

في زمن الانهيارات والخذلان، وسط مشاهد الدم المتدفّق في غزة، والعنف المؤلم في السويداء وغيرها، يقف القلب اللبناني موزّعًا بين الخوف على الداخل، والوجع لما يحدث في محيطه. وفي خضمّ هذا الغليان، لا يمكن لضمير حيّ أن يتجاهل ما قدّمه بعض أبناء هذا الوطن من تضحيات جسيمة في سبيل كرامته وأمنه، ولا يمكن الحديث عن السلاح إلا من زاوية الوفاء أولاً، لا من موقع الكيد السياسي أو تصفية الحسابات.
حين نتحدث عن المقاومة في لبنان، لا نتحدث عن مشروع طارئ، ولا عن حالة عابرة، بل عن مسار طويل من العطاء والفداء، عن دماء سالت على تراب الجنوب، عن قامات ارتفعت إلى السماء كي لا ينحني هذا الوطن أمام العدو. هي مقاومة وُلدت من رحم الاحتلال، ومن عجز الدولة في لحظة زمنية مفصلية، فكانت الجدار الذي وقف بيننا وبين أطماع العدو، وكانت العين التي لا تنام في وجه المدافع والطائرات. وهذه الحقيقة، مهما حاول البعض طمسها أو تشويهها، ستظل محفورة في وجدان كل من عاش مرارة العدوان، وكل من ودّع شهيدًا عاد ملفوفًا بالعلم لا بالشعارات.
نعم، لسنا في دولة مثالية. نعم، نريد بناء دولة قوية قادرة على احتضان كل أبنائها وسحب كل الذرائع من أي جهة. لكن هذا لا يعني أبدًا أن نُشيطن المقاومة، ولا أن نطعنها في الظهر تحت مسمى السيادة أو الحياد، فيما البلاد تُحاصر وتُهدّد من كل الجهات. إن التضحيات لا تُكافأ بالتشكيك، ولا بالانقلابات السياسية التي باتت ماركة مسجّلة لبعض القوى التي تنقل البندقية من كتف إلى كتف بحسب اتجاه الريح، وتغيّر خطابها كلما تبدّلت خارطة المصالح.
المطلوب ليس مفاضلة بين الجيش والمقاومة، بل شراكة وطنية حقيقية تصون ما تحقق، وتفتح الباب لبناء دولة تحمي الجميع، وتعترف بكل من ضحّى لأجلها

إن رفض حصرية السلاح بيد جهة غير الدولة لا يعني إلغاء دور المقاومة، بل يستوجب تنظيم هذا الدور ضمن رؤية وطنية شاملة تحصّن الوطن من الانفجار، وتمنع الانقسام. فنحن لا نريد أن يُستثمر هذا السلاح في الداخل، ولا أن يُستغل سياسيًا، بل نريده في مكانه الطبيعي: حيث وُلد، حيث عرفناه، حيث أحببناه، ودائماً في مواجهة العدو.
إن الوفاء للدماء المقاومة لا يعني التعصب، كما أن الخوف على الدولة لا يبرر النكران. المطلوب ليس مفاضلة بين الجيش والمقاومة، بل شراكة وطنية حقيقية تصون ما تحقق، وتفتح الباب لبناء دولة تحمي الجميع، وتعترف بكل من ضحّى لأجلها.
وفي لحظة عربية تشتعل فيها الجبهات، ويغيب فيها العمق العربي ويتعاظم فيها خطر التطبيع والفراغ والانقسام، يبقى لبنان في حاجة إلى مقاومة لا تتراجع، وإلى جيش لا يتخلى، وإلى شعب لا ينسى من قدّم روحه من أجل أن يبقى الوطن حيًّا، حرًّا، سيّدًا، مقاومًا.