“بابا المفاجآت” ولبنان: هل يستقيل البطريرك الراعي؟

مع انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ومن ثم تكليف القاضي نوّاف سلام بمهمة تأليف الحكومة الأولى للعهد الرئاسي الجديد، تنبري ملفات هي بحكم المتصلة والمنفصلة، ولعل أبرزها ما يتعلق بالبطريركية المارونية اللبنانية.

ثمة نقاشات واسعة بين بيروت وروما حول احتمال استقالة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي (84 سنة) من منصبه وذلك بعد أن شغل هذا المنصب طوال 14 عاماً. هذه المناخات تُثير العديد من الأسئلة حول ضغوط يبذلها الكرسي الرسولي في هذا الاتجاه، فضلا عن سياق المواقف التي تطبع دور البطريرك الراعي لبنانيًا ودوليًا. يمكننا استقراء تلك التطورات في إطار العلاقات المعقدة بين الكنيسة المارونية وحاضرة الفاتيكان، خصوصاً في ظل الظروف السياسية الجديدة التي يعيشها لبنان والمنطقة.

فالبطريرك الراعي، الذي يُعتبر من أبرز الشخصيات الكنسية في لبنان، يُواجه تحديات كبيرة لا تتعلق فقط بوضع المسيحيين في لبنان، بل أيضًا بالوضع العام للمسيحيين في الشرق، كونه “بطريرك انطاكيا وسائر المشرق”، وثمة ضغوط متزايدة على الكنيسة المارونية لتقديم حلول تساهم في الحفاظ على الحضور المسيحي في المنطقة. في ظل هذه الضغوط، يواجه البطريرك الراعي انتقادات شديدة من الكرسي الرسولي ومن داخل الكنيسة ومن بعض الدوائر السياسية اللبنانية، ما أعاد إلى الواجهة الهمس بشأن استقالته المحتملة.

لكن البطريرك الراعي لا ينظر إلى الاستقالة بوصفها “الحل المناسب”. وقد أصرّ على عدم الاستقالة، استناداً إلى أن الكنيسة الشرقية، بما في ذلك الكنيسة المارونية، تخضع لقوانين خاصة تضمن استقلالها وتنظيم العلاقة بينها وبين الكرسي الرسولي في الفاتيكان. ففي حال كان الأمر يتعلق باستقالة أحد بطاركة الشرق، لا يمكن لأي جهة أن تفرض الاستقالة عليه. وهذا ما يعكس التوترات المتزايدة بين البطريرك الراعي وحاضرة الفاتيكان في السنوات الأخيرة.

برغم الضغوط، يبقى البابا فرنسيس صاحب القرار الأخير في البت بملف بطريرك أنطاكية وسائر المشرق في الوقت الذي يراه مناسباً، لا سيما في ضوء التطورات الأخيرة التي شهدها لبنان، وأبرزها انتخاب رئيس جديد للبلاد أحدث صدمة إيجابية في الشارع. لكن المرجح أننا أمام مسألة سياسية ودينية معقدة، وهو ما يجعل من الصعب التنبؤ بتطوراتها في المستقبل القريب

من جهة أخرى، تبرز في السياق ذاته قضية البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير، الذي كان قد استجاب لطلب البابا بنديكتوس السادس عشر بالتنحي في العام 2011. ذلك كان قرارًا كنسيًا وفاتيكانيًا بحتًا، حيث كان الهدف من الاستقالة إتاحة المجال لبطريرك جديد قادر على التجسير بين اللبنانيين.

وقد تميّزت فترة البابا بنديكتوس السادس عشر بتعامل دبلوماسي مع القضايا الكنسية والسياسية. لكن هذا التوجه اختلف مع خلفه البابا فرنسيس، الذي يأتي من خلفية يسوعية ويُظهر توجها أكثر قسوة في تعاطيه مع قضايا الكنيسة. البابا فرنسيس لجأ إلى أسلوب مباشر في تصريحاته وفي إدارته للكنيسة، وهو ما أصبح أكثر وضوحاً في مسألة العلاقة بين الفاتيكان والكنيسة المارونية في لبنان. فالبابا فرنسيس، الذي لا يتردد في اتخاذ قرارات حاسمة، قد تكون له رؤيته الخاصة تجاه البطريرك الراعي، ويظهر ذلك جلياً في بعض الإجراءات التي اتخذت مؤخراً.

ومن أبرز هذه الإجراءات هو القرار الذي اتخذته حاضرة الفاتيكان الصيف الماضي عندما نشرت لائحة بكامل الكاردينالات والأساقفة المدعوين لحضور أعمال السينودس، والتي لم تتضمن اسم البطريرك الراعي، في حين ضمّت أسماء بطاركة آخرين من الشرق. هذا الحدث كان بمثابة صدمة للبطريرك الراعي، الذي شعر بالتهميش على الساحة الكنسية الدولية. الأشد وقعاً أن هذا السينودس كان يهدف إلى إدخال إصلاحات جوهرية في بنية الكنيسة، ما أثار قلق العديد من المسؤولين اللبنانيين، الذين اعتبروا أن هذا التهميش يُحمّل رسالة سياسية ودينية بالغة الأهمية.

إضافة إلى ذلك، كان لقاء البطريرك الراعي مع البابا فرنسيس في تشرين الأول/أكتوبر 2024، بعيداً عن الأضواء، وذلك على هامش الاحتفال باعلان قداسة الأخوة الثلاثة من آل مساكبي شهداء علمانيين، وشكّل ذلك نقطة فارقة في العلاقة بين الكنيسة المارونية والفاتيكان. في هذا اللقاء، تسلّم البطريرك الراعي رسالة من البابا فرنسيس تتعلق بمستقبل الكنيسة في لبنان والمنطقة. وقد شهد هذا الاحتفال تصريحات قاسية من قبل الكاردينال بيترو بارولين، أمين سر حاضرة الفاتيكان، حيث وجّه انتقادات حادة للوضعين الكنسي والمسيحي في لبنان، بخاصة في ما يتعلق بموقف الكنيسة المارونية من الحرب الإسرائيلية على لبنان، وذلك خلال لقاءات سريعة عقدتها معه شخصيات لبنانية على هامش الاحتفال.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن البابا فرنسيس كان قد رفض دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لزيارة فرنسا في كانون الأول/ديسمبر 2024 لافتتاح كاتدرائية نوتردام، وهو ما فاجأ العديد من الدوائر الدبلوماسية. وقد قوبل هذا الرفض بقلق في الأوساط الفرنسية، ما يعكس عمق التوترات التي قد تكون مخفية خلف القرارات التي يتخذها البابا في هذا المجال، بينما بعدها بأسبوع زار الأخير جزيرة كورسيكا الفرنسية ـ وهي أول زيارة بابوية لها ـ ومن هناك وجّه رسائل مهمة لها علاقة بمرجعية الشعب.

إقرأ على موقع 180  الدولة ووظائفها المُصادرة.. "فدرال بنك" نموذجاً!

إجمالاً، يبقى مصير البطريرك الراعي غامضاً في ظل هذه المعطيات المتشابكة. وبرغم الضغوط، يبقى البابا فرنسيس صاحب القرار الأخير في البت بملف بطريرك أنطاكية وسائر المشرق في الوقت الذي يراه مناسباً، لا سيما في ضوء التطورات الأخيرة التي شهدها لبنان، وأبرزها انتخاب رئيس جديد للبلاد أحدث صدمة إيجابية في الشارع اللبناني. لكن المرجح أننا أمام مسألة سياسية ودينية معقدة، تتداخل فيها المصالح اللبنانية والإقليمية والدولية، وهو ما يجعل من الصعب التنبؤ بتطوراتها في المستقبل القريب.

من هذه الزاوية، يصح القول في البابا فرنسيس بأنه “بابا المفاجآت”.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عن الصحافة النجومية.. بلا "هياكلها"!