

لم ترد إيران على عملية الاغتيال الأميركية المهينة لسليماني والمهندس بطريقة متهورة. تجنبت “الرد المزلزل” على أبواب الحملة الانتخابية الأميركية التي ستبدأ بعد شهر (فبراير/شباط 2020) والتي كان دونالد ترامب يأمل بتجديد ولايته من خلالها، متظاهراً بأنه الرئيس القوي الذي قتل قائد “داعش” أبو بكر البغدادي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، وقاسم سليماني القائد العسكري لـ”محور الممانعة”، وذلك رداً على الضربات القاسية التي تلقتها البواخر المدنية والحربية في مضيق هرمز وقصف السفارة الأميركية في بغداد في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 .
اقتصر الرد الإيراني على إطلاق عشرات الصواريخ على قاعدتين أميركيتين بعد اعلام الأميركيين مسبقاً (عين الأسد في الأنبار وأربيل في كردستان) نجم عنها إصابة 100 جندي أميركي بارتجاجات دماغية، بحسب وزارة الدفاع الأميركية. وكان قد سبقها قرار اتخذه البرلمان العراقي بسحب القوات الأميركية من العراق في أقرب وقت، والغت إيران بعد أيام من الرد العسكري كل القيود المفروضة على تخصيب اليورانيوم.
المرحلة الأولى
هذا الاختبار يتيح قياس ردود الفعل الإيرانية خلال حرب غزة المستمرة، ومدى تأثيرها على مجريات الحرب. سنستخدم أداة القياس هذه لمتابعة تطورات الموقف الإيراني من الحرب في مرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى؛ من 7 أكتوبر حتى مقتل إبراهيم رئيسي:
اندلعت حرب غزة في ظل قيادة المحافظين في إيران ورئيسهم المتشدد إبراهيم رئيسي الذي اتخذ موقفاً عالي النبرة من عملية “طوفان الأقصى” قائلاً: “زلزال ضرب اسرائيل”. وفي تصريح آخر قال: “غيّر “طوفان الأقصى” كل المعادلات في المنطقة ووسّع حدود المقاومة إلى العالم بأسره”.
وقال رئيسي بُعَيْدَ العملية “تُعبّر عن فشل استراتيجي إسرائيلي عسكري واستخباراتي”، وأضاف “الغرب الداعم لإسرائيل شريك في جرائمها”. وكان رئيسي قد ذكر عشية “الطوفان” في مقابلة مع شبكة “سي إن إن” أن التطبيع (السعودي) مع إسرائيل “طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية لكن هذه الخطوة لن ترى النجاح”..
سيستخدم السيد حسن نصرالله العبارة نفسها في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قبل خمسة أيام من هجوم 7 أكتوبر كما مرّ معنا من قبل.
هل يوحي هذا الكلام بأن “الجمهورية الإسلامية” ستكون طرفاً مباشراً في الحرب إذا اقتضى الأمر، في وقت ما وفي الظرف المناسب؟
ربما يصح هذا الافتراض في المرحلة الأولى من الحرب، حتى سقوط مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في 19 أيار/مايو عام 2024. بعد هذا التاريخ سيتغير الموقف تماماً، وستنتقل إيران من التعليق على الحرب بلغة عالية النبرة إلى استخدام لغة شديدة الواقعية كما سنلاحظ في السياق. والراجح عندي أن الموقف الإيراني من الحرب تدرج خلال الشهور الستة الأولى من الرهان على الانتصار الكبير إلى تجنب المشاركة فيها وذلك للأسباب التالية:
1-كانت طهران تعتقد أن الحرب ستنتهي بسرعة نسبية، جراء تدخل إقليمي أو دولي معطوفا على تعب إسرائيلي وتحركات شعبية لمصلحة فلسطين، أو تدخل من المؤسسات الدولية. وكان هذا الاعتقاد مبنياً على ايقاع الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، فقد دامت حرب العام 1948 تسعة أشهر وكانت أطول حرب بين العرب والدولة اليهودية، تلتها حرب السويس عام 1956 وقد دامت تسعة أيام، ثم حرب حزيران/يونيو عام 1967 وقد دامت ستة أيام، تلتها حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 التي استغرقت 3 أسابيع، ودامت حرب إسرائيل على لبنان عام 1982 ثلاثة أشهر. وحرب العام 2006 على لبنان أيضا 33 يوماً. هذه الأرقام تفضي للقول إن الحروب بين العرب وإسرائيل كانت تحسم بسرعة (باستثناء حرب 1948) لأن إسرائيل لا تتحمل نتائج الحروب الطويلة.
2ـفوجئت طهران خلال الأشهر الأولى، بتجميد الغرب للقانون الدولي وتعطيل كل المؤسسات الدولية لمصلحة إسرائيل، وبالتالي صعوبة الحراك الدبلوماسي دفاعاً عن غزة وإدانة إسرائيل واضعافها.
كان واضحاً أن الغرب يريد إعطاء بنيامين نتنياهو الفرص التي يريدها لإنهاء الحرب بانتصار إسرائيلي مطلق. لذا نلاحظ أن الرئيس السابق جو بايدن كان يردد مراراً خلال الأشهر الستة الأولى: الحرب تتوقف فوراً إذا قرّرت حماس القاء أسلحتها. هذا يعني أن الحرب بنظر القوة الأعظم في العالم تنتهي فقط بانتصار إسرائيلي وهزيمة قاطعة لحماس على الأقل، وعندما نقول بنظر أميركا فهذا يشمل حلفاءها الغربيين أيضا بمن فيهم فرنسا التي اقترح رئيسها ايمانويل ماكرون في بداية الحرب تشكيل تحالف دولي لقتال حماس على غرار التحالف الذي أدى إلى الانتصار على داعش وأصدرت فرنسا مذكرة قضائية بمحاكمة كل مواطن يعتبر “حماس” حركة مقاومة!
3ـلم تحسب إيران ولا أطراف المحور أن حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف هي حكومة حرب ولم تُقَدِّر كما ينبغي معنى اعتداءاتها المتكررة وغير المسبوقة على المسجد الأقصى، السبب المباشر لهذه الحرب. ويزيد في عدوانيتها وتطرفها حصولها على أمان نيابي في برلمان يسيطر عليه المتشددون.
4ـلم يتضح أن “محور المقاومة” قد وضع خططاً جدية للتعاطي مع الحرب، على الرغم من الأحاديث المرسلة بكثافة، عن التنسيق بين أطرافه وعن خطط باجتياح الجليل الأعلى، ما يفرض على إسرائيل القتال على جبهات بالجملة، فيتشتت جيشها وتفتقر إلى هامش واسع للمناورة.
5-لم تقع انتفاضة في الضفة الغربية، ولم تتحرك مناطق العام 1948 في سياق انتفاضة كبيرة. واعتمدت السلطة الفلسطينية موقفًا واضحاً إزاء حماس مفاده أن ما يدور في غزة هو حرب حماس وليست حرب الشعب الفلسطيني.
وعندما تدخلت الصين لإصلاح الحال بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية ورعت اتفاق بكين في 23 تموز/يوليو عام 2024 لم يلتزم أي من الطرفين بما ورد وكأن الاتفاق لم يكن.
6-تحركت الدول العربية لدعم غزة تحت سقف السلطة الفلسطينية، وإذا كان الشارع العربي قد شهد حراكاً هنا أو هناك دعماً لغزة، فإن ذلك الحراك كان ضعيفاً ولم يشكل عنصر ضغط على البلدان العربية، في وقت كانت فيه المؤسسات الدولية معطلة، والقانون الدولي مكبلاً بإملاءات أميركية وبالتالي كل حديث في حينه عن الضغط على المجتمع الدولي لوقف الحرب هو أشبه بصب الماء في منخل.
7ـما ينطبق على بلدان الجامعة العربية ينطبق على دول المؤتمر الاسلامي التي تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وتتحرك تحت سقفها السياسي.
8-كانت إيران قد تلقت خلال هذه الشهور، تحذيرات واضحة من الولايات المتحدة والدول الغربية، بوجوب عدم التدخل في هذه الحرب وعدم توسيع اطارها. وإذا كان صحيحاً أنها لم تذعن، فإنها بالمقابل أدركت أن حرب غزة مرشحة للبقاء إلى أجل غير محدد تحت هذا السقف وفي ظل هذه الشروط، على الرغم من حركة التعاطف الشعبية العارمة في الدول الغربية دفاعاً عن مأساة غزة التي تجاوزت كل ما سبقها في الشرق الأوسط.
9-بالمقابل، كانت إسرائيل بحاجة ماسة لتوسيع إطار الحرب واستدراج إيران لخوضها فتكون فرصة لإخراج الحرب من ثنائية الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية إلى حرب محاور تؤدي إلى هزيمة إيران ومحورها والتخلص إلى الأبد من مشروعها النووي.
اختبار القنصلية الإيرانية
التزمت إيران خلال الشهور الستة الأولى أقصى درجات الحذر، والتزمت أطراف محورها (حزب الله، الحشد الشعبي، وأنصار الله) بسقف عمليات اسناد عسكرية مشروطة بوقف الحرب على غزة.
حاولت إسرائيل أن تستدرج المحور إلى حرب أوسع، وردود فعل ينجم عنها قتل عدد كبير من المدنيين الإسرائيليين أو اجتياح الجليل، الأمر الذي يستدعي تدخل واشنطن وحلفائها لنجدة الدولة العبرية. محاولة الاستدراج الأولى تمت في 2 يناير/كانون الثاني عام 2024 عبر اغتيال صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس في قلب ضاحية بيروت الجنوبية.
هذا الاستهداف برّرته إسرائيل بالقول انها في حالة حرب مع حماس التي تطلق صواريخ من لبنان وأن من حقها استهداف قادة الحركة أينما وجدوا بحسب نتنياهو.
لكن الاستهداف وضع معادلة الضاحية/تل أبيب التي رسمها حزب الله موضع اختبار. لم يرد الحزب بقصف تل أبيب واكتفى بالرد على قاعدة عسكرية إسرائيلية استراتيجية. وبدا أن معادلات الحزب في مواجهة إسرائيل ليست مقدسة وبالتالي يمكن عدم الالتزام بها، هذا إلى جانب استهداف العشرات من أعضاء الحزب ومقاتليه في جنوب لبنان والبقاع.
في هذا الوقت كانت الدولة العبرية تقصف بشكل دوري مواقع تابعة للحرس الثوري في سوريا، من دون أن تصدر ردود فعل سورية متناسبة، ومن دون أن تصدر عن المحور ردود فعل دفاعية عن سوريا، وبدا من خلال هذه العمليات الاستفزازية أن إسرائيل تمسك بزمام المبادرة وبات على أطراف المحور الخضوع لاختبارات متتالية مع كل ضربة.
الاختبار الأهم والأخطر وقع في 13 أبريل/نيسان عام 2024 عندما ضربت إسرائيل مبنى ملحقاً بالقنصلية الإيرانية في دمشق ما أدى إلى مقتل محمد رضا زاهدي أحد القادة الكبار في فيلق القدس وعدد آخر من قادة الحرس الثوري.
ما كان بوسع إيران ممارسة الصبر الاستراتيجي تجاه إهانة من هذا المستوى وقد عبّر عن ذلك رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي بقوله “سينال الكيان ومن يدعمه عقوبة حتمية على جرائمهم الوحشية”.
لم يتأخر الرد الإيراني طويلاً، وتمثل بزخات من المسيرات والصواريخ الباليستية مع تحديد ساعة الرد في 19 أبريل/نيسان 2024. كان الرد بعيداً جداً عن “العقاب الحتمي” لكنه أظهر في الوقت نفسه حجم ونوع القدرة الإيرانية الرادعة. وكشف في الجهة المقابلة عن تكتل غربي وعربي قادر وراغب في حماية إسرائيل من الهجمات الإيرانية المقبلة.
10-استناداً إلى ما ورد أعلاه، ستقرر إيران الخروج من الصراع، تجنباً لحرب تستدرج إليها وتطيح بنظامها وربما بوحدة أراضيها، ناهيك عن أن شطراً كبيراً من الرأي العام الإيراني لا يؤيد حرباً تدافع فيها إيران عن فلسطين وتدفع ثمناً باهظاً، في حين تقف الدول العربية والإسلامية في مكان بعيد عنها؛ الدول نفسها التي وقفت إلى جانب الرئيس العراقي صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية المدمرة.
المرحلة الثانية
المرحلة الثانية؛ من انتخاب بزشكيان إلى اغتيال نصرالله:
في ذروة التوتر بين إيران وإسرائيل على أثر ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق وقع حادث غريب الاطوار في مقاطعة إيران الآذرية على حدود دولة أذربيجان، بعد زيارة قام بها إبراهيم رئيسي إلى هذا البلد الحليف لإسرائيل.
انتشرت تكهنات واسعة حول العملية من بينها أن الطائرة أسقطها الموساد الإسرائيلي عبر جهاز “بايجر” كالذي انفجر من بعد في مئات المقاتلين من حزب الله، ونسبت العملية إلى مكتب الموساد في باكو العاصمة الآذرية.
نفت إيران هذه التكهنات وأكدت في تقرير رسمي حول الحادث صدر في أول سبتمبر/أيلول عام 2024 أن مروحية رئيسي سقطت جراء ظروف مناخية صعبة، وأن لا أثر لمتفجرات أو رصاص في هيكلها، ولا آثار غريبة في محادثات طاقمها مع برج المراقبة في المنطقة.
كائناً ما كان السبب في مقتل رئيسي، فإن خليفته سينقل السياسة الخارجية الإيرانية تجاه غزة إلى مكان مختلف تماماً، بل سينظم خروج إيران من موقعها، في أو على حافة الحرب إلى مكان خلفي أبعد بكثير.
والملفت للانتباه في الانتخابات الرئاسية المبكرة التي تلت مقتل رئيسي استبعاد مرشحين متشددين من التيار المحافظ وبخاصة محمود أحمدي نجاد الذي كان يدعو لـ”زوال إسرائيل”، ما يعني أن مجلس صيانة الدستور الذي يأذن بالترشيح ويصادق على المرشحين، فتح الباب واسعاً أمام المعتدلين الذين يشبهون محمد جواد ظريف والذين يريدون ابعاد إيران مسافات طويلة عن حرب غزة.
بزشكيان لا يلتقط أنفاسه
ومع انتخاب مسعود بزشكيان في تموز/يوليو 2024 في خضم حرب غزة، التقطت إسرائيل الرسالة واغتنمت الفرصة لتشديد الضربات على “محور الممانعة”، وعلى إيران نفسها، معتبرة أن التغيير الذي شهدته الجمهورية الاسلامية ينطوي على شعور بالهزيمة ورغبة بالخروج من الحرب أو تجنبها.
لم تسمح إسرائيل للرئيس الإيراني المنتخب بالتقاط أنفاسه، فقد بادرت في 30 تموز/يوليو إلى اغتيال قائد حزب الله العسكري فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، واغتالت في اليوم التالي إسماعيل هنية رئيس حركة حماس في طهران. توعدتْ إيران بالرد على هذه العملية، لكن الرئيس الإيراني المنتخب تابع تصريحاته التراجعية ومن ضمنها تقديم عرض بـ”وضع أسلحة إيران وإسرائيل جانباً وايكال أمن المنطقة لقوة محايدة”.
على الرغم من نفي هذا التصريح لاحقاً، فإن تصريحات أخرى ادلى بها بزشكيان كانت تذهب في الاتجاه نفسه، وبخاصة تلك التي أطلقها في نيويورك خلال مقابلة هي الأولى من نوعها مع وسيلة اعلامية أميركية (“سي. إن. إن”. في 24. 9. 2024)، وقال فيها: “لا نريد أن نكون سببا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. نريد أن نعيش بسلام ولا نريد الحرب. إسرائيل هي التي تسعى إلى خلق هذا الصراع الشامل”.
وأضاف بما يشبه اعلان سحب حزب الله من الحرب “حزب الله لن يقف بمفرده في مواجهة إسرائيل التي تدعمها وتدافع عنها وتزودها بالإمدادات دول غربية وأوروبية فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية”. جاءت هذه التصريحات غداة اغتيال وجرح الآلاف من قيادات وعناصر حزب الله بتفجير أجهزة “البيجرز” في 17 أيلول/سبتمبر واغتيال القائد العسكري للحزب إبراهيم عقيل (عبد القادر) ومعه كل هيئة أركان “فرقة الرضوان” في 20 أيلول/سبتمبر 2024.
سيتم اغتيال السيد نصرالله بعد ثلاثة أيام من تصريح بزشكيان في 27 أيلول/سبتمبر.. وستغتال إسرائيل الشيخ نبيل قاووق قائد الأمن الوقائي في الحزب في 29 أيلول/سبتمبر.
ومن المعلوم أن إسرائيل زعمت قبل الحرب وخلالها، أنها كانت ترصد تنقلات نصرالله ومقراته، ولربما كانت تخشى أن يؤدي اغتياله إلى اشتراك إيراني مباشر في الحرب، ولربما اختارت توقيت الاغتيال بعد اعلان بزشكيان في نيويورك ما يشبه الخروج من الحرب، وترافق ذلك مع قرار قيادة حزب الله بفصل جبهة الإسناد اللبنانية عن حرب غزة والتفاهم مع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي بالتوجه إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة شخصياً لإعلان موقف لبنان، غير أن نتنياهو وبدل اعلان قرار وقف الحرب مع لبنان، قرر المضي بها ووقع قرار اغتيال السيد نصرالله في مقر البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة.
رسائل إيران النارية
قرّرت إيران الرد على اغتيال هنية ونصرالله بهجوم صاروخي غير مسبوق على الدولة العبرية. أطلقت 180 صاروخاً من عيارات مختلفة طالت مواقع عسكرية وأمنية أساسية، من دون أن تتمكن أجهزة الدفاع الجوي الأميركية والإسرائيلية والحليفة من اعتراض القسم الأكبر منها. في هذا الوقت بدا أن إيران على وشك الانخراط المباشر في الحرب وأن الكلمة العليا في البلاد صارت للحرس الثوري والتيار المحافظ.
ما كان بوسع إيران أن تسكت على الرد الإسرائيلي المتغطرس على عرضها بالخروج من الحرب هي وحزب الله والتفاوض مع واشنطن على صيغة ما لهذا الخروج، علماً أن العرض تم بعد اغتيال إسماعيل هنية قائد حماس في طهران، وقائد حزب الله العسكري فؤاد شكر، ثم قيادة أركان الحزب. لقد فهمت إسرائيل من العرض الإيراني أنه إشارة ضعف وبالتالي على تل ابيب أن تطلق رصاصة الرحمة على أطراف “المحور” في غزة ولبنان.
لن تتوقف إسرائيل عن توجيه الضربات القاسية لحزب الله برغم الهجوم الإيراني الصاعق، فقد اغتالت في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024 السيد هاشم صفي الدين خليفة السيد نصرالله في الأمانة العامة.
سيقاتل حزب الله في الأسابيع التالية قتال الانسحاب من الحرب إن جاز التعبير، وسينفذ أعمالاً بطولية ما كانت كافية لأن تغيّر مسار الحرب ولا في نتائجها. في الوقت نفسه، لن تتوقف إسرائيل عن ملاحقة أعضاء الحزب ومستودعاته ولا سيما في جنوب لبنان والبقاع وذلك حتى لحظة كتابة هذه السطور.
لقد أدى خروج إيران من حافة الحرب في غزة إلى فتح مفاوضات جديدة مع الإدارة الأميركية حول ملفها النووي، بعد استعراض قوتها وبخاصة في الضربة الأخيرة (أكتوبر 2024) التي أدت إلى تجميد الحياة في كل أنحاء إسرائيل خلال ليلة طويلة من دون أن تتمكن وسائل الدفاع الإسرائيلية والغربية من اسقاطها أو الحد من زخمها. كانت تلك رسالة مهمة للولايات المتحدة الأميركية التي ما عادت راغبة في خوض حروب جديدة في الشرق الأوسط، ولو خاطرت، لن يكون بوسعها تحقيق الحلم الإسرائيلي بتدمير إيران كما دمّرت العراق وأفغانستان من قبل.
هل كان قرار حزب الله بالاسناد في محله أم لا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقة الخامسة.