درجنا على أن نتحدث عن كوننا مَطمَعًا. شواطئُنا وسواحلنا مَطمَع، أراضينا المُنبسِطة مَطمَع، النهر مَطمَع والوادِ الخصبُ مَطمَع. أبنيتنا القديمة وتاريخُنا مَطمَع، وخنوُعنا ذاته هو أكبر مَطمَع. المَطمَع وَصفٌ يوحي بعض المرات بالضَّعف والاستكانة؛ ولو أن المَوصوفَ قويٌّ، عزيزٌّ، صعبُ المنال؛ ما حقَّ عليه ذاك التوصيف الذي تعزى إليه فترات مُطوَّلة من الاحتلال والاستغلال، وتشيد عليه نظرية المؤامرة الدائمة. 

ظلت مِصر مَطمَعًا بل مَغنمًا على مرّ العصور، عبرت بها عديد الجيوش ودخلها كثير الطغاة؛ حكموا وتمكنوا ومكثوا سنين طوال؛ لكنهم في نهاية الأمر مضوا عنها، وبقي أهلها على عهدهم طيبين مسالمين، راضين بما تجلبه الأقدار؛ لا يبادرون باعتداء ولا يتجاوز طموحهم العيش على حد الكفاف. تلك صورةُ نمطيةٌ، مُستقرّة في الأذهان ومُتجذّرة؛ لكنها لا ينبغي أن تؤخذ على مَحمَل التسليم التام دون قيود؛ فثورات متعددة قد قامت، ومحاولات لرفض الطغيان قد سجلتها صفحات التاريخ المشرقة، والحكمة المأثورة التي تقول: “اتق شرَّ الحليم إذا غَضب”، قد وجدت ولا شك ما يصدقها من أفعال، وما يؤكد معناها ويرسخه بين الحين والآخر؛ إنما قد يستغرق الأمر زمنًا تحت وطأة بعض الظروف؛ لترى كلُّ نفس حُرَّة أثرهَا الشافي على الأرض.

***

المَطمَع اسم مكان من الفعل طَمَع، الفاعل طامِع والمفعول به مَطمُوع فيه، أما الطمَّاع بتشديد الميم، فصيغة مبالغة تدلل على الشخص الشَّرِه، كثيرِ التطلع، وفير الطَّمَع؛ بما يجعل الصِفة مُلتصقه به، تتوارى إلى جانبها جُملة الصفات الأخرى؛ ولو كانت مثمَّنة مَرموقة.

***

يقال إن عين الطماع فارغة، لا يملأها سوى التراب؛ والقصد أنه لا يبرأ من دائه إلا برحيله عن الدنيا، أما في حياته فإنه لا يشعر أبدًا بالشَّبع؛ كلما حَصل على قطعة أراد المزيد. مَزيد من الثروة والجَّاه، مَزيد من الطعام والشراب وأسباب الرفاهة القصوى، مَزيد من إعجاب المُحيطين، وغالبًا ما يأتي على رأس قائمة المَطالب: مزيدٌ من السُّلطة والسَّيطرة والقوَّة. “البَحر يحب الزيادة”؛ مثل شعبي ذائع يعترف بالإفراط كغريزة أصيلة في الإنسان؛ لا سيما والزيادة دومًا في عدادِ الخير، والنقصُ عند أغلب الناس مكروه.

***

يُقال إن “الطَّمَع يقلُّ ما جَمَع”. من الطماعين من يكنز الثروات والنفائسَ بغير حساب، ويبدو في وفرة بلا ضابط ولا رابط؛ لكنه مُعرَّض بالمقابل لفقدان أشياءً غير مَلموسة؛ راحةُ البال أحدها والرضاء أيضًا. في طلب المزيد شقاءٌ يتواصل وظمأ لا ينقضي، وفي الحفاظ على المكاسب الهائلة الضخمة صعوباتٌ جمَّة، وفي تنميتها ومضاعفتها استنزافٌ للوقت والجَّهد بغية التخطيط والتدبير، ولا ينفك المرءُ يتعرَّض لضُغوط نفسية وبدنية شتَّى ما بات سعيُه مَحمومًا؛ ولإن سُئل في مثل هذه الأحوال عن مبلغ سعادته بما مَلَك؛ لم يأت الردُّ المُتوقَّع. الاكتفاء بالقليل طبع طيبٌ مَحمود على الجانب الآخر؛ شريطة ألا يقوض الطموحَ أو يمنع التطلع للأفضل، فالمرء إن قعدَ عن طلب التقدُّم والتَّرقي واتخذ من الزُّهد والترفُّع حُجَّة؛ أمسى بالمثل في بؤس وضِيق، والحلُّ يقبع في الحِكمة السَّديدة؛ خير الأمور الوَسَط.

***

إذا طمع واحد في الآخر؛ فقد شَعرَ أغلب الظنّ بإمكانية استغلاله ووَجَد في مَسلكِه وطباعِه فُرصَةً سانِحةً يسهل اغتنامُها وتحقيقُ مَكسَب. على سبيل المثال، يُعطي الشَّخصُ المُسرِف انطباعًا زائفًا لمَن حوله، ويتلقى من الأقربين اللوم على تصرفاته الطائشة، يقولون ما إن يتعرَّض للأذى: طمَّعت الناس فيك، يحملونه تبعات فعله ويبرئون المُعتدي.

***

قد يطلب امرؤٌ معروفًا من آخر قادر على تحقيقه، يتقرَّب إليه قائلًا إنه طمعان في كرمِه وأخلاقِه. يغويه بفيض من الثناء والمديح ولو بما ليس فيه، والثابت أن جميعَنا يميل إلى من يُظهره بأحسن صورة؛ وإن كانت زائفة. الكرمُ والأخلاقُ مفهومان يحملان طابعًا إيجابيًّا في الأذهان، أما القدرةُ على الإقناع ففَن؛ يتقنه البعضُ ويَرسب فيه بعضٌ آخر.

***

ثمَّة أطماع  غير مَشروعة؛ تتطلب إزاحةَ الآخرين عن الطريق واحتلالَ أماكنهم. المَنصِب الرَّفيع مَطمَع، الوظيفة ذات العائد المُجزي مَطمَع، الصَّفقات الكبرى بدورِها مَطمَع. كلٌّ يزاحم راغبًا في الفوز؛ فيما قليلون يتابعون التناحر من بُعد، ويستمتعون بالمشهد الهزلي.

***

إذا تقهقر الواحد أمام الآخرين لدفعهم لأن يطمعوا في التقدم على حسابه، واتخاذ خطوات إضافية اتجاه إقصائه، ولقد  تقهقرت مكانتنا بين البلدان المحيطة وفي سائر المنطقة، وحلت محلنا دول صغيرة لم تكن لتظهر لولا تراجعنا وانكسارنا. في الضمير صدوع لن يجبرها الزمن، وفي الجوار استغاثات من جوعى ومحاولات استنهاض لا تجد صدى؛ ولا جدال أن التاريخ قد سجل علينا صفحات عار أبدي ليس كمثله عار، أما الذاكرة الجمعية فستحفظ هواننا وستدون مشاهد الخزي صوتًا وصورة، فالأمر واقع على رؤوس الأشهاد، وردود أفعالنا أمضى من يصنع العدو بأشقائنا، وصدق الشاعر إذ قال: وظلم ذوي القربى أشدّ مَضاضة على المرءِ من وقع الحسام المُهند.

***

تخاذل أمة العرب وتقاعسها وتراخيها وطأطأتها الرؤوس؛ جعلها وأراضيها وخيرها مطمعًا للعدو الأزلي، ثم إذا بها لفرط الانحدار والتدني؛ لقمة سائغة في فمه. إن زلت القدم فلم يزل في الجسد أنفاس تتردد؛ والحاجة لمن ينعش القلب المرتعش ويعطيه صدمة الأمل ويعيده إلى الحياة.

إقرأ على موقع 180  تسويةٌ وطنيةٌ أو خرابٌ.. وطني!

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  مصر والسعودية مُخولتان بإنقاذ النظام العربي