أحداث السويداء: سوريا تستعيد سيناريوهات التقسيم!

هذه لحظة فارقة فى تاريخ المشرق العربى كله، لا سوريا وحدها. أُفلِت العِيار فى السويداء، وأشباح التقسيم تُخيِّم على المكان. برغم إعلان وقف إطلاق النار، تواصلت الاشتباكات المتقطعة وأعمال العنف المتبادلة بين عشائر بدوية مسلحة قريبة من السلطة فى دمشق وميليشيات تنتسب إلى الطائفة الدرزية، لا تُخفى رهانها على تدخل إسرائيلى.

لم تكن الحوادث الطائفية المرعبة فى السويداء محض انفلاتات تداعت بالفعل وردِّ الفعل، بقدر ما كانت تعبيرًا عن أوضاع قلقة بعد إطاحة النظام السابق دون أن يتأسس نظام جديد قادر على بناء دولة مواطنة وقانون.

بذريعة حماية الطائفة الدرزية، دخلت إسرائيل على الخط بعدوان على دمشق. إذا كان الهدف المُعلَن حماية الدروز فى السويداء، فلماذا تقصف الطائرات الإسرائيلية وزارة الدفاع وهيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسى. لم يحدث مثل هذا الهجوم منذ حرب أكتوبر (1973).

كان ذلك إنذارًا سياسيًّا يُرسم بالقوة المفرطة، ولا شىء غيرها، ملامح الشرق الأوسط الجديد، الذى تسعى إسرائيل إلى فرضه على المنطقة كلها. إنه «السلام بالقوة» و«الأمن بالقوة».. حسب صياغة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. بذريعة الأمن، دعا إلى نزع السلاح، كل السلاح، من المنطقة الواقعة جنوب دمشق. فى انتشاء ظاهر، قال حرفيًّا: «تحقّق وقف إطلاق النار من خلال القوة، لا من خلال التوسلات أو الطلبات».

لم تتدخل إسرائيل بدواعٍ إنسانية لحماية الأقلية الدرزية أو إرضاءً للدروز الغاضبين داخل الدولة العبرية، لما يتعرض له أبناء الطائفة من تنكيل وترويع وإذلال. الاعتبارات الاستراتيجية لها الكلمة الأولى.

إننا أمام تنفيذ عملى لما يُطلق عليه إسرائيليًّا «حلف الأقليات» لإعادة بناء الشرق الأوسط من جديد. المقصود تفكيك الدول الوطنية فى المشرق العربى إلى دويلات أصغر وأضعف على أسس عرقية ومذهبية، تتولى إسرائيل قيادتها.

إننا أمام زلزال استراتيجى تُرسم خرائطه بالمجازر والفتن، لا بأقلام رصاص على خرائط، كما حدث فى اتفاقية «سايكس-بيكو» عام (1916).

لم تكن محض مصادفة توقيت أن يتوعّد المبعوث الأمريكى الخاص إلى سوريا، «توماس براك»، لبنان بإعادتها إلى بلاد الشام. فى الكلام إشارات موحية إلى سيناريوهات محتملة لإعادة ترسيم سوريا ولبنان من جديد.

فى عام (1920)، أعلن الجنرال الفرنسى «هنرى جورو» قيام دولة جديدة باسم «لبنان الكبير» بذريعة حماية الأقلية المسيحية المارونية. كان ذلك تقسيمًا لبلاد الشام (سوريا)، قُصد به إضعافها، لا حماية الأقليات.

لم يتوافر للجيش الجديد، الذى أُنشئ عبر توحيد ميليشيات تنتمى إلى خط سياسى واحد إسلامى متطرف، أية خبرات تساعده على صد أى عدوان. كان تفكيك الجيش السورى خطأ استراتيجيًّا يُقارب فى فداحته ما أقدم عليه الحاكم الأمريكى «بول بريمر» عند احتلال بغداد (2003) من حلّ الجيش العراقى ومؤسسات الدولة. دخل العراق فى فوضى ضاربة، وتفشّت فيه التنظيمات التكفيرية، وأخطرها «داعش»

السيناريو نفسه مُرشّح أن يتكرر فى أوضاع جديدة، وتحت قيادة إسرائيلية هذه المرة، لا فرنسية.

يستلفت الانتباه أن سوريا، فى أوضاعها الحالية، لم تُطلق رصاصة واحدة تدافع بها عن سيادتها على أراضيها، أو تمنع استباحتها إلى هذا الحد. جرت تلك الاستباحة فى ظل إشارات ومواقف متواترة لسلطة الأمر الواقع، تنفتح على إسرائيل ولا تُمانع فى علاقات أمنية وسياسية تنسخ الماضى بالكامل.

لم تكن سلطة دمشق مقصودة بذاتها بل سوريا بكل ثقلها التاريخى والاستراتيجى والرمزى.

وفق تصريحات رئيس السلطة السورية أحمد الشرع، فإنه كان أمام خيارين: إما الدخول فى مواجهة مفتوحة مع الكيان الإسرائيلى، وإما أن يسحب قواته من السويداء تجنبًا لمزيد من الدماء. الحقيقة أنه كان خيارًا واحدًا إجباريًّا.

عند سقوط النظام السابق، استهدف الطيران الإسرائيلى مخازن الأسلحة وركائز ومقومات القوة العسكرية، بهدف تجريد البلد من أى قدرة على المواجهة وتركه عاريًا تمامًا أمام أى هجمات عليه.

فى الوقت نفسه، سارع الحكام الجدد إلى تفكيك «الجيش العربى السورى»، حافظوا على الاسم، وألغوا عقيدته العسكرية، التى تنظر إلى إسرائيل كعدو رقم واحد.

لم يتوافر للجيش الجديد، الذى أُنشئ عبر توحيد ميليشيات تنتمى إلى خط سياسى واحد إسلامى متطرف، أية خبرات تساعده على صد أى عدوان. كان تفكيك الجيش السورى خطأ استراتيجيًّا يُقارب فى فداحته ما أقدم عليه الحاكم الأمريكى «بول بريمر» عند احتلال بغداد (2003) من حلّ الجيش العراقى ومؤسسات الدولة.

دخل العراق فى فوضى ضاربة، وتفشّت فيه التنظيمات التكفيرية، وأخطرها «داعش».

بالتكوين الأيديولوجى والفكرى للسلطة الجديدة، فإنها طرف رئيسى فى فتنة السويداء، لا حكم بين أطراف متنازعة.

فى أحداث الساحل الدامية ضد الطائفة العلوية، أُعلِن عن لجان تحقيق وتقصٍّ للحقائق. قيل إن أحدًا لن يفلت من الحساب، أيًّا كان موقعه ورتبته.. ثم لم يحدث شىء. الأمر نفسه قد يتكرر مرة أخرى فى فتنة السويداء، والجروح سوف تظل مفتوحة على أسوأ الاحتمالات.

الأخطاء والخطايا المتبادلة أكثر من أن تُحصى. أسوأ مقاربة ممكنة إنكار الدور الوطنى والعروبى للدروز.

فى المائة سنة الأخيرة، قدّمت الطائفة الدرزية رمزين استثنائيين دفاعًا عن العروبة، قضاياها ومعاركها الكبرى.

إقرأ على موقع 180  ممنوعٌ على العربي أن يكون.. عربياً

أولهما: «سلطان باشا الأطرش»، القائد العام للثورة السورية الكبرى ضد المستعمر الفرنسى عام (1925)، قبل قرن بالضبط. إنه الرمز الأكبر لثوار «الجبل الأشم».

وثانيهما: «كمال جنبلاط»، الذى قاد الحركة الوطنية اللبنانية خلال سنوات الحرب الأهلية، دفاعًا عن المقاومة الفلسطينية فى مواجهة التيارات الانعزالية المتحالفة مع إسرائيل.

التنوع قوة مضافة لأى بلد، وتمزيق الأواصر المشتركة جريمة تاريخية متكاملة الأركان.

أمام سيناريوهات التقسيم الماثلة، تحتاج سوريا الآن إلى مقاربات جديدة لأزماتها، أن تنظر فى المرآة لتدرك أن حقوق المواطنة شرط أساسى لحرية البلد ومناعته ضد العدوان عليه واستباحة وجوده كله.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الحريري إتخذ قراره.. هل يثنيه السيسي عن الإعتذار؟