخر على تلك الفظيعة هو جبرائيل ميخائيل شحادة الدمشقي، إذ يعتبر أن العناية الإلهية أرسلت الأمير عبد القادر لإنقاذ مسيحي بلاد الشام من مجازر ماحقة لاحقتهم ويتساءل في كتابه “تنهدات سيريا” قائلاً “من كان يظن بأنه سيبقى مسيحيون في دمشق مع وجود تلك المؤامرة لإبادتهم، من كان يظن أن باشا المغاربة الذي أخذت بلاده النصارى سيكون سبباً لخلاص النصارى، مولاي عبد القادر المغربي، بعد حدوث الفتنة، نزل وجماعته، إلى حارة النصارى، وصار يجمعهم رجالاً ونساءً، هذا الرجل صاحب المروءة والإنسانية إنه الواسطة في بقاء النصارى، والنصارى مديونة له”.
وتأتي الشهادة الثالثة في “مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان” للبناني ميخائيل مشاقة (1799 ـ 1888) المولود في بلدة رشميا “قنط النصارى من النجاة، وابتلوا بالفاقة وتعددت عليهم المصائب، ولكن قُدّر لهم أن يكون بين المسلمين شهم يرثي حالهم، هذا الشهم هو الأمير عبد القادر الجزائري الذي طبق ذكره الخافقين وعمّ فضله وكرمه نصارى الشام على السواء”.
تلك المأثرة، كانت واحدة من مآثر عبد القادر الجزائري، فغزارة علمه ورجاحة عقله وحصافة حلمه، كادت تحوله ملكاً على بلاد الشام، فدمشق التي استقبلته مجاهداً علماً، اقتربت مدينتا بيروت وصيدا من أن تتوجاه ملكاً، حين اجتمع الأعيان في العام 1877، في مؤتمرين سريين في بيروت وصيدا، ضم اللبنانيين أحمد الصلح وعلي عسيران ومحمد الأمين وعلي الحر وشبيب الأسعد، ثم أثلثوا مؤتمرهم في دمشق في بيت تقي الدين الحصني وقالوا لحضرة الأمير عبد القادر: ما غيرك يقود وما غيرك يحكم ولا غيرك يملك.
رحل الأمير عبد القادر الجزائري، وواظب الجزائريون على مواجهة الفرنسيين، إلى أن كانت ثورة التحرير العامة في الخمسينيات من القرن العشرين، وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب، على ما يقول أحمد توفيق المدني في مذكراته، جاء وفد من الثوار إلى بيروت، ضم عباس فرحات وكريم بلقاسم والمدني نفسه، وفي التفاصيل:
“باشرنا الأعمال فقابلنا الرئيس الكيّس اللبق فؤاد شهاب، ورئيس الوزراء الحازم الفطن رشيد كرامي، ووزير الخارجية النابه الحاج حسين العويني، ورئيس مجلس النواب، تكلمنا خلالها عن كل شيء خاصة قضية الجزائر، وما تتطلبه من جهود وموقفنا الخاص من فرنسا، وقالوا لنا جميعاً: إنهم معنا ووعدوا بالتأييد التام لدى هيئة الأمم المتحدة وبالسعي لدى فرنسا، قابلنا البطريرك المعوشي، كان رجلاً شهماً بديع الكلام جليل الإنصات تحادثنا معه نحو ساعتين، وطني عربي من الصادقين، وقال إن استقلالكم أمر لا شك ولا ريب فيه، إنني سأكون بعد يومين في باريس ماراً بروما، وسأخاطب قداسة البابا في الموضوع وأقنعه بوجوب قيامه بمسعى حميد في الموضوع، كما سأخاطب الجنرال ديغول ورجال حكومته ورجال الكنيسة الفرنسية، حتى تتضافر الجهود وتقترب ساعة الخلاص، وأود أن ترسلوا لي بعد رجوعي رجلاً أخبره بما علمت وبما سمعت وبما حققت”.
في “كفاح الشعب الجزائري” للمؤرخ الليبي علي الصلابي “لقد استمر الدعم المعنوي والمالي بقدر المستطاع من الشعب اللبناني لثورة الجزائر من مصادر جماهيرية منظمة ومتعددة، وكانت تجمع وتوصل لممثل جبهة التحرير الوطني المساعدات المالية، كما كانت للحكومة اللبنانية مساهمات مالية ومعدات طبية توجه لمساندة حرب التحرير”.
بعد قيام الحكم الوطني في الجزائر وإخراج الفرنسيين (1962) عقب الثورة الوطنية العارمة، نحا الجزائريون نحو الإسهام في الحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية العالية، إذ كانت تتموضع في المرتبة الرابعة عالميا (صحيفة “الحياة”ـ 20 ـ 2 ـ 1965) وما هي إلا سنوات قليلة بعد الإستقلال، حتى اعتمدت شركة “سوناطراك” العملة اللبنانية في مبيعاتها الخارجية، وحين وقع لبنان في الشر المستطير عام 1975، كان للجزائر أدوار ريادية في الوساطات لإطفاء حرائق الأخوة ـ الأعداء، ومن أبرز تلك الأدوار ما قام به وزير الخارجية الأخضر الإبراهيمي، بالتشارك مع المملكتين السعودية المغربية، في دفع اللبنانيين نحو التوافق وإنضاج “اتفاقية الطائف” عام 1989 وانتقال لبنان إلى مرحلة السلم الأهلي.
وبعد الإنفجار الكارثي في مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020، كانت الجزائر في طليعة الدول التي قدّمت مساعدات عاجلة للبنان، ومن دون جلبة أو صوت أو صورة، وفي اليوم التالي للإنفجار ذكرت قناة “الميادين” التي تبث من بيروت أن “رئيس الجمهورية الجزائرية عبد المجيد تبون، يعلن عن جاهزية 4 طائرات وسفينة محملة بالمساعدات الطبية والغذائية، بالإضافة إلى أطباء ومختصين للإقلاع نحو بيروت” وكتبت صحيفة “العربي الجديد” الصادرة في الدوحة (8 ـ 8 ـ 2020) “أعلنت السلطات الجزائرية وصول أربع طائرات تابعة للقوات الجوية الجزائرية إلى مطار بيروت محملة بـ 200 طن من المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني وأطقم طبية وجراحين وفريق من الدفاع المدني”.
ويروي وزير لبناني مُخضرم أنه أثناء مشاركة رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي في أحد المؤتمرات العربية الإفريقية، غداة ولادة الحكومة الميقاتية الثانية (2011 ـ 2014)، بادره الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قائلاً: هل تعلم أن الجزائر كانت شريكة في تسميتك رئيساً للحكومة في عز الأزمة الوطنية التي أعقبت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005؟
هنا سأله ميقاتي: وكيف تجسّد دور الجزائر بتسميتي لرئاسة الحكومة؟
أجاب بوتفليقة: “إتصل بي الرئيس الفرنسي جاك شيراك في شهر نيسان/أبريل 2005 وقال لي لقد اتفقت مع ولي العهد السعودي أن يكون نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة الإنتقالية التي ستتولى الإشراف على الانتخابات النيابية وانسحاب الجيش السوري من لبنان. وقد توافقنا أنا والأمير عبدالله بن عبد العزيز على أن تتولى الجزائر مهمة إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بتسميتك رئيساً للحكومة. وبالفعل إتصلت بأخي الرئيس الأسد، وسارع إلى إعطاء موافقته.. وما أن أبلغت شيراك بالموافقة السورية حتى حسم أمر رئاسة الحكومة لمصلحتك”.
الوزير اللبناني نفسه يقول إنه قبل فترة زمنية معينة ومع تبلور دور “اللجنة الخماسية” التي تضم الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والسعودية وقطر والتي أخذت على عاتقها مساعدة اللبنانيين من أجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية وقيام حكومة إصلاحية، تسنت له فرصة اللقاء بمسؤول جزائري في عاصمة عربية كبرى، وعندما خاضا في تشريح قدرة “الخماسية” على إنتاج حل لبناني، توصلا إلى قناعة مشتركة أن لبنان لن يجد في هذه اللحظة التاريخية دولة أكثر حرصاً من الجزائر على تقريب المسافات بين اللبنانيين وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد، لأنها لا تملك أية “أجندة” لبنانية.. وبالفعل، ما أن عاد الوزير اللبناني إلى بيروت، حتى سارع إلى نقل النصيحة الجزائرية إلى كبار المسؤولين اللبنانيين.
قبل الختام؛ ما يعرفه اللبنانيون عن الجزائر:
ـ لم تتدخل متراً أو شبراً أو “مليمتراً” في الشؤون الداخلية اللبنانية.
ـ لم تُحابِ طرفاً لبنانياً على آخر.
ـ لم تُحرّض ولم تفتن ولم تحدث وقيعة بين اللبنانيين.
ـ فتحت جامعاتها للطلاب اللبنانيين من دون منة أو استعلاء، ولا سيما في زمن الحرب الأهلية.
في الختام؛ أغنية من فيروز إلى جميلة بوحيرد والجزائر:
جميلة، صديقتي جميلة، تحية إليكِ حيث أنتِ
تحية إليك يا جميلة، من ضيعتي أغنية جميلة
وخلف بيتي لوزة تزهر وقمر أخضر
وموجة رمليّة من شطّنا تبحر
تحية إليك يا جميلة يا وردة الجزائر الجميلة.