

تُشكّل اللّحظة الرّاهنة منعطفاً تاريخيّاً في مسيرة الدّولة اللبنانية، حيث تتداخل العوامل الدّاخلية مع الضّغوط الإقليميّة والدّولية لتشكّل خليطاً متفجّراً يهدّد بزعزعة الاستقرار الهشّ الذي تعيشه البلاد. إنّها لحظةٌ مصيريّةٌ تتطلّب حكمةً وحنكةً ورويّةً في التّعامل مع التّحدّيات المترابطة التي تواجهها الدّولة اللبنانية.
إشكاليّة السّلاح والسّيادة
منذ انتهاء الحرب الأهلية، ظلّ لبنان يعاني من إشكاليّةٍ مقلقةٍ باستمرارٍ، وسؤالٍ يتردّد دائماً، من يملك حقّ احتكار القوّة؟ من يحقّ له أنْ يقرّر الحرب والسّلم؟ إنّها المعضلة التي حوّلت الدّولة إلى كيانٍ هشٍّ، حيث تتعايش سيادتان، سيادةٌ رسميّةٌ تمثّلها مؤسّسات الدّولة، وإلى جانبها سيادةٌ فعليّة تمثّلها تشكيلات غير نظامية. هذه الازدواجيّة لم تكن مجرّد ترتيبٍ أمنيٍّ عابرٍ، بل كانت انعكاساً لرؤًى متضاربةٍ للهويّة الوطنية والولاء والتبعيّة.
لقد أنتجت هذه الازدواجيّة واقعاً سياسيّاً معقّداً، حيث تتحوّل القرارات المصيريّة المتعلّقة بالحرب والسّلم إلى رهينةٍ لصراعاتٍ محلّيّةٍ ومن وراءها صراعاتٌ إقليميّةٌ تتجاوز الحدود اللبنانيّة. فصارت الدّولة اللّبنانيّة أشبه بـ”دولةٍ عميقةٍ” تواجه “دولةً أخرى عميقةً” في صراعٍ خفيٍّ على السّلطة والنّفوذ. هذا الواقع لم يؤدّ فقط إلى إضعاف مؤسّسات الدّولة، بل شلّ قدرتها على اتّخاذ القرارات السّياديّة المستقلّة التي تخدم المصالح الوطنيّة العليا.
من الدّولة العميقة إلى الدّولة الهشّة
تعود جذور أزمة السّيادة في لبنان إلى عقودٍ من التّاريخ المتشابك. فالدّولة التي نشأت بعد الاستقلال كانت هشّةً منذ البداية، تحمل في داخلها بذور الصّراع بسبب النّظام الطّائفيّ الذي قسّم السّلطة بين الطوائف. لكنّ التّحدي الحقيقيّ بدأ مع الاجتياح الإسرائيليّ عام 1982، وما تلاه من ظهورٍ لتشكيلات تزاوجت بين العمل العسكريّ والنّشاط السّياسيّ.
أمام لبنان فرصةٌ تاريخيّةٌ لإعادة تعريف نفسه، لكنّ هذه الفرصة لن تنتظره طويلاً. القرارات التي ستتّخذ في الأشهر القليلة القادمة ستحدّد مصير الأجيال القادمة. إمّا أن يختار اللبنانيون طريق الدّولة السّيادية القادرة على حماية مواطنيها والدّفاع عن مصالحهم، أو يظلّوا في دوّامة الصّراعات التي تلتهم حاضرهم وتسرق مستقبلهم
اتّفاق الطّائف الذي أنهى الحرب الأهليّة حاول معالجة هذه الإشكاليّة، لكنّه لم يستطع حلّ معضلة السّلاح. وقد تفاقمت هذه المعضلة بعد عام 2000 مع انسحاب إسرائيل من الجنوب، وبرز سؤالٌ جوهريّ: من يحقّ له حمل السلاح في دولةٍ خرجت من الحرب؟ الإجابة البديهيّة هي الجيش اللّبناني وغيره من مؤسسات الدولة الأمنية. لكن على الأرض، استمرّ السلاح في العمل تحت أشكالٍ ومبرّراتٍ شتّى.
متغيّرات اللّعبة الإقليميّة
المشهد الإقليميّ لم يَعُدْ يحتمل هذه الازدواجيّة. فالتّغيّرات الاستراتيجيّة العميقة تعيد ترتيب الأوراق، وباتت الدّول التي لا تملك رؤيةً واضحةً وسيادةً مطلقةً كالقوارب التّائهة في بحرٍ هائجٍ. لبنان اليوم أمام خيارين، إما أن يسعى لبناء دولةٍ حقيقيّةٍ بسيادةٍ كاملةٍ، أو يبقى رهينة الصّراعات الإقليميّة. لكنّ الخيار الثالث، وهو البقاء على الوضع القائم، لم يعد موجوداً في معادلة المنطقة الجديدة.
لقد أدّت المتغيّرات الإقليمية الأخيرة إلى إعادة تعريف التّحالفات والعداوات في المنطقة. فالدول التي كانت تدعم السّلاح بدأت تراجع حسابات هذا الدّعم تحت ضغوطٍ دوليّةٍ ومتغيّراتٍ في أولوياتها الاستراتيجيّة. كما أنّ طبيعة الصّراع مع إسرائيل قد تغيّرت، حيث أصبحت المواجهة العسكريّة المباشرة بين جيوشٍ نظاميّةٍ خياراً غير واردٍ في المدى المنظور.
ثمن الازدواجية والانهيار الشامل
لقد دفع لبنان ثمناً باهظاً لغياب السّيادة الحقيقيّة. تجلّى ذلك، في الاقتصاد المنهار، وهجرة العقول، وتراجع دور الدّولة في المحافل الدّوليّة. والأكثر إيلاماً أنّ اللبنانيين أصبحوا مشتتين بين ولاءاتٍ متعدّدةٍ، وبين رواياتٍ متضاربةٍ عن هويّتهم ومصيرهم. لقد حان الوقت ليدرك الجميع أنّ الدّولة القويّة ليست ترفاً، بل ضرورةً للبقاء في منطقة لا ترحم الضّعفاء.
إنّ الازدواجية في الولاءات أنتجت ازدواجيةً في المواقف السّياسيّة، ممّا أفقد لبنان قدرته على تطوير استراتيجيّةٍ وطنية موحّدةٍ للتّعامل مع التّحديات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فأصبحت القرارات الاقتصاديّة الكبرى رهينةً للصّراعات السّياسيّة، وتحوّلت مؤسّسات الدّولة إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات بين القوى المتنافسة. والنتيجة كانت كارثيّةً، ويعيشها اللّبنانيون يوماً بيوم.
تداعيات الانهيار
لم يقتصر تأثير أزمة السّيادة على المستوى السّياسيّ والاقتصاديّ فقط، بل امتدّ ليهزّ أسس المجتمع اللبنانيّ. فغياب الدّولة الفاعلة أدى إلى بروز الولاءات ما دون الوطنية، وزاد من حدّة الانقسامات الطائفيّة والمذهبيّة. وأصبح المواطنون يلجأون إلى الزّعماء الطائفيّين والقوى السياسيّة المُمْسِكَة بزمام السّلطة لتأمين حاجاتهم الأساسيّة وحماية أمنهم الشّخصيّ.
هذا التحوّل أنتج مجتمعاً مشتّتاً، فاقد الثّقة بالدّولة ومؤسّساتها. وأصبحت الهويّة الوطنيّة مجرّد غطاءٍ لهويّات فرعيةٍ متصارعةٍ. وهذا بدوره أدّى إلى علاقة طرديّةٍ بين الدّولة والهويّات الفرعيّة، إذ أنّه كلما ضعفت الدّولة، زادت قوّة الهويّات الفرعيّة، وكلما زادت قوّة الهويّات الفرعيّة، ضعفت الدّولة أكثر. كسر هذه الحلقة يتطلب جرأةً في إعادة تعريف العقد الاجتماعيّ بين اللبنانيين ودولتهم.
الطّريق إلى السّيادة
الطّريق إلى السّيادة يبدأ بالاعتراف بأنّ الدّولة هي الإطار الوحيد الشّرعي لتمثيل الشّعب واتّخاذ القرارات المصيريّة. هذا لا يعني إنهاء الاختلافات، بل يعني وضع إطارٍ جامعٍ لهذه الاختلافات. إنّه يعني بناء جيشٍ قويٍّ قادرٍ على حماية الحدود، ودبلوماسيّةٍ ذكيّةٍ تستطيع التّعامل مع المتغيّرات الإقليميّة، واقتصادٍ منتجٍ يخلق فرص العمل ويحفظ كرامة المواطن.
إنّ تحقيق السّيادة ليس مسألة شعاراتٍ بل مقاربةٌ متعدّدة الأبعاد تبدأ بتعديل الدّستور والنّظام الانتخابيّ لإضعاف الزّعامات الطّائفية وتعزيز مؤسّسات الدّولة الممثّلة الحقيقيّة للإرادة العامّة، وتتواصل ببناء جيشٍ وقوى أمنٍ داخليٍّ قادرَين على فرض السّيطرة على كامل التّراب الوطنيّ عبر تمويلٍ مستدامٍ وتدريبٍ متطوّر ٍوتحديثٍ تسليحيٍّ، وتترسّخ باقتصادٍ منتجٍ قائمٍ على العدالة الاجتماعيّة يوفّر فرص عملٍ للشّباب لئلّا تذوب شرعيّة الدّولة في غياب الحياة الكريمة، وتُحْفَظُ بسياسةٍ خارجيّةٍ تُوازِنُ بين المصالح الوطنيّة والابتعاد عن الانخراط في محاور الإقليم المتصارعة.
لكنّ الانتقال إلى دولةٍ ذات سيادةٍ كاملةٍ دونه عقباتٌ، تتمثّل في تمسّك القوى السّياسيّة والاقتصاديّة بامتيازاتها ما يجعلها تقاوم أيّ تعديلٍ يهدّد مصالحها، وفي غياب إجماعٍ وطنيٍّ حول ماهيّة السّيادة ودور الدّولة يتفاقم الانقسام المجتمعيّ ويعقّد مهمّة الإصلاح، بينما تُذَكّي التّدخّلات الخارجيّة النّزاعات الدّاخليّة بما أنّ لبنان ساحةٌ مفتوحةٌ على صراعات الإقليم، فوق كلّ ذلك يُجْهِضُ الانهيار الاقتصاديّ إمكان تقديم الدولة أبسط الخدمات لمواطنيها.
لحظة المصير
أمام لبنان فرصةٌ تاريخيّةٌ لإعادة تعريف نفسه، لكنّ هذه الفرصة لن تنتظره طويلاً. القرارات التي ستتّخذ في الأشهر القليلة القادمة ستحدّد مصير الأجيال القادمة. إمّا أن يختار اللبنانيون طريق الدّولة السّيادية القادرة على حماية مواطنيها والدّفاع عن مصالحهم، أو يظلّوا في دوّامة الصّراعات التي تلتهم حاضرهم وتسرق مستقبلهم.
الخيار ليس بين القوّة والضّعف فقط، بل بين الوجود والعدم. لبنان يستحق أن يكون أكثر من مجرّد ساحةٍ لصراعاتٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ. إنّه يستحقّ أن يكون دولةً حقيقيّةً، بسيادةٍ حقيقيّةٍ، لمستقبلٍ حقيقيٍّ.
لكنّ تحقيق هذا الحلم يتطلّب أكثر من الشّعارات والخُطَبِ الرنّانة. يتطلّب شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وجرأة مواجهة الحقائق المُرّة، وإرادة التّغيير الحقيقيّة. الأهمّ من ذلك، يتطلّب إعادة اكتشاف المعنى الحقيقيّ للوطنيّة، لدولةٍ قوية وقادرة وعادلة تحمي وتحترم وتوفّر حياةً كريمةً، بغضّ النّظر عن الانتماء الطّائفي أو السّياسيّ.
في النهاية، إنها معركة السّيادة الفاصلة؛ فإمّا أنْ تُحَقَّق فتطوى بذلك أزمنة التّراجع وتُشَرَّع أبواب الاستقرار المؤسّسي والازدهار المستدام، وإمّا الفشل، والبقاء في دوّامة الانهيار المتجدّد حتى يتلاشى الوطن، الخيار بين أيدي اللبنانيين، حكّماً ومحكومين، الخيار بين أيدي الجميع، وعقارب السّاعة لا تعود إلى الوراء.. والمهم أن لا يكون خيار كسر أو استقواء لأن نتيجته معروفة سلفاً.. هذا ما تقوله تجارب عديدة دفع اللبنانيون أثمانها غالياً.