“يوم الشهيد” بحجم “السيد” ومساحة الوطن

في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1982 نفّذ الاستشهادي أحمد قصير أول عملية استشهادية دمّرت مقرّ الحاكم العسكري للاحتلال الإسرائيلي في مدينة صور جنوبي لبنان، قُتِلَ فيها 150 ضابطاً وجندياً للعدو الذي اعتبرها "كارثة صور الأولى" أما المقاومة فحوَّلتها إلى "يوم الشهيد" السنوي.

هكذا بات “أحمد” إبن الثامنة عشرة، الآتي من بلدة دير قانون النهر في قضاء صور، فاتح عهد الاستشهاديين اللبنانيين، الذين أكملوا مع سائر الشهداء تحرير لبنان من براثن الاحتلال الإسرائيلي.

جاءت عملية صور بعد خمسة أشهر وأسبوع على الإجتياح الإسرائيلي للبنان، وسقوط عشرات آلاف الشهداء والجرحى، عدا آلاف المعتقلين، فيما بقي جسد أحمد “مفقود الأثر”، وبقي اسمه مجهولاً، كالجهة التي نفذت العملية، حتى 19 أيار/مايو 1985 عندما أعلنه سيد شهداء الأمة السيد حسن نصرالله خلال احتفال في دير قانون النهر بذكرى شهدائها.

اليوم، يحلّ “يوم الشهيد” الـ42، مختلفاً عما سبقه في كل عام. هذا أول يوم شهيد بدون “السيد” ، فلا احتفال ولا خطيب ولا خطاب، لكن في كل خطاب له منهل فكرٍ ومنهاج حياة بحجم “السيد”. سيكون أول “يوم شهيد” ، “السيد” فيه هو الشهيد، يعني “سيد الأيام”، هذا يجعله “يوم السيد” بامتياز، أليس الشهداء سادة قافلة الوجود؟ إذن “السيد” هو سيد هذه القافلة، قافلة الشهداء. “السيد” عاش وارتقى استشهادياً في المكان والزمان المناسبين؛ هو سيد قافلة الجهاديين لأنه كان واحداً منهم يجاهد ويجود بنفسه مُدركاً غايته، مُحدداً هدفه، طالباً شهادته. أليست الشهادة “هي الموت الواعي من أجل تحقيق الهدف المقدس”، كما رآها المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر؟

بهذا يقود “السيد” في “يوم الشهيد” ركباً كربلائياً من أصحاب الأرض، على طريق القدس لتحقيق هدفٍ مقدّس، يلجون على نهج البلاغة باب الجهاد كونه “باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه”، كما في توصيف الإمام علي يقاومون العدو، يدفعون العدوان، يستشهدون، يُثمرون بالمئات على شجرة الشهادة طوال عام ونيف ولا يزالون يتقدمون للميدان واحداً تلو واحد، زرافات ووحداناً، بصبرٍ وبصيرة، يبلغون ذروة جهادهم والاستشهاد لبلوغ العشق الالهي في “يوم الشهيد”، إذ تُمسي المناسبة عرس شهادةٍ جماعياً “فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر”.

ومن ينتظر تتسع له جغرافيا الوطن فلا يعود الانتظار محصوراً ببقعة الحدود، بل يمتد بتمدد العدوان الى معظم مساحات الوطن، حيث ينال مظلومية الاستشهاد مواطنون مدنيون من شباب ونساء وأطفال، – لكن “فرعون قتل كل الأطفال كي لا يأتي موسى وفي النهاية رباه في بيته”- ونحن إذ نريد طرد فرعون صهيون من أرضنا، فلا عجب أن يتساوى في الشهادة المقاوم والمواطن، ألم يقل محمد رسول الله: “من قُتلَ دون أرضه أو دون مظلمته فهو شهيد”؟ ولهذا يتجول “يوم الشهيد” في ربوع الوطن المتروك عربياً وإسلامياً ودولياً، فيتنقل مع أُسَرٍ وعوائل بأكملها، تنال شرف الإنضمام إلى القافلة، قافلة شهداء المقاومة، مقاومة الوطن كله وحاميته كما يُفترض أن تُرى.

لولا “يوم الشهيد” ودماء الشهداء وأشلاء أحمد قصير ومن تلاه، لكان الاحتلال ما يزال جاثماً على صدور اللبنانيين، ولولا المقاومين على الحدود ومن استشهد منهم حتى اليوم، لكان العدو الإسرائيلي الآن في بيروت وما بعد بيروت كما كان عام 1982، ومن لا يُصدّق لا بدّ أنه سمعَ عشية الأحد بقرار العدو “توسيع المناورة البرية في لبنان”

المقاومة التي قدمت الآلاف من أابنائها منذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 حتى انسحابه الى الشريط الحدودي عام 2000، وقدّمت بعد التحرير الآلاف في مواجهة عدوان تموز 2006 ، وفي حرب “الدفاع المقدس” عن لبنان ضد التكفيريين التي بدأت عام 2011، واليوم فاق عدد الشهداء والجرحى من المقاومين والمدنيين، بحسب وزارة الصحة اللبنانية، حتى تاريخ كتابة هذا المقال 3 آلاف شهيد و14 ألف جريح منذ “طوفان الأقصى” إلى اليوم، ولا يزال النزيف مستمراً، أفلا يستحق ذلك كله وهذا الشلال من الدم يوماً وطنياً جامعاً شاملاً؟ أم أن وظيفة الشهيد أن يموت ليحيا غيره، ويكونوا مجرد شهود زورٍ على موته ليس إلا، بدل أن يتحول كل مواطن إلى شاهدٍ على قضيته التي قضى من أجلها وأجله؟

كل شهيد هو لبناني، مقاوماً كان أم مدنياً، وكل مدني شهيد هو مقاوم أيضاً، هم من يمنحون غيرهم شهادة في الوطنية، ولكل شهيد منهم أهل، أم، أب، زوجة، زوج، أبناء، أقارب، سيكملون حياتهم بدونه، بدونهم، أي بدون العائلات التي قضت بأكملها، فالقتل الجماعي لهذا العدو هو عادة، وشهداء الوطن، مقاومون ومدنيون، هم السادة، هم أحيوا “يوم الشهيد” بدمائهم، فهل ثمة من يحييه غيرهم بإحياء ذكراهم؟ أم يبقى لكل طائفة شهيدها وشهداؤها، كما لكل منها كتاب تاريخها المدرسي فلا تقرأ أجيالها في كتاب تاريخ واحد بغياب الكتاب الوطني؟

مكمن الجواب في حيثيات المرحلة وما بعدها، بين الشهداء المقاومين والمدنيين أساتذة مدارس وخريجو جامعات، سيفتقدهم طلابهم وزملاؤهم بعد العدوان، وللشهداء كلهم بيوت وقرى ومناطق ستكون خالية منهم، وللشهداء جميعهم مناسبات ستفتقدهم، هم”هنيئاً لهم” ولكن ماذا عن إخوانهم في الوطن والمواطنية؟ هل يتفقون على يوم شهيد وطني يُخلّد تضحياتهم؟ هل ينتقمون لهم ولا يتركون مُسيّرات العدو تقتلهم على البطيء بما ترسله من موجات قاتلة لهم وعليهم فوق عاصمتهم؟ هل يدركون ما سيدفعون من أجيالهم نتيجة اليورانيوم الذي تحمله قنابل العدو الملقاة على إخوانهم؟ هل يتوحدون على مواجهة عدوان يتهدد وجودهم كلهم؟ هل يتحدون في مقاومة وطنية شاملة تدحره وتمنعه من تدنيس أرضهم؟

إقرأ على موقع 180  سيناريو الإنقاذ اللبناني..

لولا “يوم الشهيد” ودماء الشهداء وأشلاء أحمد قصير ومن تلاه، لكان الاحتلال ما يزال جاثماً على صدور اللبنانيين في أرجاء الوطن اللبناني وربما العربي، ولولا المقاومين على الحدود ومن استشهد منهم حتى اليوم، لكان العدو الإسرائيلي الآن في بيروت وما بعد بيروت كما كان عام 1982، ومن لا يُصدّق لا بدّ أنه سمعَ عشية الأحد بقرار العدو الإسرائيلي “توسيع المناورة البرية في لبنان”. فمن يوقفه ويوقف توسعه ويكسر أقدامه ويجهض مشروعه غير الشهداء الأحياء وكلّ واحدٍ منهم مشروع شهيد؟

جاء في “لسان العرب” أن الشهيد في اللغة “من أسماء الله، وهو الحاضر، وهو الحيّ، وبهذا يكون معنى الشهيد: صفة تفيد الحضور والعلم والحياة”.

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ترامب ومدفعية الإعلام المعولم الثقيلة