عبد الحسين شعبان للبنانيين: حذاري المزيد من الانهيار.. التقسيم على طاولتكم (2/2)

أجريتُ عشرات المقابلات في سياق عملي على انجاز أطروحة شهادة الدكتوراه اللبنانيّة في العلوم الاجتماعيّة، بعنوان "إيران والاجتماع السياسيّ الشيعيّ في لبنان - حزب الله أنموذجًا - ديناميّة العلاقة وتحوّلاتها (1979-2021م)". من أبرز هذه المقابلات تلك التي أجريتها في 5 كانون الأول/ديسمبر 2020 مع المفكر العربي الدكتور عبد الحسين شعبان، وهذا هو الجزء الثاني والأخير منها، وميزتها أنها تقدّم رؤى تُحاكي الراهن والمستقبل.

هل أن فشل الدولة الوطنية في البلاد العربية معطوفًا على الصراعات الإقليمية، أدى إلى الطائفية السياسية، ونشوء الطوائف المتخيّلة أم أنّ الصراعات الدولية ونظام الهيمنة أسهم في تغذية تناقضات الدولة العربية وإفشالها من تكوينها الى الامساك بموازينها واسترهانها وتغذية الطائفية واستخدامها أي بالتحكم بوقائع لديمومة الاستتباع والاستحواذ؟

– بعد أن أنجزَت العديد من البلدان العربيّة استقلالها في عمليّة استغرقت عدّة عقود من الزّمان، واجهت الدولة العربيّة في تطوّرها المعاصر تحدّيَّين أساسيَين، أوّلهما يتعلّق بالمشروعيّة، وثانيهما يتعلّق بالشّرعيّة.

وقد نجم عن هذين التحدّيَّين إشكاليّات ومشكلات وأزمات بعضها نظري والآخر عملي، قسم منها يتعلّق بالقانون والآخر بالسياسة، وكليهما له علاقة بطبيعة نظام الحكم، ولاسيّما علاقة الحكّام بالمحكومين التي تحدّدها القواعد القانونيّة الناظمة، معطوفة على قبول الناس، فضلاً عمّا يتحقّق من منجزات لها.

وبهذا المعنى فالمشروعيّة والشرعيّة مسألتان تتعلّقان بالدولة وعلاقاتها بالمواطن، وما يتفرّع عن ذلك من حقوق وواجبات، لها طابعها القانوني والسّياسي الذي يتوقّف نجاحها على سيرهما بخطٍّ متوازٍ في تأمين المستلزمات الأساسيّة التي يحتاجها المواطن؛ وحين يحصل أيّ تصدّعٍ أو خلَلٍ في أحدهما أو كليهما فإنَّ نتائجه تنعكس سلباً على عمليّة التّنمية الإنسانيّة الشاملة وهو ما يُطلق عليه “التنمية المستدامة” بجميع أركانها وحقولها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والقانونيّة والتربويّة والصحيّة والبيئيّة وغيرها.

وهناك العديد من التجارب الدوليّة التي تعثّرت فيها عمليّة التنمية بسبب اختلال المعايير في العلاقة بين المشروعيّة والشّرعيّة، كما هي الدول الاشتراكيّة السابقة وعدد من البلدان العربيّة التي سُمّيت ببلدان “التحرّر الوطني“، خصوصاً بانتهاك أساسات التعاقد الاجتماعي بين الدّولة والمجتمع والفرد، في ظلّ غياب أو تغييب دورٍ فاعل للمجتمع المدني بصفته رقيباً وراصداً ومتمّماً وشريكاً للدولة في عملية التنمية، الأمر الذي قاد إلى ضعف الدولة وتآكلها من داخلها، ومهّد أحياناً إلى تفكّكها ونجَمَ عنه الانتقاص من سيادتها أو حتّى تعويمها.

وإذا كانت موجة ما سُمّي بـ”الربيع العربي” قد أدّت إلى انكشاف الدولة ذات التوجّه المركزي الشديد الصّرامة، بارتفاع الدعوة إلى الدولة اللّامركزية، مثلما جرى الحديث عن الانتقال من “الدولة البسيطة” إلى “الدولة المركّبة”، فإنّها “موضوعيًّا” أدّت إلى انتعاش دور الهُويّات الفرعيّة، الدينيّة والإثنيّة واللغويّة والسلاليّة وغيرها، وساهمت في بلورتها “ذاتيًّا”، وإنْ كانت المسألة ذات طابع كوني، وهو ما حصل في بلدان أوروبا الشرقيّة الإشتراكيّة بعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وتفكّك الاتحاد السوفييتي لاحقاً كما تمت الإشارة إليه، حيث شهدت حروباً ونزاعات وانقسامات عديدة، إلّا أنّ ردود فعلها العربيّة كانت حادّة جدًّا، بل وعنيفة جدًّا، وما تزال تداعياتها مستمرّة ومتصاعدة، من دون أن ننسى دور العامل الخارجي والتداخلات الإقليميّة والدوليّة.

وقد رافق مع هذا التطور تفشّي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، بما فيه “الإرهاب الدولي”، ناهيك عن احتدام صراعاتٍ مذهبيّة وطائفيّة ودينيّة اتّخذت منحىً إقصائيًّا وإلغائيًّا وتهميشيًّا بالعنف تارةً وباستخدام أجهزة الدولة والسّلاح المنفلت خارجها تارةً أخرى، فضلاً عن نشاط محموم لقوى إرهابية استغلّت غياب مرجعيّة الدولة أو ضعفها لتعمل على بسط نفوذها والتحكّم بمصائر سكّان مناطق كاملة وهو ما حاول تنظيم “داعش” الإرهابي القيام به عند احتلال محافظة المُوصل ونحو ثلث الأراضي العراقيّة في 10 حزيران (يونيو) 2014، وكذلك احتلاله نحو ثُلث الأراضي السوريّة وإعلان دولة الخلافة وعاصمتها “مدينة الرقَّة” السوريّة.

 وعلى الرغم من انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة بعد الحرب العالميّة الأولى، إلّا أنّ البلدان العربيّة التي تأسّست بالتدرّج وعلى مراحل ظلّت تعاني من اختلالاتٍ بنيويّة عميقة طالت مختلف هياكلها وبنيانها التحتيّ والفوقيّ، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والقانوني والتربوي بما فيه مجالها الديني؛ ونجَمَ ذلك عن طبيعة وظائفها أيضاً، فلم تستطع الانتقال إلى مجتمع الدولة الحديثة، فضلاً عن ضعف الوعي الثقافي والحقوقي في إداراتها وعدم استيعابها أهميّة المؤسسات ودورها ووظيفة القانون وحكمه لتأمين الشرعيّة السياسيّة للحاكم من خلال دعم الناس له في تحقيق منجزات تعبّر عن طموحاتهم.

وظلَّ الصراع بين المجتمع التقليدي المحافظ والمجتمع الحدَاثي الناشئ قائماً، تارةً على نحوٍ صريح وأخرى على نحوٍ صامت، ومرّةً عِبر مؤسسات الدولة وأخرى من خارجها بتأثيرات دينيّة وعشائريّة وإثنيّة، وبصورةٍ مترابطة أو منفصلة، حيث بقيت الثقافة تقوم على البُنى التقليديّة المتمثّلة بالدِّين أو الطائفة أو الجماعة الإثنية أو العشيرة أو العائلة، ولم يعرف المجتمع العربي ظاهرة “الأمّة – الدولة” بحكم التجزئة، فضلاً عن تغوّل السُّلطة على الدولة وضعف الهُويّة الوطنيّة وهشاشتها.

وقد كشفت حركات الاحتجاج في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 وتداعياتها أشكال مختلفة من الاغتراب الحقيقي الفكري والسياسي بين الأنظمة التي حكمت شعوبها وبين الشعوب والمجتمعات التي أخذت تتعرّف على نفسها، لدرجة شعورها بالاغتراب من دُوَلها في ظلّ سُلطات احتكرت المال والسلاح والثقافة والتجارة، وبالطبع فقد هيمنت السياسة على كل شيء متعكّزة على النفوذ الذي وفّرته السُّلطة.

وتعود بعض مصادر هذا الاغتراب إلى التماهي بين الدولة والسُّلطة، فإذا كانت الدولة باقية ومستمرة، فالسُّلطة زائلة ومتغيّرة، لكن السُّلطات حاولت التماهي بينها وبين الدولة، بل والتغوّل عليها بحكم تعتّقها في الحكم معتبرة أي نقد لها، إنّما هو نقد للدولة ذاتها، بل عداء لها.

كما حاولت السُّلطات الحاكمة والقوى التقليدية إحداث نوع من الاندماج بينها وبين الهُويّة الوطنيّة، وذلك بربطها بالدولة حيث يتحوّل أي خلاف مع السُّلطة إلى خلاف مع الدولة وهُويّتها الوطنيّة، وقد كان العقدان الأخيران من القرن العشرين فضاءً مفتوحاً لانبعاث الهُويّات الفرعيّة، الأمر الذي أدّى إلى فوَران الهُويّات الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة، خصوصاً حين تم رفع غطاء الهُويّة الوطنيّة فظهرت الهُويّات الخاصة بوصفها هُويّات تمثّل الجماعات المختلفة، وهو الأمر الذي طرح مسألة الهُويّة الوطنيّة ووحدة الدولة عقب اندلاع الانتفاضات الشعبيّة ومستقبلهما، في ظل مواطنة ناقصة أو مبتورة أو مشوّهة، وبسبب عدم توازن القوى بين الأنظمة الحاكمة والقوى المطالبة بالتغيير برّرت بعض المعارضات، الاستعانة بالقوى الخارجية لحل مشكلاتها مع الأنظمة السياسية متجاوزةً مبدأ سيادة الدولة وغير مكترثة به بزعم أن السيادة مجروحة أو معوّمة أو تابعة بسبب تغوّل السُّلطات الحاكمة عليها أو رضوخها لنفوذ خارجي دولي أو إقليمي.

وتحت مزاعم شتى سادَ في الدولة العربية المعاصرة خطاب “أقلَّوي” فكري وسياسي يقوم على الإقصاء والتهميش وعدم الإقرار بالتنوع والتعدّدية وحق الاختلاف، وذلك انطلاقاً من نظرة تعصّبية أساسها الانتقاص من الآخر، سواء تم اللجوء إلى تبرير ذلك بشعارات راديكاليّة ثوريّة يساريّة أم قوميّة أم تلفّح بعباءة دينيّة ولون طائفي أم مذهبي، والكل يزعم امتلاك الحقيقة ويدّعي الأفضليّات ويؤثِّم الآخر ويحرِّمه ويجرِّمه باسم مصالح الثورة أو الكادحين أو الوحدة العربية أو تحرير فلسطين أو الدفاع عن الإسلام والحفاظ على نقاوته ضدّ “الثقافة الوافدة” أو غير ذلك من التبريرات.

يمكن القول إن أهم ميزات الدولة الحديثة هي:

 1- دولة القانون، فالدولة الحديثة والقانون توأمان، أي يفترض في القانون أن ينطبق على الجميع حكّاماً ومحكومين، فقد ساهم الاستبداد غير الخاضع للقانون في تقويض أُسس الدولة، وأي عمليّة انتقال من طورٍ إلى طور ومن نظام إلى آخر تحتاج إلى قانون حتى وإن كان انتقالياً.

2- دولة المواطنة وهي وجه آخر للسِّيادة، أي الأرض والساكنين عليها وما يتصل بذلك من سلطة تنظيم الحقوق والواجبات. والمواطنة الفاعلة والحيويّة تقوم على الحرّية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة دون تمييز كما جرت الإشارة إلى ذلك.

3 – دولة الاندماج والتنوّع، أي الواحدة أو الموحدة بحكم وحدة الجيش والسوق والقانون والسياسة الخارجية (العلاقات الدولية) والسياسة والخطط المالية بما فيها (العملة والضرائب والجمارك) ونظام تعليمي موحّد مع خصوصيات كل ما يتعلق بالدولة المتعدّدة الثقافات في السياسة والإدارة والحقوق القومية والدينيّة واللغوية.

4 – دولة الهُويّة وهذه في إطار الوحدة مقابل التشتّت والتشظّي، أي دولة الهُويّة الوطنية الجامعة ولكن بالإقرار والاعتراف بالهُويات الفرعية المؤتلفة والمختلفة بالخصوصيّة والتمايز، مقابل الانتماءات الجماعاتيّة المحليّة ما قبل القوميّة: القبيلة أو العشيرة أو المحلّة أو الجماعة الدينيّة مع مراعاة اللغة الوطنيّة واللُّغات التي تخص الهُويّات الفرعية لاسيّما الإثنيّة والقومية، وذلك في إطار لامركزي أو اتحادي يساوي بينها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يقّربها وليس ما يباعدها.

لعلّ أهم المشكلات والإشكاليّات الراهنة التي تواجهها الدولة العربيّة المعاصرة تتلخّص في:

أوّلها – تراجع عمليّة التنمية في العديد من البلدان العربيّة، وخصوصاً تلك التي اختارت طريق التحوّل الاجتماعي بفعل عدم التوازن بين التحوُّل السياسي وشرعيّة الحكم الدستوريّة وحكم القانون من جهة وبين التغييرات الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي أحدث فجوةً لم يكن ردمها ممكناً، بل ازدادت عمقاً مع مرور الأيام.

ثانيها – ضعف المشروعية، لاسيّما بغياب الحكم الرَّشيد ومبادئ حكم القانون والاستعاضة عن المشروعيّة الدستوريّة والقانونيّة بالمشروعيّة الثوريّة الراديكاليّة وضمن قواعد عمل مؤقّتة أو انتقاليّة استمر بعضها لعقودٍ من السّنين.

ثالثها – ضعف قواعد الشرعيّة السياسيّة وتدهورها، خصوصاً تآكل رضا الناس، ناهيك عن ضعف شرعيّة الإنجاز، التي أخذت بالتراجع، لدرجة أنّ بعض الأنظمة لم يعُد ما لديه ما يقدّمه بعد أن وصلت إلى طريق مسدود مستنفذة ما أنجزته في فترة سابقة متشبّثة بالبقاء في السُّلطة على حساب قبول الناس أو الاختيار الحرّ للمواطنين.

رابعها – مشكلة الهُويّات الفرعيّة، الدينيّة والإثنيّة والطائفيّة واللغويّة والسلاليّة، وعدم إيجاد حلول سلميّة ومدنيّة لتحقيق العيش المشترك وعلى أساس المواطنة المتساوية وعدم قدرتها على إحداث تعايش مشترك بحيث يحظى بالقبول من جانب الهُويّات الفرعيّة، الأمر الذي ظلّ هاجساً يتردّد باستمرار بالانفصال أو الانقسام أو التمرّد المستمر.

خامسها – ضُعف ظواهر الوحدة الوطنيّة والمجتمعيّة، خصوصاً في ظل سياسات التهميش والإقصاء ومن ثمّ النكوص عن تقديم الخدمات الاجتماعيّة والصحيّة والتعليميّة والاقتصاديّة والبيئيّة، فضلاً عن تدهور جودتها على نحو شديد، وهو ما زاد في الانقسام المجتمعي والشعور بالغُبن والمظلوميّة لدى فئات من السكان التي ظلّت تتشبث بهُوّياتها، لاسيّما تلك التي تتعدّد فيها القوميّات والإثنيّات والأعراق والأديان والطوائف.

سادسها – ضُعف سُلطة الدولة والاستعاضة عنها بسلطات ما دونها لتصبح أحياناً ما فوقها من القبيلة والعشيرة والطائفة والمنطقة إلى ما سواها، تحت عناوين الأعراف والتقاليد التي تقترب أحياناً من القوانين، بل تتقدّم عليها كلّما تراجعت سُلطة الدولة، وحيثما غابت المشروعيّة القانونيّة وضعفت الشرعيّة السياسية.

سابعها – غياب العدالة الاجتماعيّة وزيادة التفاوت الطَّبقي وتراكم الثروات بيَد فئة قليلة على حساب الأغلبيّة الساحقة المحرومة، ممّا وسّع من دائرة الفقر وأضعف من شرعية تمثيل الدولة للمجتمع ككل وخلق ردود فعل حادّة دفعت الشباب الباحث عن عمل، والذي يعاني من البطالة، إلى التمرّد، خصوصاً وأن قسماً غير قليل يشعر بالضّياع بعد أن حصل على تعليم مناسب، لكنّه لم يستطع أن يقدّم شيئاً لمجتمعه.

إقرأ على موقع 180  هندسة جديدة للإقليم في مواجهة إيران.. والانفلات الترامبي نحو الخليج

ثامنها – شحّ الحرّيات وضعف دور الرأي العام وغياب معارضات دستوريّة في ظل محاولة التشبّث بالسُّلطة واستخدام القوّة والعنف للوصول إليها. وهكذا افتقدت البلاد إلى التنوّع والتعدّدية والرأي الآخر وساد بدلاً عنها الواحديّة والإطلاقيّة والإجماع المصطنع وتقلّصت هوامش حرّية التعبير وحقّ الاعتقاد والحقّ في المشاركة والحقّ في تأسيس هيئات ونقابات وأحزاب إلّا إذا كانت تدور في فلَك الحاكم ذاته.

تاسعها – اختراق القوى الدولية والإقليمية خصوصاً بانكشاف نقاط ضعف الدولة العربية والسّعي لتعميقها، لاسيّما في ظل غياب الحدّ الأدنى من العمل العربي المشترك باتجاه التعاون والتنسيق والاتّحاد، الأمر الذي سهّل عمليّة التغلغل الخارجي للعبَث بالأمن العربي لدرجة أصبحت بلادنا العربية هدفاً لاستراتيجيات متنازعة عليها وفيها تحت عناوين “مكافحة الإرهاب”، واليوم تدور الدوائر في محاولة لنزع رُكن أساسي من الهُويّة العربيّة بزعم أنّ الإسلام دينٌ يحضّ على العنف والإرهاب، حيث تجري محاولات تحت عناوين مختلفة للمساس بصميم السيادة والتدخّل بالشؤون الداخلية على نحوٍ سافر.

عاشِرُها عسكرة المجتمعات العربيّة بسبب عدوان “إسرائيل” المتكرّر، التي هي مشروع حرب مستمرة وبؤرة توتر دائم منذ أكثر من سبعة عقود من الزمان، مما عطّل عمليات التنمية التي تمّت مقايضتها في الكثير من الأحيان بالتسلّح والإنفاق العسكري بزعم أن العدو يدقّ على الأبواب، مثلما تمّت مقايضة خُطط الإصلاح والديمقراطيّة التي كانت مطمحاً لشعوب البلدان العربيّة بعد الاستقلال، بحكومات عسكريّة أو مستبدّة كمّمت الأفواه بزعم الخطر الخارجي والأطماع الإقليميّة “الإسرائيليّة” وفيما بعد الإيرانيّة والتركيّة، وهو ما أشرت إليه في بحث قدّمته إلى مؤسسة الفكر العربي حول أسئلة المشروعية والشرعية.

وهذه الأطماع وإن كانت واقعاً، إلّا أن اختيار طريق التنمية والإصلاح وتعزيز الشرعيّة السياسيّة وتعميق المشروعيّة هو السبيل الأسلم لمواجهة التحدّيات التي تواجهها البلدان العربية وليس تقليص دائرة الحقوق والحريّات، وقد تفاقمت الصراعات والتقلّبات والنزاعات في العالم العربي والتي أضعفت المشروعيّة والشرعيّة، ليأتي “الربيع العربي” فيطرح أسئلة حارّة بشأن مستقبل الدولة العربيّة الراهنة، ارتباطاً مع المتغيّرات في العالم، التي ضعضعت من المفاهيم القديمة التي استندت إليها نظريّات الحكم ومشروعيّاته وشرعيّاته في العديد من البلدان، تلك شكّلت موروثاً ضاغطاً بوجه عمليّة التغيير والنهضة.

ما هو توصيفكم للعلاقة بين ايران وحزب الله وما هي أهم أبعادها وإنجازاتها ومحدداتها وتحدياتها وآفاقها؟

– التوصيف المبسّط ليس كافياً، الأمر متراكب ومتداخل ومتفاعل. والتعميم هي “الصخرة التي يتّكئ عليها المتعبون”، فهناك من يعتبر العلاقة بين إيران وحزب الله، تمثّل علاقة التابع بالمتبوع والسيّد بالعبد والرئيس بالمرؤوس، باختصار يعتبرها هؤلاء علاقة غير متكافئة وبين طرفين غير متكافئين، بل هي بين طرف قوي وغني ومدعوم من الدولة وأجهزتها، وطرف ضعيف وفقير وغير رسمي أو حكومي. الأول يمثّل كيانية الدولة المعترف بها والتي هي جزء من نظام العلاقات الدولية التي تحكمها قواعد قانونية وهياكل معروفة، في حين أن الطرف الثاني أي الحزب فإنّه يمثّل جماعة معيّنة “طائفة أو جزء منها” أو حتى أنّه يعمل سرّاً في الكثير من الأحيان. وهذا الاعتقاد سائد لدى العديد من الأوساط اللبنانية والعربية، بل يذهب المنتقدون دوليًّا ليعتبروا أن هذا الاختلال في العلاقة لا يسمح للطرف الضعيف إلّا تنفيذ الأوامر غير القابلة للاعتراض أو العصيان، لأن طبيعة العلاقة لا تسمح غير ذلك.

الأمر بتقديري أعقد من ذلك وهو يشمل جمع القوى والأحزاب الشمولية الأيديولوجية العقائدية التي يوجد فيها مراكز أساسية أو مركز قائد وأطراف متعددة، فهو يشمل الشيوعيين أيام الاتحاد السوفيتي، وكان خالد بكداش الزعيم الشيوعي السوري يعتبر الإخلاص لحزب لينين وبلد لينين (الاتحاد السوفيتي) هو معيار شيوعية الشيوعي وقد بات على مثل هذا التوجه يمثّل الغالبية الساحقة من الأحزاب الشيوعية، لدرجة أن الغرب والقوى المحافظة في بلادنا كانت تعتبرهم “عملاء” لموسكو، على الرغم من تضحياتهم ودفاعهم عن بلادهم وأوطانهم، دون أن يعني ذلك غضّ النظر عن أخطائهم، والمسألة تمتد إلى القوميين والبعثيين، فهؤلاء كانت النظرة الأحادية إليهم تضعهم في خانة التبعيّة لنظام عبد الناصر أو للبعثيين العراقيين أو للبعثيين السوريين حسب الارتباطات والتوجهات.

وبالطبع فإن الإسلامية الشيعية ترتبط بإيران، في حين أن الإسلامية السنّية، ولا سيّما حركة الإخوان المسلمين وامتداداتها كان مركزها مصر وهي اليوم في أنقرة، فضلاً عن امتدادات عربية والاتهامات هي ذاتها. ويتّهم أصحاب التوجهات الأيديولوجية الاشتراكية اليسارية أو القومية العربية أو الدينية الإسلامية الشيعية والسنية، التيارات الليبرالية ولا سيّما الممالئة للغرب ويدمغونها بالعمالة، بل والعمل لصالحه كطابور خامس أحياناً، بل إن بعض المتشدّدين من الإسلاميين أو الإسلامويّين يعتبرون من ينادي بدولة مدنية أو علمانية تحمي الأديان وتضع مسافة واحدة منها، بالمروق والخروج على الأمة وثوابتها، بل وحتّى تتهمهم بالعمالة أحياناً.

المناصرون للتيارات الأيديولوجيّة، وأخصص حديثي في هذه الفقرة على التيار الأيديولوجي للشيعية السياسية، ولا سيّما حزب الله، الذي يعتبر العلاقة مع إيران علاقة شراكة ومصالح مشتركة وأهداف مشتركة وتعاون وتنسيق لما فيه مصلحة شعوب المنطقة، بما فيها الموقف من القضية الفلسطينية، وكذلك فهم لا يخافون منها ولا يخجلون من التصريح بها، بل والشعور بالامتنان لها لما حققته من نجاحات، مثلما كان شعور الشيوعيين إزاء الاتحاد السوفيتي حيث كانوا يصرّون على وضعه على رأس المنظومة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني، والقوميين الذين ينظرون باحترام أقرب إلى القدسية إلى جمال عبد الناصر وبعض البعثيّين الذي قد ينتقدون بعض السياسات العراقية، لكنهم يقفون عاجزين أمام اسم صدام حسين وهكذا.

العلاقة بتقديري مركبّة، بين مصالح الدولة العظمى (الاتحاد السوفيتي، مصر، إيران، تركيا..) وبين مصالح أحزاب عقائدية تدور في فلك تلك الدول ذات التوجه المشترك، خصوصاً وأن مصالح خاصة تنشأ بين قيادات هذه الأحزاب وبين البيروقراطيات والمخابرات التي تحكم هذه الدول الكبرى، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بنفوذها ووجودها في ظل صراع دولي محتدم، ويتطلّب هذا الولاء والامتثال أحياناً لمصالح الدولة الكبرى، حتى وإن كانت ثمة مشتركات نضالية بينها، فماذا لو تعارضت مصالح الدول الكبرى، مع مصالح حزب من الأحزاب إزاء دولته؟ فأيهما يتقدم؟

وتوجد لدينا تجارب عديدة بعضها مؤلم على هذا الصعيد حتى وإن كانت العلاقة تقوم على أيديولوجية واحدة وأهداف مشتركة وغايات موحدة، لكن ثمة اختلافات وتعارضات ستنشأ من خلال الممارسة والتطبيق، لا سيّما بين الأيديولوجية والبعد القومي والأيديولوجية والمصالح الخاصة.

لا شك أن هناك فائدة لكل منهما، فالأقوى يمكن أن يستفيد من الأضعف لمدّ نفوذه إقليميا حيث سيكون له صوت وعين أخرى على مستوى أطروحاته الإيديولوجية، والأضعف يمكن أن يستفيد من نفوذ دولي وإقليمي لتعزيز وجوده الداخلي، لكن ثمة اختلافات وتضارب مصالح سينشأ لا محالة، والتجربة الاشتراكية خير دليل على ذلك، لا سيّما للقوى الكبرى، فإضافة إلى الاتحاد السوفيتي: هناك الصين، كما أن التجربة الناصرية وامتداداتها عربياً، إضافة إلى التجربة البعثية في البلدان التي حكمت فيها والبلدان التي وجدت فيها بعض الأحزاب التي تنتمي إلى ذات الأيديولوجية، لم تكن متكافئة على الإطلاق، وبالطبع لا يمكن أن تكون متكافئة لاختلاف المواقع والأحجام والمصالح، وهي المسألة التي تشمل الإسلاميين بشكل عام وحزب الله وإيران بشكل خاص، وهو أمر طبيعي.

– ما هي أهم الإشكاليات المثارة حول العلاقة بين ايران وحزب الله، وما هو موقفكم منها؟

ثمّة إشكالات قانونية وسياسية تأخذها القوى المناوئة لحزب الله عليه في لبنان وخارجه، أوّلها– أنه الذراع الضارب لإيران في لبنان، وثانيها– أنه يقيم دولة داخل الدولة، وثالثها– سلاحه الذي يرفض إخضاعه للدولة، بل يستقوي بها على الدولة، ورابعها– قراره في الحرب والسلم دون مرجعية الدولة وأحياناً بما يتعاكس مع مصالح الشركاء في الوطن، وخامسها– وهو عنصر جديد ونعني به نشاطه في خارج حدود الدولة، المقصود مشاركته في سوريا ضد القوى الإرهابية ودعماً للنظام الرئيس بشار الأسد، واتهامه بالعمل مع الحوثيّين في اليمن والتنسيق مع مجموعات عراقية موالية لإيران.

هذه أهم الإشكالات التي تثار بخصوص علاقة إيران مع حزب الله، ومع أن مثل هذه الإشكالات في الأوضاع الطبيعية تندرج في صميم سيادة الدولة، لكن التداخلات الإقليمية والدولية في لبنان ليست مقتصرة على إيران والشيعية السياسية ممثلة بـ”حزب الله” و”حركة أمل”، ناهيك عن عدم وجود أوضاع طبيعية في لبنان ويعود قسم غير قليل منها إلى عدوان “إسرائيل” المتكرّر الذي ساهم حزب الله في دحره وفي التصدّي له وردعه ولولا وجود حزب الله وقوى المقاومة لكان “الإسرائيليون” يسرحون ويمرحون في لبنان، وهو الأمر الذي لا يمكن إغفاله أو العبور عليه لأنه مسألة أساسية وقضية مركزية، حسب قناعتي ومتابعتي.

أعتقد أن الاجتماع السياسي اللبناني واستناداً إلى الطائف الذي يحتاج إلى تطبيق وتطوير، بحاجة إلى مراجعة جدّية وعقد اجتماعي سياسي جديد يقوم على مبادئ المواطنة التي تحدّثنا عنها، فهل أن القوى السياسية مهيّئة وراغبة وجديرة بتحقيق ذلك؟ إنه سؤال لا يتعلق بحزب الله وحده، بل يشمل الجميع بلا استثناء، وكل الفرقاء يتحمّلون جزء من المسؤولية فيه مع تفاوتها، لا سيّما وأن النظام السياسي اللبناني قائم على الغنائميّة والزبانيّة والمُحاصصة الطائفيّة، وهو ما أوصله إلى حافة الانهيار، ولا سيّما بالأزمة الاقتصادية الطاحنة اليوم وانهيار سعر الصرف لليرة اللبنانية قياساً للدولار والعملات الصعبة، وأزمة المصارف ووضع اليد على أموال المودعين، إضافة إلى الفساد المستمر والمستفحل والمحازبيّة والمناطقيّة التي غذّته، تلك التي ترافقت في العام 2020 مع تفجير مرفأ بيروت وجائحة كورونا “كوفيد 19”.

إن لم تتم معالجات سريعة لوقف التدهور ووضع حد للانهيار، فإن البلد ذاهب إلى ما هو أسوأ بكثير مما نتصوّر، وهو الأمر الذي سينعكس عربياً وربما إقليمياً بنشوء كانتونات أو دوقيّات أو مناطقيات، وقد يكون جزء منها ضمن مخطّطات صهيونيّة وإمبرياليّة مثل مشروع برنارد لويس منذ العام 1979 لتقسيم دول المنطقة إلى 41 دويلة وكياناً، والهدف هو أن يكون الجميع “أقلّية”، أمّا “إسرائيل” فستكون القوّة الكبرى من حيث التقدّم الصناعي والتنكولوجي والعلمي والاقتصادي وحينها ستدور هذه الدويلات في فلكها، وهو ما أسماه هنري كيسنجر بـ”الحروب الناعمة” حيث تبدأ ساخنةً عربيّة – عربيّة لتنتهي على الطريقة الرومانية بعد أن يصبح الجميع على حافة الموت، عندها سيكون “التقسيم” أمراً واقعاً بل “أحسن الحلول السيّئة”، كما سيبرّر البعض، وهذا ما تريده “إسرائيل” والقوى الإمبرياليّة التي تقف خلفها.

راجع الجزء الأول؛ عبد الحسين شعبان: لا بد من مُعادلة تُعزّز الطائف وتضع المقاومة تحت سقف الدولة اللبنان (1)

Print Friendly, PDF & Email
د. عبدالله محمّد عيسى

كاتب وأكاديمي

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  صراعات المشرق.. هويات وممرات وريوع وحقوق!