اليوم، يعيد دونالد ترامب الكرة لملعب الصحفيين والخبراء الاستراتيجيين فيما ينوى فعله ويتفوه به ويسبب زلازل فى الكثير من الدول من حوله. ترشح الرئيس المنتخب ترامب لفترة حكم ثانية، وفاز باكتساح، متعهدا بعزل بلاده عن الصراعات الخارجية مثل حرب أوكرانيا، صراع الشرق الأوسط، وتعهد بفرض تعريفات جمركية على شركاء التجارة الخارجية لواشنطن تبلغ 25%. إلا أن ترامب اقترح فى الأيام الأخيرة نهجا أكثر عدوانية لسياسته الخارجية؛ عندما عبّر عن رغبات وخطط كبيرة لجعل أمريكا أكبر مساحة عن طريق إضافة ملايين الكيلومترات المربعة إلى مساحتها البالغة حاليا 9.8 مليون كيلومتر مربع.
قبل أيام غرد ترامب على منصتى “إكس” و”تروث سوشيال”، مكررا رغبته فى الاستحواذ على جزيرة جرينلاند التابعة لدولة الدنمارك، وتبلغ مساحتها 2.1 مليون كيلو متر مربع، أى ما يزيد عن ضعف مساحة الجمهورية المصرية، إضافة للسيطرة على قناة بنما، وضم كندا التى تبلغ مساحتها ما يقرب من 10 ملايين كيلومتر مربع، وربما غزو المكسيك. وأثار ذلك الكثير من الذعر بين مواطنى ومسئولى هذه الدول الحليفة للولايات المتحدة، والمجاورة لها فى حالة كندا والمكسيك، وإلى حد ما بنما.
لم يعد الرأى العام فى هذه الدول يعرف إذا ما كان ترامب يمزح ويتسلى فقط، أم أنه يختبر ردود أفعالهم تجاه عما يدور بالفعل فى عقله الباطن، وبين أن يكون ترامب ساعيا فقط لترهيب هذه الدول من أجل تغيير سياساتها ومواقفها لتصبح أكثر خدمة لمصالح الولايات المتحدة.
***
لا تعد فكرة شراء جرينلاند مزحة، ولا كذلك فكرة ضم كندا وقناة بنما للسيادة الأمريكية، إذ يراها الكثير من الخبراء ذات معنى استراتيجى واقتصادى كبير. ولم يوضح ترامب كيف له أن يحقق ما يريد دون الحاجة إلى القيام بعمليات غزو عسكرى
أعلن ترامب كذلك أن الولايات المتحدة «ستطالب بإعادة قناة بنما إلينا» إذا لم يتم تخفيض رسوم السفن الأمريكية لعبور الممر المائى – الذى أعادته الولايات المتحدة إلى السيطرة البنمية ابتداء من عام 1977 أثناء حكم الرئيس الأمريكى السابق جيمس كارتر.
ردا على ما سبق، أعلن رئيس بنما، خوسيه راؤول مولينو، فى خطاب متلفز أن بنما لن تسلم مترا مربعا واحدا من القناة، ورد ترامب على منصة تروث سوشيال بالقول «سنرى ذلك!»، ثم تبع ترامب ذلك بنشر صورة لعلم أمريكى يرفرف فوق القناة، معلقا: «مرحبا بكم فى قناة الولايات المتحدة»!
كما استشهد ترامب بـ«الصين»، التى تهيمن بشكل متزايد على التجارة مع دول أمريكا الوسطى والجنوبية، كسبب للسيطرة على القناة.
يناقش بعض حلفاء ترامب اليمينيين ما يرونه «غزوا ناعما» محتملا للمكسيك، وذلك لاستهداف العصابات المسلحة التى تغرق السوق الأمريكية بالمخدرات والمهاجرين، من خلال عمليات القوات الخاصة عبر الحدود أو ضربات الطائرات بدون طيار.
ووصفت الرئيسة المكسيكية، كلوديا شينباوم، هذه الفكرة بأنها «فيلم بالكامل»، وقالت: «بالطبع نحن لا نتفق مع غزو أو وجود أى قوات أمريكية من هذا النوع فى بلدنا».
وعاد ترامب، قبل يومين، ليكرر مطالبه بصورة مباشرة. وقال ترامب «عيد ميلاد سعيد للجميع، بما فى ذلك لجنود الصين الرائعين، الذين يديرون قناة بنما بجدية، ولكن بشكل غير قانونى، (حيث فقدنا 38000 شخص فى بنائها قبل 110 سنوات). وأضاف ترامب «إلى حاكم كندا جاستن ترودو، الذى يفرض ضرائب مرتفعة للغاية على مواطنيه، ولكن إذا أصبحت كندا ولايتنا رقم 51، ستخفض ضرائبها بأكثر من 60٪، وستتضاعف أعمالهم على الفور فى الحجم، وسيتم حمايتهم عسكريا مثل أى ولاية أميركية أخرى، وبالمثل، إلى شعب جرينلاند، الذى تحتاجها الولايات المتحدة لأغراض الأمن القومى، والذين يريدون أن تكون الولايات المتحدة هناك، سنفعل ذلك».
تعد جزيرة جرينلاند ذات مخزون هائل غير مستكشف من الموارد الطبيعية، بما فى ذلك الزنك والرصاص والذهب وخام الحديد والماس والنحاس واليورانيوم، والتى لم تكن الدنمارك قادرة أو غير راغبة فى استغلالها. كما أن لديها احتياطات كبيرة غير مستغلة من المعادن الأرضية النادرة مثل البراسيوديميوم أو الديسبروسيوم، والتى تعتبر ضرورية لإنتاج كل شىء من السيارات الكهربائية إلى الهواتف الذكية والليزر.
تنبئ اختيارات ترامب لفريق الأمن القومى والدفاع والاستخبارات بأن ما يفكر فيه ترامب قد لا يقتصر على حدود السخرية والكوميديا، والاستهزاء بالآخرين، بل قد نكون نحن على مقربة من بدء خطوات تشكيل إمبريالية أمريكية ترامبية معاصرة
فى الواقع سيكون شراء جرينلاند متماشيا مع تاريخ أمريكى طويل من الاستيلاء على الأراضى. فى عام 1803، اشترى الرئيس توماس جيفرسون إقليم لويزيانا من فرنسا. فى عام 1819، اشترى الرئيس جيمس مونرو فلوريدا من إسبانيا. فى عام 1854، اشترى الرئيس فرانكلين بيرس جزءا من نيو مكسيكو وأريزونا من المكسيك. فى عام 1867، اشترى الرئيس أندرو جونسون ألاسكا من روسيا. فى عام 1898، اشترى الرئيس ويليام ماكينلى الفلبين من إسبانيا. وفى عام 1903 استأجر الرئيس ثيودور روزفلت منطقة قناة بنما من بنما وخليج جوانتانامو من كوبا. ويسخر ترامب بالقول إذا لم تبع الدنمارك جرينلاند، فربما يمكننا استئجارها!
***
لا يتبع ترامب أى مبدأ فى السياسة الخارجية، ولا تقيده أى أيديولوجية، فهو رئيس حر، مستقل، لا تحكمه القيود الحزبية أو السياسية التقليدية أو حتى القيود الانتخابية. وعليه يخرج من ترامب أقوال غريبة ومنفعلة ومثيرة ومربكة فى الوقت ذاته، يتصرف ترامب أحيانا طبقا لما يقوله، ويتجاهل فى أحيان أخرى ما سبق وكرره.
ولا تعد فكرة شراء جرينلاند مزحة، ولا كذلك فكرة ضم كندا وقناة بنما للسيادة الأمريكية، إذ يراها الكثير من الخبراء ذات معنى استراتيجى واقتصادى كبير. ولم يوضح ترامب كيف له أن يحقق ما يريد دون الحاجة إلى القيام بعمليات غزو عسكرى. وعلى الرغم من سخافة بعض دعوات ترامب وعدم جديتها، إلا أنه لا يمكن تجاهلها تماما. وتنبئ اختيارات ترامب لفريق الأمن القومى والدفاع والاستخبارات بأن ما يفكر فيه ترامب قد لا يقتصر على حدود السخرية والكوميديا، والاستهزاء بالآخرين، بل قد نكون نحن على مقربة من بدء خطوات تشكيل إمبريالية أمريكية ترامبية معاصرة لم يتخيلها حتى صناع أفلام هوليوود فى أوج أحلامهم.
(*) بالتزامن مع “الشروق“