

منذ اللحظات الأولى لانهيار نظام آل الأسد، يواجه النظام السوري الجديد تحديًا وجوديًا يتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي لم تتوقف تهديداته برغم تراجع نفوذه. هذا المشهد يكشف عن معضلة أعمق تتعلق بإعادة بناء مؤسسات الدولة وإرساء الشرعية في بيئة ممزقة، حيث الانقسامات الاجتماعية والجهادية المتجذرة تجعل من اختبار قدرة النظام على فرض الأمن والاستقرار تحديًا مصيريًا يشمل السياسة والأمن والمجتمع.
قدرة الشرع على قيادة سوريا في هذه المرحلة لا تتعلق فقط بخبرته العسكرية والسياسية، بل أيضًا بفهمه العميق للمنطق الجهادي، وقدرته على مواجهة “داعش” من الداخل، مستفيدًا من شبكاته السابقة ومعرفته بالتكتيكات والهيكل التنظيمي للتنظيم. هذه الخلفية، برغم كونها محل جدل داخلي وخارجي، تمنح النظام الجديد أدوات فريدة للتعامل مع تنظيمات متطرفة كانت تعتبره سابقًا خصمًا أو منافسًا، ما يجعل من تجربة الشرع اختبارًا غير مسبوق لقدرة سوريا على إعادة بناء مؤسسات الدولة واستعادة الأمن في بلد مزّقته الحرب والفوضى.
التحدي الأخطر الذي يواجه النظام الجديد هو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). فمنذ إعلان سقوط الخلافة عام 2019 وحتى 2024، بدا التنظيم في حالة انحسار، لكن انهيار النظام السابق وما رافقه من فوضى أتاح لـ”داعش” استعادة نشاطه بوتيرة متصاعدة. ويوضح تقرير “فورين أفيرز Foreign Affairs” بعنوان “عودة تنظيم الدولة الإسلامية” كيف أن التنظيم بدأ يعيد بناء شبكاته وإحياء نشاطه في سوريا بعد خروج الخلافة المكانية.
في المقابل، يعرض تحليل لمنظمة “كرايزيس غروب Crisis Group” بعنوان “احتواء داعش في وسط وشمال شرق سوريا”، كيف أن فقدان السيطرة على الأرض دفع “داعش” للتحول إلى حركة تمرد وانتشار عبر الكمائن والتفجيرات في البادية السورية ودير الزور والحسكة.
دولة الخلافة
مع اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، سرعان ما تحوّلت الحركات الاحتجاجية السلمية إلى نزاع مسلح متعدد الأبعاد. دخول البعد الجهادي إلى المشهد كان نتيجة عواملعدة. في هذا السياق، تأسست “جبهة النصرة لأهل الشام” في أواخر 2011 كفرع لتنظيم “القاعدة” في العراق بقيادة أبو محمد الجولاني، فيما كان أبو بكر البغدادي يعمل على توسيع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» نحو سوريا. وفي العام 2013 أعلن قيام “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) في خطوة رفضتها قيادات “القاعدة”، فظهر الانقسام الحاد بين “النصرة” و”داعش”، ودخل الطرفان في مواجهات دامية.
في حزيران/يونيو 2014، تمكن تنظيم “الدولة الإسلامية” من احتلال الموصل والعديد من الأراضي العراقية والسورية، وأعلن البغدادي دولة الخلافة الإسلامية، لتبدأ مرحلة جديدة توّجها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بشن حملة عسكرية، جوية وبرية (بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والجيش العراقي) أدت إلى انهيار “دولة الخلافة” عام 2017 لتستمر المعارك حتى استعادة معظم الأراضي التي احتلها التنظيم في العام 2019. لكن كما تشير تقارير “كرايزيس غروب Crisis Group“، فإن فقدان الأرض لم يُنهِ التنظيم، بل دفعه إلى إعادة التموضع كحركة تمرد/عصابات، تنشط عبر الكمائن والتفجيرات في المناطق الصحراوية والبادية.
نظام جديد وأولويات جديدة
في العام 2016، أعلنت “جبهة النصرة” تغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، ثم اندمجت مع فصائل أخرى لتشكيل “هيئة تحرير الشام”. ومع حلول 2024، كان المشهد معقَّدًا: تنظيم “داعش” يفقد سيطرته على الأرض، لكنه يحافظ على خلايا نشطة لا سيما في سوريا والعراق؛ “هيئة تحرير الشام” تسيطر على إدلب وشمال غرب سوريا؛ فيما راح النظام السوري يتآكل بسبب العقوبات برغم دعمه من روسيا وإيران وتمكنه من السيطرة على العديد من المناطق السورية. هذا المزيج من الفوضى والانقسامات وفّر الأرضية لانهيار النظام وصعود نظام جديد على أنقاضه في نهاية العام 2024.
الاحتضان الدولي والإقليمي للنظام الجديد جعل الحكومة السورية ملزمة بتقديم ضمانات، في مقدمتها مكافحة الإرهاب وحسم قضية المقاتلين الأجانب، احترام حقوق الأقليات، وفتح آفاق للحكم الانتقالي. بهذا الشكل، أصبحت الشرعية “مشروطة ومفصولة”، القدرات الأمنية محدودة، والتمثيل السياسي لا يحظى بإجماع، ما يضع النظام الجديد في موضع هش أمام اختبار مواجهة “داعش” وقضايا أخرى مثل معضلة السويداء وقضية السيطرة على مناطق “قسد” إلخ… وفي المقابل، قرّر النظام أن تكون الأولوية لإعادة بناء جهاز أمني قوي؛ استيعاب عناصر محلية في وحدات عسكرية جديدة؛ تنسيق استخباراتي مع الحلفاء، ومحاولات دمج عناصر من “قسد” والميليشيات المحلية في مؤسسات رسمية وإيجاد حل مقبول دولياً لقضية المقاتلين الأجانب.
تكتيكات “داعش”
انتهز تنظيم “داعش” الفراغ الأمني والسياسي الذي أعقب سقوط الأسد لإعادة بناء شبكاته، فارتفعت وتيرة التفجيرات والعمليات الصغيرة، وتزايد نشاطه الدعائي، إلى جانب محاولات استقطابه مقاتلين محليين وأجانب. وقد تجلّى ذلك في سلسلة هجمات استهدفت جنوب سوريا ضد الميليشيات المحلية والقوات الحكومية. وفي الوقت نفسه، حوّل التنظيم اهتمامه إلى البادية باعتبارها قاعدة لوجستية ونقطة انطلاق، مستفيدًا من طبيعتها الوعرة وصعوبة مراقبتها أو اختراقها.
وتبنّى “داعش” تكتيكات حرب العصابات، من كمائن وزرع عبوات ناسفة واغتيالات، إلى استهداف رموز السلطة والمناطق الهشّة. كما عمد إلى إذكاء الصراعات المحلية، سواء عبر تغذية التوترات السنية–العلوية، أو إشعال النزاعات في الجنوب بين فصائل محلية ومجموعات مسيحية ودرزية، مستغلًا ردود الفعل الانتقامية لتوسيع قاعدته. وإلى جانب ذلك، يُوظّف التنظيم دعاية إلكترونية متقنة تستهدف الداخل والخارج على حد سواء، لتشويه صورة النظام الجديد، وتعزيز التجنيد، والتحريض على شن هجمات عابرة للحدود.
وتتغلغل شبكات “داعش” في صحراء البادية السورية، الممتدة بين أرياف حمص ودير الزور والرقة، حيث يعتمد التنظيم أسلوب «الاختفاء والظهور». وتظل البادية أحد أهم مسارح إعادة انتشار التنظيم، ما يتيح له التحرك بحرية نسبيّة وتنفيذ عملياته بعيدًا عن المراقبة المكثفة. وتجسّد هذا الحضور بهجوم دمشق في 22 يونيو/حزيران 2025، عندما استهدف تفجير انتحاري كنيسة أرثوذكسية في العاصمة، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، وأظهر الهجوم قدرة “داعش” على الوصول إلى قلب العاصمة.
مكافحة “داعش”
في المقابل، يلعب التعاون الاستخباراتي الأميركي مع الحكم الجديد في سوريا، برغم محدوديته، دوراً محوريًا في مواجهة “داعش”. من خلال هذا الدعم الاستخباراتي واللوجستي، ساهم التحالف الدولي في ضرب مواقع التنظيم ومنعه من التمدد في مناطق استراتيجية. إلا أن الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية، الذي بدأ في 2024، يثير مخاوف من عودة قوية لتنظيم “داعش”، إذ يفقد السلطات المحلية دعامة استخباراتية أساسية في مواجهة خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”.. علماً أن الأمر لا يقتصر على القوة العسكرية وحدها، بل يتطلب بناء نهج متعدد الأبعاد. فالنظام الجديد يواجه بيئة معقدة تتسم بانقسامات طائفية، ضعف مؤسسات الدولة، نقص الموارد، وضغوط عسكرية خارجية، مثل الضربات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية.
ومن الناحية السياسية والاجتماعية، يُعد دمج المجتمعات المحلية وإشراك العشائر والمجتمعات الريفية في جهود مكافحة “داعش” خطوة أساسية لخفض التجنيد القسري وتعزيز الاستقرار المحلي. كما أن تقديم حوافز اقتصادية واجتماعية يساهم في تعزيز الولاء للنظام الجديد وتقليل دعم السكان للتنظيم. ومن منظور فكري وديني، لا غنى عن برامج تعليمية، والعمل مع قيادات محلية لتبني خطاب معتدل، ومواجهة الحملات الدعائية الرقمية التي تستهدف شرعية الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع.
التحدّي الاستراتيجي يكمن في التوازن بين الإدارة الأمنية والعسكرية وبين بناء شرعية حقيقية قادرة على احتواء الصراعات المحلية والمناطقية والإثنية. النظام الجديد مطالب بتنسيق استخباراتي مع التحالف الدولي، دعم التعاون الإقليمي، وضمان أن المكاسب الأمنية لا تذهب عبثًا في ظل ضعف الشرعية السياسية. فقط بهكذا مقاربة شاملة يمكن أن تُحقق سوريا الاستقرار الدائم وتمنع عودة “داعش” أو أي تنظيم متطرف من المس بسيادة الدولة السورية الجديدة.. وليس مستبعداً أن يكون المدخل إلى ذلك ما نراه من فرز ضمن المجموعات المسلحة المنضوية تحت عنوان السلطة الجديدة، وبعضها لا يبدو أنه ينسجم مع التوجهات الجديدة لأحمد الشرع.