قلْ وداعاً أيها الإنسان

إلى أين؟ الجواب جاهز ومبرر: "إلى المزيد من الكوارث" عالم يتناسل تشوهاً. يتساقط. مخاضٌ صعبٌ ينجبُ موتاً للإنسان. مشقة تفكير عدمي صارم. كم هائل من التشاؤم. فظاعات إجرامية. حروب متناسلة، كأننا في نهاية التاريخ، أو في الانتقال إلى ما بعد الإنسانية. فريدريك نيتشه أنذر الإنسان بموت الروح ونهاية الإنسان، واحتمالات جنون الحضارات وثروة البدائل.

إلى أين؟

كأننا ماضون إلى ما بعد الإنسانية. استعادة أزمنة التوحش والافتراس. تأليه المال وتنصيبه الآمر الناهي. استعادة الإنسان صعبة. فظاعة الزمن الآتي وما بعد الآلة، أبادت ما تبقى للإنسان من أفق. خرافة القيم أصيبت بوباء الواقعية المفترسة. سيادة قوانين جديدة، أبرزها قانون السوق ومنطق الربح وفقه البورصات وتوحش السلطات. العالمية تعني القلة المزدانة بالرأسمال.. و انعدام العلاجات وامتناع الحلول، وتغييب الأخلاق، والسخرية من الإنسانية.

إلى أين؟

إلى عالم كالح جديد كلياً. الماضي مضى. اللجوء إليه خرافة ورجعية. الجديد هو في ما بعد كله. العلم يصير خادماً غير مخدوم. الرأسمال أقوى من الله ومن كل الآلهة والديانات.

الأخلاق وهم، ولا بد من طرد الأوهام. الأخلاقية الزاحفة راهناً تُقصي الأخلاق. المعارف في خدمة قطار الربح السريع. لا وقت للمساءلة. لا محطة انتظار إنسانية. لا لغة تتفوق على لغة الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وأخواتها في ما يُسمى “النيوميديا”.

المعرفة ليست هدفاً. صارت أداة من أدوات السوق، أو الأسواق الناشطة في تغذية الإنسان بالفحش اللاأخلاقي.

إلى أين؟

لعل الاستسلام هو الحل الوحيد. خيارٌ مأساويٌ ولكنه واقعيٌ جداً. التراث بضاعة عتيقة. الفكر مغامرة تنتهي بالعزلة. الأنسنة تنتهي بالرأسمالية. اللغة تؤول إلى تبني وسائل الإعلام ميزانيات تُنفق على الكذب والبهتان. الإعلام وسيلة احتلال. لن يخسر الإعلام راهناً. يصير المثقف معزولاً، والسياسي يتيماً، والمفكر مطلوباً للعدالة… الصواب ممنوع. الحقائق ليست من الوقائع، بل من دفتر الشيكات.

الإعلام راهناً، وسيلة فاجعة للسيطرة. لا بد من قتل الحقائق أولاً. تشويه السمعة، الاعتداء على المعارف، المشاريع السياسية، المحلية والدولية، بحاجة إلى ترسانات مهمتها، التغطية على كل المآسي.

أبلغ الفدائح، سيطرة المال على الديانات الرائجة. الأديان رأسمال لا ينفذ. كذلك الطوائف. الله لا يطبع العملة، ولا أصحاب التبشير. بل “تجار الهيكل” وصح ما قاله يسوع في التجار: “بيتي بيت صلاة يدعى وقد جعلتموه مغارة للصوص”.

هل قرأتم ذلك ذات يوم يا أولاد (…)؟

أين حرمة القيم ومكانة الأخلاق وعصمة المعارف ومشقة العمل وكتابة الكلمات وتأليف الكتب.. إلى آخره.

إنسَ.

المال أفسد الديانات كلها. ولن تعصى عليه الجامعات والمدارس والصحافة والفضاء الإعلامي المترامي الأطراف. إفساد الإعلام أولاً، لكسب المعركة في كافة الميادين. الرأسمال هو ربك وإلهك وحاكمك فإياك… الإعلام مدجج بالإمكانات المالية والمادية بهدف السيطرة والربح والسرقة وفرض مقولات مذهلة حتى يعلكها الناس، ظناً منها، أنها هدية العصر الرأسمالي.

الإعلام، راهناً، وفي أنحاء العالم، فرض نفسه إلهاً. من حقه أن يستخدم الإنسان، بأكاذيبه المصنوعة، لإشباع الجمهور بأكاذيب لها مقام النقاء والقبول والاتباع. ومعروف أن سموم الإعلام، تقنع وتشفي غليل الاقتناع بالكذب. وهي في المقابل، تشل عصب الإبداع وتقف حاجزاً واضحاً، في طريق العدالة والحق والمصلحة العامة.

الخبز اليومي الإعلام، هو إقناعك بوهم وخيال، لا حصة لك فيه.

أسئلة: أين الأخلاق؟ لا تسأل. أين العدالة؟ سد بوزك. أين الإنسانية؟ تجيبك الحياة أن الحيوانات أرقى في حضورهم من الشراسة المتمادية لعمالقة النهب والثروات… وليمت الناس جوعاً.. ولعل فضيحة شركات الدواء العالمية هي المثال الأبرز. أفدح الجرائم ترتكب عبر “اختراع أدوية”، لداء غير موجود…

نحن في جنازة الحياة، ونسير فيها ونحن نترحَّم على حالنا.

نقرأ في “رحلة بالداسار” لأمين معلوف ما يلي:

يروي قصة تاجر كتب يبحث عن كتاب يحدد فيه المؤلف موعد نهاية العالم. وينتظر لحظة التتويج الجنائزية للتاريخ، فيقول: “لا أقولها بفجاجة، في السنوات الأخيرة، أصبحت نهاية العالم هي التي تحقق لي معظم إيراداتي. نعم… الوحش الذي يكسيني، الوحش الذي يعلمني، هو الذي يصفعني”. الوحش الإعلامي أنجب طريقة لإنجاح السيطرة على الأنظمة، ومحو القيم..

أين الإنسان؟

لا تسأل. الإعلام غزا العالم. يصوغه كما يشاء. يؤلف عنه ما يطمع به. وغريب جداً، أن الإنسان المعاصر، يفقد إنسانيته، وحسه الإنساني، وينتمي من دون إرادته، إلى الوحشة أو التوحش، أو الضحية.

لا أشير بكلمة إلى الإعلام العربي المكتوم. “الأمر لي” هي الآية. لا تسأل. تعلم الإملاء والقراءة. وعليه، الأقوى يسيطر. تلك مسألة مزمنة. تدجين الإنسان عقيدة دائمة والدجاج له قن وعلى رأسه ديك يصيح ولا حول ولا قوة إلا…

ثم: إياك أن تقول: ابحث عن الحقيقة. الإعلام ضد الحقائق إذا كانت مؤذية، ولو قليلاً. الإعلام للسوق. ان كنت عاقلاً، اصمت ولا تصدق. حرب العراق لا تصدقها كما كتبت. السودان لا تصدق البنادق. ابحث عن جنون العمالقة. العالم كله يصاغ في أتون المصالح. أما أنتم أيها العرب. تجرأوا مرة واحدة، وقولوا: “وداعاً أيها الإنسان”.

من فدائح الإعلام، أينما كان، أنه يسهر على تشجيع النزاعات والتعتيم على جرائم الحرب وغزوات الكذب. لا مكان للثقافة المستقلة في الإعلام… هناك استبداد ثقافي جميل. المهم: تبديل العقل بالسلعة والانحياز. تخدير النقد والحواس. التعويل على سلعة المتعة السريعة والزائلة. والأفدح: تنقية الفساد من التهمة. الفساد سجادة تفرش عليه الفلوس والنفوس.

إقرأ على موقع 180  جوانتانامو السجن المؤجل حتى.. الشيخوخة!

من فدائح الإعلام اللبناني والعربي، أنه يسير في قافلة الأمير برلوسكوني. رئيس حكومة إيطاليا المكتظ بالفساد. نهب المال العام. ميليشيا من المحررين والأتباع. برامج المحطات وظيفتها تشويه وتدمير كل “آدمي” في السياسة. بلغ الاحتيال مرتبة أن يصبح برلوسكوني المدافع الأول عن حرية الرأي. ثلاث محطات تلفزيونية حكومية في قمة الرأسمال والفساد. بثت صورة مثالية لنصّاب معلن. فازت المافيا.. وستفوز دائماً. مسكين أيها الجالس في مقعدك. إعرف نفسك، أنت لست أنت أبداً.

“اكذب.. اكذب.. اكذب”. سيُصدقك كثيرون. الكذب السياسي مزدهر إعلامياً وبوقاحة وانحياز مجرم. إعلام الغرب بارك عدوان “إسرائيل” الإبادي في غزة. لا قيمة أبداً للدم الفلسطيني. القيمة فقط للإسرائيلي. هذا إعلام القبائل “الحضارية” المتوحشة. رجاء: توقفوا عن استعمال القيم. هذه كلمات منافقة.

الحرية؟ اصمت. هذه إهانة إنسانية لا بد من نبذها. الحب؟ سلعة سينمائية مسرحية تافهة. الكذب؟ تجارة مزدهرة. الجرائم؟ يرتكبها “الأعداء” فقط. نحن الأعداء في التصفيق السياسي الغربي. عرب النفط؟ نموذج التحدث بالعربية بمضامين غربية رأسمالية. الفقراء؟ ممنوع ظهورهم في الخيام. فلسطين؟ إنس. المطلوب أن تذرها الرياح في صحارى الضمائر الميتة، من المحيط إلى الخليج.

بريجنسكي، كشف بعد تقاعده، عدد القتلى في القرن العشرين. بلغ الإجمالي حوالي مئة وسبعة وستين مليوناً، من دون تعداد الجرحى. غريب… لم يذرف أحد دمعة يتيمة على مجازر الحقد الرأسمالي الغربي؛ على دول “منزوعة الإنسانية”، وتعامل كقبائل الخيام.

هل تتذكرون هيروشيما؟

هل تتعرفون على نكازاكي؟

مريع ذلك الزمن.

هذا الزمن، تفوق على الجحيم العربي والعالمي.

تعلموا: السلاح أقوى من الآلهة كلها، القديمة منها والأكثر قدماً. صدقوا ما حدث في قرون القتل.

أخطر ما ارتكبه الإعلام أنه جعل الناس يقولون: وداعاً للقيم. الحقوق. المبادئ. الإنسانية. الحقوق. أسّس الإعلام ديناً جديداً لتمجيد العنف وتعميم الفوضى.

أخيراً؛ يمكن إطلاق القول التالي: “الحقبة الراهنة هي حقبة اللاإنسان”. انقلاب هالك ومأساوي. شياطين الديانات قاصرة أمام “براءة الدولارات المليارية المنهوبة”.

أفضل مدافع عن الجريمة والنهب والاغتصاب، أفضل محامي شيطان لهذه المرحلة اللاإنسانية، هو الإعلام الذي لا يخجل من جرائمه وعنصريته.

أخيراً؛ نصيحة من أفدح النصائح اللاأخلاقية: “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”.

هل تعرفون إلى أين تدنَّت البشرية.

الأفضل؛ قل وداعاً للإنسان.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  يومان في جزر القمر.. بلد الأسطورة