

أولاً؛ في الحسابات الأميركية:
استعجل دونالد ترامب اتفاق غزة بعد الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات حماس في العاصمة القطرية الدوحة (٩ سبتمبر/أيلول) وما أحدثته من حرج وبخاصةً أن قطر دولة وسيطة في المحادثات بين الجانبين وعملت طوال العامين الأخيرين على تبادل الرسائل والردود بين تلّ أبيب وقيادة حماس.
العامل الثاني الذي ساهم في الوصول إلى الاتفاق هو محاولة تطويق مفاعيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة (أيلول/سبتمبر الماضي)، والتي شعرت من خلالها واشنطن بازدياد المسافة بينها وبين دول العالم كافةً مع وصول عدد دول العالم المؤيدة للدولة الفلسطينية إلى ١٥٣ دولة.
عاملٌ ثالثٌ لا يقل أهميةً برأيي تجلّى بمحاولة فكّ عزلة إسرائيل الدولية بعد تنامي موجات الغضب الشعبي العالمي. هنا، شعر ترامب بضرورة التدخل وبخاصةً أن طموحه لنيل جائزة نوبل للسلام رافقها كلام كثير حول نجاحه في إطفاء ثماني حروب في ثمانية أشهر. مهما يكن من أمر، فإنّ الاندفاعة الأميركية هذه أثمرت اتفاقاً مكتوباً للمرة الأولى منذ عامين، دخل حيز التنفيذ في مطلع الأسبوع الماضي. وحتى لو نجحت المرحلة الأولى من الاتفاق، فإن الانتقال إلى المرحلة الثانية يشوبه الكثير من العوائق ليس فقط بسبب النوايا الإسرائيلية بالالتزام بالاتفاق إنما بخلّو الاتفاق نفسه من آليات تنفيذية واضحة ومهل زمنية محددة تدفع بالمبادرة قدماً. ولا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى أنّ ترامب سيولي مصر مسؤولية أساسية في انجاز ترتيبات ما بعد الحرب وبخاصةً أنّ الرئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، أعلن عن استضافة بلاده لمؤتمر دولي يعنى بإعادة إعمار غزة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم. هذا فضلاً عن تقارير إعلامية أفادت بأنّ القاهرة بصدد تدريب خمسة آلاف عنصر من عناصر الشرطة الفلسطينية لتولي مهام الأمن في القطاع.
ثانياً؛ في الحسابات الإسرائيلية:
استجاب بنيامين نتنياهو للضغط الأميركي المشار إليه أعلاه طبعاً ليس حباً بالسلام، ولكن مراضاةً لترامب وبخاصةً أن علاقة الرجلين ممتازة اذ أن ترامب دعم كل خطوات نتنياهو في ولايته الأولى واستكمل هذا الدعم بتغطية حرب الإبادة في ولايته الثانية. لا يريد نتنياهو أن يخسر ودّ ترامب وبخاصة أن الأخير سيبقى في البيت الأبيض لغاية عام ٢٠٢٩. ثم أنّ نتنياهو لا يضيره أمر تقنين الإبادة على غرار نموذج جنوب لبنان، فهي – أي الحرب – ستظل ذريعة بيده لتقوية حججه بالبقاء على رأس الحكومة وهو لأجل هذا الهدف لن يوقف أي من حروب الجبهات السبع التي يخوضها قبل تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٦ وهو موعد الانتخابات التشريعية في إسرائيل، مخافة انهيار ائتلافه الحكومي وشراكته السياسية مع ايتمار بن غفير وبتلئيل سموتريتش. ثمة عامل آخر قد يكون دفع نتنياهو للقبول بالاتفاق، ولو على مضض، وهو أن توقف الأعمال القتالية، يُشكل فرصة لإراحة الجنود الذين قاتلوا في جبهات عديدة، في أطول حرب يشنّها الكيان منذ ولادته عام ١٩٤٨. إضافةً إلى هذا، فإنّ نتنياهو لا يحتاج إلى ذرائع كي يستأنف الحرب، تحت مسميات مختلفة.
ثالثاً: في الحسابات الفلسطينية:
لعلّ الضربة التي تلقتها قيادة حماس السياسية في الدوحة جعلتها تيقن أنّ عامل الوقت ليس لمصلحتها أبداً وأيقنت أيضاً أنّ إسرائيل ذهبت بعيداً في استهدافها خطاً أحمر كان من المُحرّم عليها الإقدام على تجاوزه سابقاً. ولعلً حركة حماس أدركت أنّه يستحيل الاستحصال على صيغة اتفاق أفضل ممّا عرض عليها في الآونة الأخيرة، وبخاصةً أنّ كل صيغ المقترحات التي عرضت عليها في السابق، منذ عهد إدارة جو بايدن، كانت تتدرج من سيىء إلى أسوأ. ثم أنّ الجناح العسكري الذي كان يتصلّب لتحصيل أفضل النتائج قد تم استهدافه من قبل العدو الإسرائيلي، ولم يبقَ منه الا القيادي عز الدين الحدّاد. وقد يكون هذا الأمر هو ما جعل موقف الحركة ليّناً أكثر وهو ما قد يفسّر استجابتها السريعة لمبادرة ترامب في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي. وفي هذا السياق، فإنّ حسابات الواقعية السياسية أملت على الحركة السير بنفس النهج الذي سار عليه حزب الله العام الماضي حينما قبل باتفاق وقف إطلاق النار على قاعدة الانحناء أمام العاصفة كي تمر، ويستفاد من هذا الوقت بعملية ترميم عسكرية وسياسية ولا سيما أنّ الحركة أحوج ما تكون لهكذا مراجعة بعد حرب ضروس خاضتها لمدة عامين متواصلين. إضافةً إلى ما ورد، فإنّ الحركة تعرضت أيضاً لضغوط من أطراف عربية وإسلامية، بدت وكأنها تلاقي الضغط الأميركي، في استعجال التوصل إلى تسوية تفضي إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين.
القضايا الخلافية
أما وقد وصلنا إلى نهاية مكتوبة للحرب، فإنّ غياب الضمانات لتطبيق بنودها وغياب الآليات التنفيذية والمهل الزمنية الواضحة يجعل اتفاق وقف النار في مهب الريح، وبخاصة أن المسائل الجوهرية لا اتفاق عليها، لناحية شكل وهياكل الحكم في غزة وإعادة الإعمار ونزع السلاح إذ أن مبادرة ترامب تقترح وصاية دولية على القطاع وطبعاً لن يرضى بها أي طرف فلسطيني في ضوء التضحيات الجسام التي دفعها الغزيون طوال العامين الماضيين.. إضافة لهذا، فإنّ السلوك الأميركي لرؤية الصراع العربي-الإسرائيلي وكيفية حله بدت وكأنها حبيسة الرؤية نفسها التي كانت تحكم هذا السلوك منذ أمد طويل، وهو ما يبشّر بإطالة أمد الصراع وليس حلّه. وسأتوقف عند أمرين هامين للاستدلال على هذا الأمر:
أولاً؛ تم ترحيل القضايا الخلافية إلى مرحلة ثانية وثالثة والاكتفاء أقلّه في هذه المرحلة بتبادل الأسرى بين الجانبين وهو الأمر الأسهل. إنّ ترحيل القضايا الخلافية وعدم البت فيها كحكم غزة ومستقبلها ونزع السلاح وإعادة الإعمار، يشبه ترحيل القضايا الخلافية أو التي سميت بقضايا الحل النهائي عقب توقيع اتفاق أوسلو والتي شملت آنذاك: القدس، اللاجئين، المياه، الحدود، المستوطنات والأمن.. إنّ تكرار هذا النمط الآن مع اتفاق وقف اطلاق النار يشي بأن الادارة الأميركية لا تزال تتبع الأسلوب نفسه في التأجيل والتسويف وترحيل القضايا الخلافية.
ثانياً؛ صرّح ترامب مراراً أنّه يأمل بانضمام السعودية ودول أخرى إلى مسار اتفاقات إبراهام. يشي ذلك بأنّ الادارة الأميركية، وبرغم كل ما جرى بعد ٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣، تصرُّ على تصفية القضية الفلسطينية من خلال تسويات مشبوهة وبيع أوهام السلام للدول العربية وإجراء عملية تطبيع شاملة مع الكيان وهو ما ينسي الفلسطينيين حقهم في أرضهم ودولتهم، كما يعتقدون. ينسى المسؤولون الأميركيون أو يتناسون أنّ محاولة شطب القضية الفلسطينية هي التي دفعت الفلسطينيين إلى خيار السابع من أكتوبر بعدما شعروا بانسداد الأفق السياسي أمامهم.
ختاماً، هل يدرك الأميركيون، ومعهم المجتمع الدولي، أنّ السير بهذا المسار إلى النهاية قد يدفع الفلسطينيين إلى تكرار ٧ أكتوبر مرة أخرى في سياق زمني لا يبدو أنه سيتأخر هذه المرة اذا أصر العالم على تجاهل حق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم ونيل استقلالهم وحريتهم.