المنطقة الواقعة بين حدّي الجغرافيا والمصالح تُغطي قلب العالم؛ من جبال هندكوش شرقاً إلى بحر الظلمات غرباً، بلادٌ وشعوبٌ تشهدُ صراعاً أبدياً لمّا ينته بعد، لم تعرف بقعة في الأرض مثيلاً له إنْ في الاستدامة أو في الحدّة والعنف.
لن نتحدث كثيراً عن الأسباب فهي بمجملها أصبحت معروفة، وليس عن القوى المشاركة فيها، هي، بدورها، معلنة أيضاً. الكلام يجب أن يستوي على الوضوح والحقيقة كي يسهل الحكم أو الموقف؛ العدو الصهيوني، الذي حلّ وافداً إلى منطقة – عاصرت كل طغاة العصور القادمين إليها ومن جهاتها الأربع – كان المفتاح الذي انتجته تلك الإمبرياليات الغربية لتزرعه غصباً في أرض مقتطعة عنوة من تاريخها وناسها وعاداتها وامتداداتها ولغتها ومستقبلها.. لتُسلّم للمستجلبين من كل البقاع والمنابت. هذا القادم كان نتاج حرب العالم الأولى؛ تخلّصت أوروبا ودول عديدة من “جماعات” لقاء المال، لترسلهم إلى منطقة أرادها الغرب الاستعماري متنفساً لأزماته المرتبطة بحروبه وبمشاكله الاقتصادية والاجتماعية، ومكاناً لتجريب مشاريعه الاستعمارية وموقعاً متقدماً لها في المنطقة كنموذج للتعميم.
لبنان، الواقع على التخوم والمحاذي للحدود والشريك في الدم والمآسي والحروب والقتال والتدمير والعدوان.. هو الذي خاض مبكراً مسيرة الدم فأعطى ما يمكن أن يُقدّمه. لم يسكت على الضيم اللاحق بفلسطين فلبى نداء المقاومة. لقد دفع ثمن الجغرافيا المتاخمة فحوّلها إلى فرصة حقيقية لمعركة التحرير الوطني
طبيعة الاشتباك
إن ما يجري اليوم في منطقة الشرق “المدمّى” منذ ذلك التاريخ يُخبرنا عملياً بأهداف هذا العدوان المتواصل والمستمر، الذي لا يكلّ أو يمَلّ. لكن، وفي نظرة سريعة نرى بأن القتال مستعرٌ اليوم على ثلاث جبهات متجاورة بكل شيء: فلسطين، لبنان وسوريا، وهذه ليست مصادفة: الجامع مشترك: الجغرافيا والمقاومة والدور والوظيفة.
ومنذ أن وُجدَ الكيان الصهيوني وحتى يومنا هذا، تخوض شعوب المنطقة معركتيّها المزدوجتين: التحرر والتحرير، والمفارقة هي أن العدو واحدٌ. لم تنجح قوى التحرر الوطني – والتي كانت بالمناسبة قوى متنوعة – من إنضاج مشروعها المستقل القائم على مسألتي التحرر من التبعية، الملقاة على الشعوب بفضل النظم السياسية التي تحكّمت بمصائر الدول وشعوبها، وكسر الهيمنة الوافدة بقوة السلاح والسيطرة والتي رعتها الولايات المتحدة الأميركية بواسطة أدواتها المتعددة والكيان الصهيوني.
وعليه، تحدّدت الطبيعة “الصراعية” وفُرزت قواها، لكن، غاب المشروع الشامل للمقاومة أو المواجهة من جهة، واستُكمل بنفض اليد من العمل الجاد على بناء الدول الوطنية القادرة في كل المجالات من جهة ثانية. لقد كان السبب بوجهين: خارجي، أي قبل دول الاستعمار العالمي، وداخلي من عجز الشعوب عن إنضاج قواها المحلية أو حماية خياراتها السياسية، فوقعت في فخ التعطيل ونظرية المؤامرة – الموجودة من دون شك – لكن كان يُمكن التخفيف منها لو كانت الأنظمة أوضح في خياراتها. وعليه، فإن شعوبنا قد وقعت مجدداً في فخ “الالتباس” بالولاءات، أو حتى الخيارات: فبدل أن ينقسم الرأي العام حول القضايا والأهداف، كانت القسمة تدور حول مَن مع السلطة الحاكمة ومَن ضدها؟
ساحات الاشتباك
هي ساحات وجغرافيا تقع في قلب العالم، ممسكة بممرات وتقاطعات وخيرات ومزايا.. تجعل منها وجهة الطامعين ممراً لهم ومستقراً. فلسطين، هي ساحة الاشتباك الأولى والأساس؛ لقد ضاقت مساحتها حدّ الاختناق وبكل المقاييس. لقد أكملت مئويتها الأولى مع ما يزيد من الأعوام، منذ الوعد المشؤوم. وهي اليوم تُكمل ثلاثة أرباع القرن ونيف من قيام الكيان الصهيوني على أراضيها. وقعت في ازدواجية “موجبات المقاومة وتحديات النظم”، فسقطت في فخ الأنظمة المتنوعة، المرتبط منها بالتمويل أو التسليح أو الإيواء، فضاعت الاتجاهات والتبست، فأضحت طرق التحرير تمر في الكثير من العواصم العربية والبلدان.
اليوم، ضاقت ساحات فلسطين حدّ “القطاع” الذي ما عادت أرضه تتسع للذين يجوبون سطحه ذهاباً وإياباً، وباطنه ما عاد يجد مكاناً فارغاً لدفن الشهداء. أما الضفة المحاصرة بين نارين، من ذوي القربى والعدو، فمعركتها الحالية، متواصلة منذ “طوفان الأقصى” ولم تهدأ ولم تستقر: كلُّ أبنائها هم شهداء؛ تواجه الحصار والصمت ونُكران ذوي القربى وتآمرهم.. تواجه وتحاور بالنار.. وعدّادُ الشهداء في تصاعد.
لبنان، الواقع على التخوم والمحاذي للحدود والشريك في الدم والمآسي والحروب والقتال والتدمير والعدوان.. هو الذي خاض مبكراً مسيرة الدم فأعطى ما يمكن أن يُقدّمه. لم يسكت على الضيم اللاحق بفلسطين فلبى نداء المقاومة. لقد دفع ثمن الجغرافيا المتاخمة فحوّلها إلى فرصة حقيقية لمعركة التحرير الوطني. خَبِر العدوان وتعايش معه ومن موقع الندّ؛ دافع وقاتل وقدّم الشهداء والجرحى والأسرى.. ما وقفت حدود أمام مساهماته، والتي شارك معظم بنيه في تحمّل وزرها. احتُّلت عاصمته ونصف أراضيه، فلم ينتظر اتفاقات الاذعان، من كامب دافيد إلى 17 أيار فوادي عربة وأوسلو.. أسقط مفاعيلها بالمقاومة وتحّمل وزرها. ساند فلسطين ودافع عنها، واجه الحصار والتآمر والكذب.. لكن عيون اللبنانيين قاومت مخارز العدو بكل مستوياته ولغاته وأشكاله وألوانه.
سوريا، الواقعة على الحدود مع كل الجبهات، كانت الممر الطبيعي لكل الامدادات الضرورية للمقاومة، شرقاً نحو العراق، وغرباً نحو لبنان واستكمالاً صوب فلسطين؛ لقد دفعت ثمن “لاءاتها” للأميركيين مع بداية حروبهم في المنطقة، وبالتحديد في عراق ما بعد غزو العام 2003، حين أصبحت أرضها قاعدة وإقامة للمقاومة العراقية واسناداً لها. كما دفعت فاتورة إيواء المنظمات الفلسطينية المقاوِمة بكل تنوعاتها. صحيحٌ أنها هادنت في كثير من الأحيان حماية لمصالحها ومصالح نظامها وخدمة لمشاريع غربية في المنطقة، لقاء غض نظر ونفوذ كانت في غنى عنه، وكانت تدفع فواتير الدعم والحصار من كيس معيشة الشعب السوري – والذي بمعظمه كان حامياً لخيارات المقاومة في المنطقة، هو الشعب الذي واجه مفاعيل سايكس بيكو فيما يتعلق بطبيعة تركيبة الدولة السورية، فأسقطها مع مشاريعها التقسيمية على أساس مذهبي – فأفقرته لمصلحة مافيات من أصحاب الحظوة والتغطية الرسمية. ها هو المشروع نفسه يُطلُ من جديد على سوريا بعد سقوط النظام فيها؛ ستعيش سوريا فترة من عدم الاستقرار، ولكن الأهم هو وجود قلق جدّي من تقسيمها، حيث ستتناتش تركيا والعدو الإسرائيلي أراضٍ ومناطق سوريّة بحجة تأمين الحماية فتتقلص المساحة الجغرافية لسوريا بموافقة دولية.
المنطقة لن تجد الاستقرار ولا الهدوء ولا الثبات إلّا بإعادة رسم المشهد السياسي في بلدانها بطريقة تستجيب لتطلعات شعوبها وما يريدون. ربما الأمل ضعيف، لأن المشهد كثير القتامة: سوريا وقعت بين فكّي حالة من عدم اليقين والدور المطلوب. لبنان الخارج من حروبه الصغيرة والكبيرة مُدَمّى. فلسطين تعيش على حلم بات بأحلام كثيرة
البديل المفقود المطلوب
إن التمسك بخيار المواجهة مع الاحتلال على اختلافه، والانحياز لمصالح الشعوب، كفيلٌ بولادة مقاومة عربية شاملة تقوم على مشاريع مزدوجة: يتحدّى التدخل الخارجي ويستجيب لمتطلبات الشعوب. تمر المنطقة اليوم في مرحلة تأسيسية جديدة؛ سقطت أنظمة وقامت أخرى. تغوّل المشروع الغربي بملحقاته الإقليمية ويجهد لحصد إخفاقات نظم المنطقة. العين اليوم على اتفاقية سايكس بيكو، ليس لأهميتها بل لأن ما جرى قد تجاوزها، إن بالأهداف أو بالنتائج. لقد قسّمت وفق مصالح ولخدمة مشاريع. اليوم يُعاد التركيب أيضاً لخدمة مصالح ومشاريع. الكيان الصهيوني هو الشرطيّ البائن في المنطقة: يحظى بالمباركة والدعم والتغاضي عن كل ما يرتكب من مجازر بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني وبقية شعوب المنطقة. الإرهاب التكفيري حكم دولاً بمباركة الغرب الداعم له، والذي، منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001 وهو يُنكّل بكل شعوب العالم ودولها بالغزو والحصار والعقوبات بحجة محاربة من يحميه اليوم ويدعم مشاريعهم ويرعى مصالحهم.
هي سردية مستمرة منذ قرن ونيّف تعيش بيننا في منطقة لن تجد الاستقرار ولا الهدوء ولا الثبات إلّا بإعادة رسم المشهد السياسي في بلدانها بطريقة تستجيب لتطلعات شعوبها وما يريدون. ربما الأمل ضعيف، لأن المشهد كثير القتامة: سوريا وقعت بين فكّي حالة من عدم اليقين والدور المطلوب. لبنان الخارج من حروبه الصغيرة والكبيرة مُدَمّى. فلسطين تعيش على حلم بات بأحلام كثيرة.
ثلاثُ ساحات محكومة اليوم بزنار من النار، يحرقها ويُغيّر طبيعتها. لن تقوى سوريا على الصمود بين خيارات متناقضة؛ بين الأميركي والتركي والروسي والإيراني؛ بين متطلبات الحداثة وموجبات التطرف القادم من منابع متعددة. ابتلاها نظام راحل بمورثات أصبحت بنيوية، وسيبتليها القادم بوصفة مهجنة بين الحداثة والقرون الوسطى وإن كانت بربطة عنق، المجهول الهوية الواحدة والمرتبط بأسلاك خارجية متعددة: الأميركي والتركي وغيرهم الكثير.. وفلسطين التي طوى “طوفانها” ما تبقى من جغرافيتها؛ واقعة بين حدّين، سلطة ليس لها أية سلطة ومقاومة عينها على بعض من تلك السلطة، والعين اليوم ستنظر إلى خارجها، فلأي مكان سيُعاد ترحيل أهل الضفة؟ الجواب لن يكون صعباً هو ممر صغير وسيصبح الأردن البديل الذي لطالما كان يُردّد هذا الكلام في أروقة القرار السياسي الصهيوني. أما لبنان، فأصبح واقعاً بين نار التغول الإسرائيلي جنوباً من جهة وقلق حدوده الشرقية والشمالية المشرعة على المجهول من جهة ثانية.
هي ليست أحجية بل قراءة في واقع أصبح معلوماً، وهذا ما يجب التنبّه إليه. هي ليست دعوة إلى التسليم بذلك، بل للجهوزية لأخذ الموقف الصحيح. للتدليل ولتسهيل الأمر وتنشيط الذاكرة: في أيلول/سبتمبر 1982 كانت قوات الاحتلال الاسرائيلي قد دخلت بيروت واحتلتها؛ لم يرش عليها أحد الزهور أو استُقبلت بالهتافات، وإن سارع البعض إلى الاستفادة من ذلك لإعادة تكوين السلطة في لبنان ربطاً بهذا المستجد. لكن، وفي المقابل، ثمة من كان له رأيٌ آخرٌ: مقاومون ثلاثة، أطلقوا رصاصات واضحة الاتجاه، أرّخت لبداية صنعت تاريخاً جديداً في منطقتنا.. ولمّا تزل.