سوريا المُنفجِرة.. هواجس لبنان وجماعاته

هي المرة الأولى التي يراقب فيها لبنان كدولة، وبخشية كبيرة، سوريا مختلفة بكثير عن تلك التي عرفها منذ أن رسّم الانتداب الفرنسي حدودهما وكرس كيانية كل منهما. وبرغم أن "لبنان الكبير" شهد قبل انسحاب الإنتداب أربع دويلات سورية (العلويون والدروز وحلب ودمشق) قبل أن تتحد في سوريا الحالية، لكن منذ اندلاع الحرب السورية، وبخاصة بعد سقوط نظام الأسد، يشهد لانفجار المجتمع السوري المتنوع بعد أن خرج من تحت القبضة السلطوية، مُدشّناً مرحلة جديدة غامضة الملامح والنهايات.

غالباً ما توازى إيقاع السياسة اللبنانية وإدارة العهود المتعاقبة للعلاقات الداخلية منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي مع علاقات معقدة مع الأنظمة السورية المتعاقبة. يسقط نظام وينشأ آخر. ينقلب نظام على آخر، فتبدأ معاناة الدولة اللبنانية مع طلبات النظام الجديد بتطويق معارضيه ومنعهم من تشكيل أي تهديد سياسي أو انقلابي على دمشق من مقاهي بيروت وفسحتها الكبيرة للحريات السياسية والإعلامية.

ولم يمنع ذلك لبنان وقواه المتحاربة الصاعدة من رحم الطوائف في الحرب اللبنانية، في أن يكون شاهداً على حروب سوريا الأهلية، وتحديداً تلك التي دارت بين النظام و”الإخوان المسلمين” من شوارع حلب وجسر الشغور في أواخر السبعينيات وصولاً إلى موقعة حماة في العام 1982. لم يكن باستطاعة بعض القوى اللبنانية التي ناصبت دمشق العداء، سواء تلك المتحالفة مع ياسر عرفات أو مع المنظمات المسيحية المقاتلة، سوى أن تتمنى إغراق نظام حافظ الأسد بالمزيد من الحروب والأزمات لعلَّ ذلك يكبح جماح أطماعه اللبنانية. لم يكن ذلك سوى مجرد خطاب لفظي في ظل التفويض العربي الكامل لسوريا في لبنان ولاحقاً الغطاء الأميركي الذي تكرّس بعد 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990.

سوريا بهذه العيون اللبنانية المذهبية، هي أيضاً للمرة الأولى في تاريخها المعاصر خارجة عن النفوذ الشرقي، السوفياتي والروسي، لتنضوي تحت جناح الولايات المتحدة. وطالما أن “تلازم المسارَين” ليس جديداً على أدبيات العلاقة بين الدولة اللبنانية والنظام السوري، فإنه من الطبيعي أن تكون السياسة الأميركية تسير في البلدين بشكلٍ مواز، لإدخالهما في متطلبات العصر الأميركي

في كل تلك الصراعات السورية، هناك عامل محوري في المشهد يتمثل بوجود الدولة. أما الصراعات الطائفية والتناقضات التي كان صدام نظام البعث – الأسد و”الأخوان المسلمين” أحد أبرز مظاهرها، فبقيت مضبوطة بوجود الدولة الديكتاتورية، وبأن يبقى الخطاب الطائفي الموجود والمتواتر بقوة في نسيجٍ مشرقي متنوع، مضمراً تحت هذا السقف.

سوريا تلك حلّت مكانها سوريا المنفجرة (La Syrie eclate) في استعارة من عنوان كتاب المفكر الكبير جورج قرم “انفجار المشرق العربي”.

وجدت الطوائف والمذاهب المتصارعة على السلطة في لبنان، نفسها أمام سوريا متطرفة في السنوات الأخيرة، نظاماً ومعارضةً. ومع تصاعد الحرب السورية، تحولت الحدود اللبنانية – السورية إلى مجرد خط بالحبر على الخريطة، بعدما عبرتها العصبيات الطائفية في الإتجاهين. تدخل حزب الله الشيعي إلى جانب نظام بشار الأسد، وانفجر الحلم السُني في لبنان باستعادة سوريا ذات النظام البعثي والركيزة العلوية، إلى حضن السُنة عربياً وسورياً. وهناك من يفترِض بأنه لو كانت لدى مسيحيي لبنان قواهم المقاتلة التي أنشأوها عشية حربهم الأهلية، فلربما كانوا أيضاً “عابرين للحدود” وساندوا إخوانهم في صيدنايا ومعلولا ومحردة!

الإختراق الإسرائيلي لبنية الدولة والتناقضات السورية فور سقوط نظام بشار الأسد، جعل المشهد أكثر خطورة وتعقيداً وسوريالية. وعلى وفرة العوامل التي فجّرت الديناميكيات المجتمعية السورية، كان الدور الإسرائيلي محورياً في تمزيق سوريا، وانطلاقاً من لبنان بحربه على حزب الله والقضاء على القائد الفعلي للمحور الإيراني، من العراق إلى جنوب لبنان، وهو السيد حسن نصرالله. بات هذا التدخل الإسرائيلي والتلاعب على خط التناقضات، في تلابيب وداخل (intrinseque) البنيان السياسي والإجتماعي السوري.

هنا، تصبح الهشاشة اللبنانية والسورية لا بل العربية عموماً على المستوى الإستراتيجي، وكأنها رياحٌ تزيد من لهيب التصدع الإجتماعي المشرقي. تُخرج الطوائف رؤوسها كسلحفاة وما تلبث أن تطمرها لتحميها، أو ترفعها في مواجهة مميتة لا تُبقي ولا تذَر بعدما تحول هاجس البقاء الوجودي إلى أقصى أمنيات العديد من الشرائح، في ظل هذا المشهد السوداوي الكئيب.

مع تحول المقتلة السورية إلى مشهدٍ كارثي جديد في السويداء، وبخاصةً بما يُمثله من انتهاك فظيع لخصوصيات جماعة بأكملها، ذهبت البنية اللبنانية إلى الغليان مجدداً. استعدادات درزية لبنانية لعبور الحدود، وتضامن سنّي لبناني مع قوات أحمد الشرع. وفي حين كان الضابط لعدم تفجر الوضع اللبناني هو موازين القوى المرجّحة لحزب الله، باتت الضوابط اليوم من منظار اللبنانيين متمثلة في السقف المرسوم أميركياً وإقليمياً.

سوريا بهذه العيون اللبنانية المذهبية، هي أيضاً للمرة الأولى في تاريخها المعاصر خارجة عن النفوذ الشرقي، السوفياتي والروسي، لتنضوي تحت جناح الولايات المتحدة. وطالما أن “تلازم المسارَين” ليس جديداً على أدبيات العلاقة بين الدولة اللبنانية والنظام السوري، فإنه من الطبيعي أن تكون السياسة الأميركية تسير في البلدين بشكلٍ مواز، لإدخالهما في متطلبات العصر الأميركي.

و”العاصفة المتكاملة” (perfect storm) لكل العوامل المذكورة مجتمعةً، جعلت مشهد الإنفجار السوري مرعباً. المظهر الجليل للحى وذقون الشيوخ الدروز وعمائمهم انقلب إلى علامة وسمٍ مهينة بحق جماعة تاريخية بأكملها مع الصور المُقزِّزة للحلق واللعب بالعمائم. كما أن بعض ردود الفعل التي طالت العشائر البدوية، جعلت المراقبة اللبنانية مثقلة بكل عوامل الخطر والتهديد.. ومجدداً عدنا نُردّد أن الفكر المتشدد وما يتفرع عنه من تنظيمات، لا يُمكنه أن يُدير مجتمعاً متنوعاً، إلا بما نشهده من مجازر واقتتال داخلي بين فئات المجتمع الواحد.

إقرأ على موقع 180  إبنة مشعل تصرخ "بابا.. بابا" فينكشف "الموساد" والأردن (89)

لكن هل يبقى اللبنانيون متفرجين على ما يجري عند عتبة حدودهم الشرقية والشمالية أم ينتقلوا إلى موقع المبادرة، فيجعلوا من الجرح السوري ضمادة لمخاوفهم وهواجسهم وفرصة لتقديم تنازلات متبادلة على قاعدة أولوية حفظ سلمهم الأهلي الرجراج؟

لننتظر ونرَ.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال ن. أبو نجم

صحافي وباحث سياسي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  من "النووي" إلى أوكرانيا وغزة.. تقويض مُمنهج لمجلس الأمن