“من يدقُّ الجرس”؟

ما زالت الشمس تشرق، كما في كلّ ِيوم، والحديد الأسود للمُسيَّرة التي رابطت فوق قطع الإسمنت يلمع، وأنا أنقل قدميَّ تحت قطع إسمنت السقف الكبيرة والصغيرة، ومتعدِّدة الأشكال، بحذر، وأنظر من النافذة التي كُسر زجاجها، وقُلع حديدها، إلى الشمس الصفراء، المريضة، ويغمرني صوت ابنة طريف: "أيا شجر الخابور، مالك مورقاً، كأن لم تحزن على ابن طريف".

قطع الزجاج تتكسر تحت قدميّ؛ المقاعد والمناضد المكسرة، تنظر إليَّ، وأسمعها تهمس: الاَن جئت؟ أين كنت؟ هربت، وتركتنا؟ لن ندعك تمرُ.

ماذا أقول لها؟ صحبة عمر. وحكايات سمر وسهر. هنا قرأت، هنا كتبت، هنا تربعت كؤوس الشاي، هنا دارت نقاشات، هنا ضحكنا، هنا غضبنا، هنا بكينا. هنا مشى حبيبنا، لأول مرة، وصفقنا له، وقبلناه جميعنا، هنا فازت الجميلة، ونوَّرت، هنا كانوا، وكانت صورهم، هنا…

همسات تخزني: لا، لا تدسنا، صرنا قطعاً وفتافيت، صرنا، تحت قطع السقف، ما عاد سقفاً يحمينا، صار قطع اسمنت تُحاكينا.

المكتبة أمامي، لا أستطيع الوصول إليها، كتبٌ مرميَّة، كتبٌ تطلُّ، تقول: اشتقنا. أقول: كيف يصل الحبيب إلى حبيبه، وبينهما خطوات؟ خشب خزانتها قطع تختلط بكتبٍ ممزقة، أوراق “منعوفة”، وفي صدري ما تلاعبه ريح مخارز.

الهواء يطيُّر الأوراق. كنا نقول: هواء بلادي ما أحلاه! هو، الاَن، طريٌّ ناعمٌ مثل ريش نعام، تريحني تنهيدة، وأمسح دمعتين، لكني لم أطلهما، بقيتا تتحركان، ولم تخرجا، ما زالتا مقيمتين.

تطير ورقة، تعلو، مددت يديَّ، أمسكتها. منتَّفةٌ أطرفها، “مُجَعلكة”. حضنتها بكفَّيَّ، وجلست على مقعدي. كان قربي، كأنَّه كان ينتظرني. تكسرت رجلاه الباقيتين. صرنا معاً على الأرض.

علت أصوات، حسبتها، لا أعرف ماذا حسبتها، ورأيت المُسيّرة تتحرك، وتعدِّل جلستها، وبدت لي ضخمة بأنياب مثل رؤوس الرماح، كأنها “الغول” الذي كانت جدتي تحكي لي حكايته.

أدرت لها ظهري، لا أريد أن أراها، في جلستي هذه، سخر منِّي صوت: أإذا أدرت لها ظهرك، لم تعد موجودة؟. لم أجبه، كانت الورقة تشغلني.

بسطت الورقة. عليها كتابة بخطِّ اليد. بالحبر الأزرق الصفحة كاملة، وفي الهامش، سطر واحد بالأحمر. قرأته: “سيكون لك شأن”، وتحته قرأت الرقم “١٥”. سرق نظري عنوان في رأس الصفحة: “من يدقُّ الجرس”؟

فتحت الذاكرة أبوابها:

هذه الورقة الأولى من دفترٍ، مؤلَّف من ست عشرة ورقة، ملأت صفحاته بقصة حملت هذا العنوان: “من يدقُّ الجرس”؟ وقدّمته لأستاذ اللغة العربية في صفِّنا، الأستاذ عبد الحميد بعلبكي، وكنت في الصفِّ الرابع، من المرحلة المتوسطة.

هذا الدفتر بقي معي. احتفظت به، لكن الدفتر الاَخر احتفظ به أستاذي، ولم يُعده إليّ، وظننت، في ذلك الوقت، أنَّ السبب يعود إلى أنّ ما كتبته يشيد بأمجاد العروبة.

كان ذلك الدفتر في أمان إلى جانب مخطوطات الشاعر والفنان عبد الحميد بعلبكي، في دارته، التحفة المعمارية، في قريته عديسة، جارة قريتنا مركبا، لكن العدوَّ، الوحش، قصف ذلك الجمال الطبيعي والمعماري والثقافي، ودمَّره، كما دمَّر بيتي الذي لا يقلُّ عنه جمالاً.

وعندما وقفت على الطللين، وأطلال قرانا، في ما بعد، لم يفارقني وقوف امرئ القيس وقوله: “قفا نبك، من حبيبٍ ومنزل”. وقفت، وبكيت، وبكيت، ولم أستطع قول الشعر. غصصت، والحبيب والمنزل يسكنان عينيَّ.

ما زلت أذكر، قرأ الأستاذ القصة، اَنذاك، وأعاد لي الدفتر، وهو يبتسم، وقال لي: اقرأ، واكتب، دائماً، مكتبتي في تصرفك، وإن فعلت، سيكون لك شأن، كما أتوقع، في قادم الأيام.

عندما التقيته بعد سنوات طويلة، قال لي: صدق توقُّعي، ما زلت أحتفظ لك بأمانة، لم أعدها إليك، في تلك الأيام، وهي ما تزال عندي.

                                                                       ركام منزل عبد الحميد بعلبكي في عديسة

التقيت أستاذي هذا في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ببيروت، بعد أن أنهيت إلقاء محاضرتي عن الأديبة العاملية زينب فواز. جلست إلى جانبه في القاعة التي يجلس فيها أصدقاء المجلس، بعد انتهاء النشاط الثقافي، يحتسون الشاي، ويتداولون في الشؤون الثقافية بدءاً من تقييم النشاط الذي أقيم في أمسية جلستهم تلك.

كنت في شوقٍ إلى لقاء أستاذي. فرحت بلقائه، وبحضوره محاضرتي، وازداد فرحي لما أخبرني أنَّ أمانتي عنده هي الدفتر المؤلَّف من ست عشرة ورقة، والمتضمِّن موضوع إنشاء عن أمجاد العروبة، وهو موضوع طُلب منا أن نكتب فيه بمناسبة حزبية، وكان الجميع اَنذاك: مدير المدرسة، الناظر، ومعظم المدرسين والطلبة، عروبيين، أعضاء في حزب البعث العربي الإشتراكي.

قلت له: صدق توقعك، والأمانات تُردُّ لأصحابها. قال، وهو يضحك: لأنَّ توقعي صدق، لن أعيد لك دفترك؛ هو، الاَن، مخطوطة محفوظة إلى جانب مخطوطات كثيرة محفوظة في مكتبتي، يمكنك رؤيته في خزانتي، وعرضت ابتسامته.

كان الأديب حبيب صادق، الأمين العام للمجلس، يصغي إلينا، فقال لي: لا تجادل من إذا قال فعل، يمكن أن يعطيك أيَّ شيئٍ تطلبه منه، ما عدا مخطوطة من المخطوطات التي يحتفظ بها، وهي كثيرة جداً.

إقرأ على موقع 180  تزايد حالات الانتحار لبنانياً.. هرباً من الواقع!

فقال لي أستاذي: هذا صحيح. أطلب ما تريد، سألبي طلبك، إن كان بإمكاني ذلك، ولكن أن أتخلى لك عن مخطوطة، فلا. وقال لحبيب الحبيب: هذا الصديق، الاَن، كان تلميذي، وكان يكتب ماينبئ بأنَّ له مستقبلاً، كتب قصة طويلة عن مجيئه من قريته مركبا إلى مدرسته في قرية كفركلا، مشياً على قدميه، وهو يعلق حقيبة كتبه في كتف، وزوَّادته في كتف.

كتب أنه مشى من قريته، والشمس لمَّا تشرق بعد، وعندما مرَّ بقرية عديسة، ومشى على الطريق الفاصلة بين الأرض المحتلَّة الواقعة إلى يمينه، وأرض كفركلا الواقعة إلى يساره، بدا له الفرق الكبير بين خضرة البساتين إلى اليمين، والعمال يعملون فيها باَلياتهم، وأشواك البلان والقندول والصخور إلى اليسار، تعجب، وحزن، وسأل: أين دولتنا؟ وتذكر ما قاله له الحج الكبير في السن: إنَّ تلك الأرض الخضراء، كانت لأبناء قريتنا، كفركلا، واستولى عليها الصهاينة عندما احتلوا فلسطين.

وعندما واصل السير، وصار أمام الجندي الذي كان يقف في مدخل القرية حاملاً بندقيته، سأله: لماذا تسمح لأولئك العمال بأن يستولوا على أرضنا، و..؟ قاطعه الجندي، بقوله: أسرع إلى مدرستك، لتصل قبل أن يدقَّ الجرس، ويعاقبك الناظر، وعندما تكبر تسأل عمَّن يدقُّ الجرس؟ فقال له: لماذا عندما أكبر؟ أنا، الاَن، كبير، وأسأل: من يدقُّ الجرس؟

سكتَ أستاذي للحظات، وأضاف: أحببت أن أحتفظ بذلك الدفتر، لكنه ألحَّ عليَّ كثيراً، فأعدته له، وما زال ذلك السؤال الذي طرحه الجندي والتلميذ لا يفارقني.

تكتكت المُسيَّرة. خطر لي أنها تدقُّ لي الجرس، وناداني بوق السيارة التي كانت تنتظرني في الخارج. شعرت بأشواك في حنجرتي، وبدموع تترقرق في عينيَّ. حضنتُ ورقتي، ونقلتُ قدميَّ، وقلتُ للأصوات التي علت: لا تفارقنا. قلتُ بصوتٍ عالٍ: دققنا الجرس، ولن نغيب طويلاً.

Print Friendly, PDF & Email
عبد المجيد زراقط

كاتب وباحث وأديب وروائي لبناني

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أيُ أميركا وأيُ عالمٍ.. سيحمل "ثلاثاء الانتخابات"؟