مسمار ترامب الأخير فى نعش النظام الدولى

منذ عودته إلى الحكم قبل ثمانية أشهر، لا يمر يوم دون أن يفاجئ دونالد ترامب أمريكا والعالم بتصريح أو قرار تنفيذى أو موقف سياسى من العيار الثقيل. إلا أن خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذى ألقاه على مدى 54 دقيقة يوم الثلاثاء الماضى، فاق كل ما سبق سواء من حيث أهميته أو تبعاته على العالم أجمع.

تمتع دونالد ترامب بصراحة زائدة تخللتها عدة أكاذيب ومبالغات وادعاءات اعتادها متابعو البيت الأبيض. وتجرأ ترامب على قول ما لا يجرؤ غيره من قادة وملوك الدول على الإفصاح به، وعبّر عما يعتقده الملايين حول العالم من غياب الأهمية الفعلية والفاعلة للأمم المتحدة. إلا أن ما لم يذكره ترامب هو حقيقة أن بلاده هى أكثر دول العالم لجوءًا إلى حق النقض (الفيتو)، الذى يعرقل عمل مجلس الأمن، وهو الجهة الأكثر أهمية داخل منظومة التنظيم الدولى، وبخاصة فى شقه الأمنى.

***

لم يفصل ترامب فى خطابه بين ما هو داخلى أمريكى وما هو خارجى عالمى، ولم يفصل كذلك بين ما هو أمريكى وبين ما هو أوروبى. وسخر ترامب من النظام الدولى الذى بنته ورعته بلاده على مدى أكثر من ثمانية عقود. سخر من النظام الدولى الليبرالى القائم على القواعد، الملتزم بعالم مفتوح قائم على المجتمعات الحرة والتجارة الليبرالية، والاستعداد، فى بعض الحالات، للدفاع الجماعى عن هذا النظام.

يؤمن ترامب أن دور بلاده العالمى، وهى القوة الأكبر عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا، يجب أن يكون قوميًا أحاديًا حمائيًا سياديًا. ولا يكترث ترامب بمفهوم أو بوضعية «القيادة الأمريكية للعالم»، وعلى النقيض من رؤساء أمريكا السابقين، الديمقراطيين منهم والجمهوريين، نادرًا ما يتحدث ترامب عن القيادة العالمية الأمريكية، ناهيك عن المسئولية النابعة من هذه القيادة

على مدى السنوات الثمانين الماضية، أنشأ الغرب بقيادة واشنطن العديد من المؤسسات لتعزيز أهدافهم المشتركة، ومن أبرزها حلف شمال الأطلسى (الناتو)، ومجموعة الدول السبع، والاتحاد الأوروبى، ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (OECD). وبالقدر نفسه من الأهمية، قام الغرب بتنسيق مواقف السياسات ضمن أطر متعددة الأطراف أكثر شمولًا، مثل الأمم المتحدة ووكالاتها، والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين.

صمد النظام الدولى أمام أزمات ضخمة على مدار تاريخه، من أبرزها أزمة السويس عام 1956، وتحدى الرئيس الفرنسى شارل ديجول لهيكل القيادة المتكاملة لحلف شمال الأطلسى فى الستينيات، وأزمة الصواريخ الكوبية، وإلغاء الرئيس ريتشارد نيكسون لمبدأ الغطاء الذهبى فى بنك الاحتياط الفيدرالى عام 1971، وأزمة تجاهل واشنطن للقانون الدولى وغزوها العراق وأفغانستان.

لكن أمام هذه الاختبارات التاريخية، يبدو أن وصول ترامب، مرة أخرى، إلى البيت الأبيض، وتبنيه الكامل لمبدأ «أمريكا أولًا» فى السياسة الخارجية والاقتصادية والأمن القومى، سيكون الاختبار الأصعب وربما الأخير أمام النظام الدولى الحالى.

***

يؤمن ترامب أن دور بلاده العالمى، وهى القوة الأكبر عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا، يجب أن يكون قوميًا أحاديًا حمائيًا سياديًا. ولا يكترث ترامب بمفهوم أو بوضعية «القيادة الأمريكية للعالم»، وعلى النقيض من رؤساء أمريكا السابقين، الديمقراطيين منهم والجمهوريين، نادرًا ما يتحدث ترامب عن القيادة العالمية الأمريكية، ناهيك عن المسئولية النابعة من هذه القيادة.

ولا يخفى ترامب احتقاره لمفهوم العمل الدولى الجماعى، والتعددية والقانون الدولى، كما أنه لا يهتم كثيرًا بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتنمية العالم الثالث، وقد فكك بالفعل قدرة الولايات المتحدة على الترويج لها فى الخارج. وتنصل ترامب من دور بلاده فى المساهمة فى المنافع العامة العالمية، بما فى ذلك التجارة المفتوحة، والاستقرار المالى، والتخفيف من آثار تغير المناخ، والأمن الصحى العالمى، ومنع الانتشار النووى. كما تخلى ترامب عن أوروبا، ويقول: انظروا، إذا كان هناك تهديد روسى، فهو أكبر لألمانيا وفرنسا منه بالنسبة للولايات المتحدة. لذا فعلى ألمانيا وفرنسا إنفاق المزيد، بدلًا من عقد صفقات تجارية مع روسيا. يتوسل الأوروبيون إلى ترامب ألا يعقد صفقة مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على حساب أوكرانيا أو على حسابهم. ويريد ترامب شيئًا مشابهًا فى شرق آسيا. لذا يود أن يرى اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية تأخذ زمام المبادرة من أجل بناء تحالف مناهض للصين أو لاحتواء الصين.

***

تبوأ ترامب بصورة واضحة قيادة التيار اليمينى المسيحى الغربى يوم الثلاثاء الماضى؛ تحدث أمام العالم عما اعتبره مظلومية «المسيحية»، والتى أرجع أسبابها إلى الهجرة من عالم الجنوب غير المسيحى إلى الشمال الغربى المسيحى، وما يتبع ذلك من تغيرات اجتماعية وثقافية يرفضها ترامب واليمين الغربى من ورائه. وحذر ترامب بصورة مباشرة دول الغرب من مصير قاتم ينتظرها إذا لم تغلق حدودها وتتبع ما يتبناه من سياسات داخل الولايات المتحدة.

حذر أيضًا من تلاشى قوة الغرب، وبشر بعالم أقل سلامًا وأقل تعاونًا من العالم الذى صنعته واشنطن والغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وركز ترامب كذلك على قضيته المميزة المتمثلة فى السيطرة على الهجرة، وقال إن الأمم المتحدة «تمول هجومًا على الدول الغربية» من خلال تشجيع الهجرة عبر الحدود. وأضاف أنه فى عام 2024، خصصت الأمم المتحدة ميزانية قدرها 372 مليون دولار لمساعدة أكثر من 600 ألف مهاجر يأتون بشكل غير قانونى إلى الولايات المتحدة، وقال: «من المفترض أن توقف الأمم المتحدة الغزوات، لا أن تخلقها ولا أن تمولها».

إقرأ على موقع 180  إبادة أهل غزة.. هل ستكون لعنة على إسرائيل؟

***

فى النهاية، يوفر القضاء على النظام العالمى القديم، وما يتبعه من تبلور نظام جديد قيد التشكيل، فرصة نادرة للدول القائدة إقليميًا لبناء شبكات جديدة من التعاون الإقليمى. وتنتظر الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل والسعودية وتركيا مساحة واسعة من الحرية لقيادة أقاليمها المباشرة فى هذه المرحلة الانتقالية المضطربة. ويمكن لمصر، إن أرادت فعلًا وليس قولًا، أن تصبح ضمن هذه الدول التى عليها استغلال فرصة انهيار النظام الدولى القديم.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز" عن غزة والشارع العربي: الغضبُ الساطعُ آتٍ!