

الإميراطورُ الرأسماليُّ يقودُهُ دوماً حصانان: جُنونُ الربح وجنوحُ الاستبدادِ، ومصادرةُ التاريخ. تسقُطُ عندَهُ بإزاءِ ذلك كلُّ القيم الإنسانيّةِ. ودونالد ترامب هو النموذجُ الأسواُ للرأسمايّةِ المتوحِّشةِ، إذْ تنطبِقُ عليهِ نظرةُ كارل ماركس، عندما رأى أنَّ “العَلاقةَ عكْـسيّةٌ بين الرأسـماليِّ الجشعِ والأخلاقِ الإنسانية، فكلَّما ازدادَ عندَهُ هوسُ الربحِ تناقصتِ الأخلاقيّاتُ”. وهذا ما أكَّدَهُ أيضاً إريك هوبزباوم (1917- 2012؛ مؤرِّخ بريطاني ماركسي)، في كتابهِ “عصر الإمبراطورية” (من 1875 إلى 1949)، ولا سيّما بعد تحوُّلاتِ الحربِ العالميّةِ الثانية.
هذه الحربُ، التي تحلُّ الذكرى الثمانون لنهايتها (9 أيَّار/مايو 1945- 9 أيَّار/مايو 2025)، بالانتصار ِعلى النازيّةِ بعد دخولِ الجيش الأحمر السوفياتي إلى برلين– هذه الحربُ- يريدُ ترامب أنْ يَسْطـُو عليها، ويُشَوِّهَ تاريخَها. ولا غرابةَ في ذلك. فالأباطرةُ القُدماءُ، والمُحْدَثُونَ، مَهووسونَ بمصادرةِ التاريخ: يريدونَ الاستيلاءَ على الماضي والحاضر معاً، خِدمةً لِراهنِهمِ الاقتصاديّ والسياسي. ولا يكتفُونَ بتشويهِ التاريخ، بل يمُدُّونَ أيديهم إلى الجغرافيا.
الشعب الروسي حسم الحرب
كيف يُزَوِّرُ ترامب التاريخ؟ وكيف تُشاركُ وسائلُ الإعلامِ الأميركية ُ- الصهيونيةُ في أحْبولةِ التزويرِ؟
قبلَ أسبوع من حلولِ ذكرى الانتصارِ السوفياتيّ على النازيّةِ، أطلقَ الإعلامُ الأميركي تصريحاتِ ترامب التي قامتْ على الركائزِ الآتية:
أوَّلاً؛ ادَّعى ترامب بأنَّ الولاياتِ المتحدةَ هي التي قدَّمتْ أَغْلى التضحياتِ من أجل هزيمةِ النازيّة، وهذا ليس صحيحاً.
ثانياً؛ عَقَدَ مُقارنةً خبيثةً، لا أساسَ تاريخيّاً لها، فأعلنَ أنَّ الولاياتِ المتحدةَ هي التي حسمَتِ الحربَ العالميّةَ الثانية. لقد أغفلَ كُليّاً دورَ الاتحادِ السوفياتي، وحتى دورَ الحُلفاءِ الغربيينَ، ونسَبَ كلَّ شيءٍ إلى أميركا ليقولَ، بأسلوبٍ مواربٍ وواهِمٍ، إنَّ بلادَه قادرةٌ الآنَ أيضاً على حسمِ مصيرِ العالم.
ثالثاً؛ اِعتمدَ ترامب أسلوبَ “غوبلز” الدعائيّ النازيّ، ومقولته الشهيرة: “أكذبْ، أكذبْ، أكذبْ.. فإنْ لم يصدِّقـْكَ كلُّ الناسِ، فسيُصدِّقُكَ بعضُهُم، أو قدْ تُشوِّشُ أذهانَ الجميع“. لكنَّ ترامب غفِلَ عن أنَّ العالمَ تيقَّظَ، ابتداءً من حراكِ فئاتٍ واسعةٍ منَ الشبابِ الأميركيين، مروراً بشرائحَ هائلةٍ في أوروبا وآسيا وأميركاً اللاتينية، فضلاً عن الشعبِ الروسي الذي لا ينسى تاريخَهُ؛ وهو الذي قدَّمَ ملايين الشهداءِ في الكفاح ضدَّ النازيّةِ.
حقائقُ التاريخ ِتُفنِّدُ اِدّعاءاتِ ترامب. ففي مثلِ هذه الأيام، قبل ثمانيةِ عقودٍ، شهِدَ العالمُ تَحوُّلاً تاريخيّاً تركَ بصماتِه على النصفِ الثاني منَ القرنِ العشرين. آنذاكَ اِنتهت الحربُ العالميةُ الثانيةُ بإسقاطِ النازية. الاتحادُ السوفياتيُّ (لا الدخول الأميركي المتأخِّر في المعارك في الجبهةِ الغربية) هو الذي حسمَ الانتصارَ في الحرب. الجيشُ الأحمرُ الشيوعيُّ أوْقفَ زحـفَ النازيّين على موسكو، وطـردَهمْ منـها (بحزم ستالين وخطط جوكوف)، وطاردَهم حتَّى بلـغَ برلـين، وأجبـرَهُم على الاسـتسلام (يوميِ 8 وَ 9 أيَّار/مايو 1945).
ما حدثَ في الساحةِ الحمراء يوم 9 أيار/مايو 2025 يدلُّ قَطْعيّاً على أنَّ الأحاديةَ القطبيّةَ الأميركيةَ انتهت، وأنَّ العالم المقبلَ هو عالمٌ الأقطابِ المتعدِّدة. ويبرهِنُ أنَّ الحربَ التجاريةَ التي أشعلَها ترامب، ثمَّ أتْبَعَها بتزوير التاريخ، لن تؤتِي له بثمارٍ
تلكَ هي الحقيقةُ الأساسية من حقائقِ الحربِ العالميّةِ الثانية، من دونِ أنْ نُنكِرَ أنَّ الحلفاءَ الغربيينَ (لا سيَّما بريطانيا، وفرنسا، ثمَّ الولايات المتحدة بعدَهما) قاتلـوا ألمانيا النازيَّةَ التي اجتاحتْ غرب أوروبا، واِحتلَّتْ باريس، وجعَلتْ لندن تُعاني منَ جحيم الغارات الجوية الألمانيّة. عُرِفَتْ هذه المعاركُ بتسمية “الجبهةِ الغربية”، التي انتصر فيها هتلر قبل أنْ يجمَحَ، ويُهاجمَ الاتحادَ السوفياتي، مكرِّرَاً خطأ نابليون مع روسيا، فهُزِمَ الأوَّلُ مثلما كان قدْ هُزِمَ الثاني. وفي الحالين كان الشعبُ الروسي هو من قدَّمَ الشهداءَ وحسمَ الوضعَ في أوروبا والعالم.
التزوير الترامبي للتاريخ
ترامب ارتكبَ في هذا المجالِ عمليّةَ تزوير فاضحةً عندما تجاهلَ أمرين:
– الهزيمة النكراء للحلفاء أمام النازيين في الجبهة الغربيّة.
– دخولُ الولاياتِ المتحدة الحربَ جاءَ متأخِّراً، إذْ كانتِ الجبهةُ الشرقية، من جهة الاتحادِ السوفياتي وشرقِ أوروبا قد بدأتْ تتكوَّنُ فيها عواملُ النصر على النازيّة، الذي تُوِّجَ بدخول الجيشِ الأحمر إلى برلين، ونزع العلم ِالنازيّ عن مبنى الرايخستاغ.
نزوعُ ترامب إلى تزوير التاريخ هو عمليّةٌ سياسيّةٌ محسوبةٌ، تريدُ الإدارةُ الأميركيّةُ توظيفَها في الوضع الراهن. يرغَبُ ترامب أنْ يوجِّهَ رسائلَ إلى روسيا المعاصرة من خلال الجبهة الشرقية نفسِها التي حقَّقَتْ فيها المرحلة السوفياتية انتصاراتٍ كبيرة، أي من خلال أوكرانيا، وإنْ يكنْ ترامب يُحاولُ التفاوض حالياً مع بوتين لإنهاء الحرب هناك بأقلِّ خسائر ممكنة للغربِ الأطلسي.
لن ينجح ترامب في هذه المحاولة، فالظروف الدوْليّةُ تغيَّرتْ كثيراً، والعوْلمةُ المُؤَمْركة سقطتْ، والماردُ الآسيوي بقيادةِ الصين يصعدُ بقوَّةٍ، وروسيا الدولةُ التي تحفظُ تاريخَها ودورَها- من القياصرة إلى السوفيات إلى مرحلة بوتين– تزداد رسوخاً في الدور العالمي. وما حدثَ في الساحة الحمراء يوم التاسع من أيار/مايو 2025 يدلُّ قَطْعيّاً على أنَّ الأحاديةَ القطبيّةَ الأميركيةَ اِنتهتْ، وأنَّ العالم المقبلَ هو عالمٌ الأقطابِ المتعدِّدة. ويبرهِنُ أنَّ الحربَ التجاريةَ، التي أشعلَها ترامب، ثمَّ أتْبَعَها بتزوير تاريخ الحرب الحرب العالمية الثانية، لن تؤتِي له بالثمار التي يتمنَّاها، وسيكونُ مُجبَراً على اتخاذِ خطواتٍ تراجعيةٍ، أو على مغامراتٍ هتلرية ونابليونية تتكرَّرُ فيها الهزائم.
الإدارة الأميركية غير قادرةٍ؛ بطبيعتِها الرأسماليةِ؛ على فهمِ العمقِ الحضاري للصين؛ بثقافتِها التراثيةِ والماركسيةِ الحديثة؛ ولا فهْم العمقِ الحضاري للتراث السُلافي الروسي، ولا للتجربةِ السوفياتية. ومن ثمَّ، فإنَّ التزوير الترامبي للتاريخ سيبتلعه التاريخ نفسُه. ولن يكونَ مصيرُ الإمبراطوريةِ الأميركية سوى مصيرِ الإمبراطورية الرومانيةِ القديمة. وليس بسيطاً أنْ يتنبَّاَ بذلك الاقتصاديُّ الأميركيُّ ريتشارد وولف، الذي وصفَ بلاده بأنَّها “دولة مارقة“. فكيف ستصمُدُ ادعاءات ترامب؟