الصراع الإماراتي السعودي.. من شرارة المكلا إلى تفكك أسطورة “محور الاستقرار” (3)

في الليلة التي سبقت رأس السنة، بثّ التلفزيون السعودي الرسمي لقطاتٍ مصوّرة بالأسود والأبيض قال إنها التُقطت في ميناء المكلّا على بحر العرب. لقطاتٌ تُظهر شاحنات مدرّعة وهي تخرج من بطن سفينتين وصلتا، وفق الرواية السعودية، من ميناء الفجيرة في الإمارات، وتُفرَّغ على عجل تحت أضواء كاشفة. بالنسبة للمشاهد العادي، قد تبدو الصور جزءًا آخر من حرب اليمن الطويلة. لكن في الرياض وأبو ظبي، كان الجميع يفهم أنّ شيئًا أعمق يتصدّع هذه المرة.

بعد ساعاتٍ فقط، أعلن رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني المدعوم من السعودية، إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع الإمارات، وأعلن حالة الطوارئ، وفرض حظرًا جويًا وبحريًا وبريًا مؤقتًا على الموانئ والمنافذ، ومنح “القوات الإماراتية” مهلة 24 ساعة لمغادرة اليمن. لم تترك الرياض مساحة للتأويل؛ إذ أيّدت القرار فورًا بعد جلسة عقدتها الحكومة السعودية برئاسة الملك سلمان على غير ما هو معتاد في السنوات الأخيرة، واتهمت أبو ظبي، في لهجة غير مسبوقة، بدعم تحركات عسكرية على حدودها الجنوبية عبر المجلس الانتقالي الجنوبي، ووصفت ذلك بأنّه تهديد للأمن الوطني السعودي.

هكذا، البلد الذي شكّل قبل عشر سنوات مسرح أول حرب مشتركة بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي آنذاك محمد بن زايد، يتحوّل فجأة إلى ساحة أول مواجهة علنية بينهما. ما دأب دبلوماسيون على تسميته “محور الاستقرار” الخليجي، يبدو اليوم أقل تماسكًا أمام اختبار اليمن.

تحالف الشخصين القويين

لوقتٍ طويل، قُدِّم الرجلان بوصفهما وجهَي جيلٍ جديد من الحكّام العرب؛ شابّان شديدا المركزية في صنع القرار، يتشاركان عداءً ضاريًا للإسلام السياسي، ويطمح كلٌّ منهما إلى إعادة صياغة دولته والمنطقة على مقاس مشروع شخصي يحمل اسمه. في الغرب، رأى بعض المسؤولين في محمد بن زايد (MBZ) أشبه بـ”المعلِّم” أو العرّاب لمحمد بن سلمان (MBS)، خصوصًا في سنوات صعود الأخير الأولى، حين لعب ولي عهد أبو ظبي دورًا محوريًا في طمأنة عواصم غربية إلى أنّ ابن الملك السعودي يقود “إصلاحًا” اقتصاديًا واجتماعيًا لا بد من دعمه.

لكن تحت هذه السردية، كانت علاقة الدولتين تتشكّل على نحو أكثر تعقيدًا. فإلى جانب تقاطع واضح في ملفات مثل دعم الإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر ومحاربتهم في العديد من الساحات، كانت هناك أيضًا مشاريع متنافسة بهدوء؛ مشروع إماراتي يجعل من دبي وأبو ظبي عقدة موانئ ومال وخدمات تتحكّم في الممرات البحرية، ومشروع سعودي يحاول تحويل دولة ريعية قائمة على النفط إلى اقتصاد متنوع، يكون ساحلها على البحر الأحمر وبحر العرب بوابة جديدة للتجارة العالمية.

مهندس “الاستبداد الليبرالي

لفهم انفجار هذه التناقضات في حضرموت والمهرة اليوم، لا بد من العودة خطوة إلى الوراء، إلى الرجل الذي يُعدّ في نظر كثيرين مهندس السياسة الإماراتية الحالية.

محمد بن زايد، الذي تولّى عمليًا قيادة الإمارات قبل وفاة والده الشيخ زايد، نشأ في بلدٍ انتقل خلال حياته من أكواخ طينية إلى أبراج زجاجية بفعل النفط. والده، الذي رسّخ اتحاد الإمارات السبع، جمع بين تقليدية بدوية وانفتاح اجتماعي نادر في الخليج آنذاك، أصرّ على تعليم البنات، سمح ببناء كنائس، وفتح البلد أمام الأجانب. في الوقت نفسه، سلّم تعليم ابنه في سنواته الأولى لمدرّس مصري مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين، في زمن لم تكن الجماعة تُرى فيه كتهديد مباشر للحكم.

تلك التجربة المبكرة، وفق شهادات مقرّبين ودبلوماسيين، ستتحوّل لاحقًا إلى نقطة انعطاف معاكسة. أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 كانت لحظة صدمة شخصية وسياسية لولي عهد أبو ظبي، اكتشف أنّ اثنين من منفّذي الهجمات كانا إماراتيين، وأنّ مئات الشبان في بلاده كانوا يستعدون للالتحاق بجهاديي أفغانستان. حينها، أطلق حملة واسعة ضد نفوذ الإسلاميين في المدارس والمساجد، وأعاد صياغة المناهج التي كانت تمجّد “الجهاد” ضد “الكفار”، وأشرف على ملاحقات قضائية وأمنية طالت نخبًا محسوبة على الإخوان داخل الإمارات.

منذ ذلك الحين، بنى محمد بن زايد نموذج حكم يمكن تلخيصه – كما يصفه بعض الباحثين – على أنه “أوتوقراطية ذات طلاء ليبرالي”، انفتاح اقتصادي، حضور نسائي في قطاعات متقدمة، وتسامح ديني رمزي تُجسّده صور البابا فرنسيس في أبو ظبي، يقابله حظر شبه كامل على أيّ تنظيم سياسي أو معارضة منظمة، خصوصًا إذا كانت ذات مرجعية إسلامية. ومع تراكم الخبرات العسكرية والأمنية – من إعادة هيكلة الجيش إلى توظيف شركات خاصة ومتقاعدين من أجهزة غربية – باتت أبو ظبي قادرة على تصدير هذا النموذج إلى ساحات خارجية، من ليبيا ومصر والسودان وسوريا إلى اليمن.

اليمن خاصرة رخوة.. سعودياً

على الضفة الأخرى من الخليج، لم يكن اليمن ملفًا طارئًا على الرياض. فمنذ حرب 1934 التي انتزعت فيها المملكة العربية السعودية نجران وجيزان وعسير من إمامة صنعاء، نظرت السعودية إلى اليمن بوصفه خاصرتها الأكثر هشاشة، وحدودها الأكثر قابلية للاشتعال. في الستينيات، دعمت الرياض الملكيين الزيديين في حربهم ضد الجمهورية المدعومة من زعيم مصر جمال عبد الناصر، ثم موّلت لاحقًا زعماء قبائل وقوى إسلامية سنية في الشمال والجنوب، مستندة إلى سياسة قوامها إبقاء الدولة اليمنية قوية بما يكفي لتجنّب الفوضى، وضعيفة بما يكفي لئلّا تشكّل تهديدًا.

إقرأ على موقع 180  لبنان بعد مائة يوم بايدنية.. من عين العاصفة الى البر؟

في الوقت نفسه، رعت السعودية نشوء شبكات سلفية وتعليمًا دينيًا على طرازها في اليمن، إلى جانب آلاف اليمنيين الذين عملوا في السعودية وعادوا محمّلين بخبرة اجتماعية ودينية مختلفة. ومع اندلاع الربيع العربي عام 2011، وجدت نفسها مضطرة إلى إدارة انتقال حساس في صنعاء، مبادرة خليجية أزاحت علي عبد الله صالح من الرئاسة بعد عقود في الحكم، قبل أنْ يتحالف الرئيس المخلوع مع الحوثيين وينقلب على حلفائه السابقين.

وحين سيطر الحوثيون على صنعاء في العام 2014، ثم تقدّموا نحو عدن، لم يكن تدخل السعودية عسكريًا مفاجئًا. المفاجئ كان شكل هذا التدخل، حملة جوية وبرية واسعة النطاق، أُطلقت على عجل تحت اسم “عاصفة الحزم” في آذار/مارس 2015، بقيادة وزير الدفاع الشاب آنذاك محمد بن سلمان، ومعه شريك خليجي جديد بثقل الإمارات.

في البداية، بدا التحالف كجبهة واحدة ضد عدو مشترك. لكن على الأرض، سرعان ما اتضح أنّ الرياض وأبو ظبي تخوضان حربين متوازيتين أكثر مما تخوضان حربًا واحدة.

حرب 2015.. تحالفٌ واحدٌ برؤيتين!

بالنسبة للسعودية، كان الهدف المعلن هو إعادة الحكومة المعترف بها دوليًا إلى صنعاء، ومنع قيام كيان مسلح موالٍ لإيران على حدودها الجنوبية. ركّزت الرياض على القصف الجوي لمواقع الحوثيين، وعلى دعم وحدات من الجيش اليمني الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي، وعلى حماية حدودها في نجران وجيزان وعسير من التوغلات والصواريخ القادمة من الشمال.

الإمارات، بالمقابل، وضعت ثقلها في الجنوب والساحل. درّبت قوات محلية جديدة – أبرزها تشكيلات “الحزام الأمني” و”النخب” المختلفة – موالية لها أكثر مما هي تابعة للحكومة، وخاضت عبرها معارك ضارية ضد تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” وضد قوات محسوبة على حزب “الإصلاح” القريب من الإخوان المسلمين. وفي 2017، برز إلى السطح إطار سياسي – عسكري لهذه القوى تحت اسم “المجلس الانتقالي الجنوبي”، حاملًا لواء استعادة دولة الجنوب السابقة.

في الوقت ذاته، تمدّد النفوذ الإماراتي على طول الشريط الساحلي الجنوبي، من عدن كميناء أساسي، إلى المكلّا بعد طرد “القاعدة”، وصولاً إلى المخا وسواحل باب المندب، في شبكة بدت متصلة بمشاريع موانئ وقواعد لوجستية إماراتية في القرن الأفريقي، من جيبوتي سابقًا إلى ميناء عَصَب في إريتريا وبربرة في “أرض الصومال”.

على الورق، بقي الجميع تحت راية “التحالف” الذي تقوده السعودية. في الكواليس، بدأ دبلوماسيون وخبراء يتحدثون عن “خطّي نفوذ”، شمالٌ وحدود وجيش رسمي تميل كفّته نحو الرياض، وجنوبٌ وسواحل وقوات جديدة تميل كفّتها نحو أبو ظبي.

انسحاب إماراتي جزئي واستنزاف سعودي

في 2019، حين اندلعت مواجهات عنيفة بين قوات المجلس الانتقالي والقوات الحكومية في عدن، خرجت التناقضات إلى العلن. قصفت الطائرات الإماراتية وحدات تابعة للحكومة بدعوى “حماية التحالف”، ووجدت الرياض نفسها أمام مشهد غير مريح، شريكها في الحرب يقصف قوات حليفها المحلي.

لاحقًا، أعلنت الإمارات عن عملية “إعادة انتشار” وسحب الجزء الأكبر من قواتها من اليمن، لكنها تركت وراءها ما كان الأهم بالنسبة لها، بنية عسكرية محلية قوية في الجنوب، ومجلسًا انتقاليًا يمتلك السلاح والشرعية لدى جزء من الشارع الجنوبي، ونفوذًا راسخًا في الموانئ والسواحل.

السعودية، في المقابل، بقيت تتحمّل كلفة حرب استنزاف طويلة، مليارات الدولارات شهريًا، انتقادات دولية متزايدة بسبب القصف الذي طال مدارس ومستشفيات وأسواقًا، وهجمات متصاعدة للمسيّرات والصواريخ الحوثية على منشآتها النفطية.. وصولاً إلى استهداف أرامكو في أيلول/سبتمبر من العام 2019، وهو التاريخ الذي جعل ولي العهد السعودي يُنهي حصرية إدارة الملفات الإقليمية التي تولاها شريكه ولي العهد الإماراتي طوال أربع سنوات، وكان ذلك أيضًا تعبيرًا عن اكتمال إمساك محمد بن سلمان بالملف الداخلي السعودي.

أطلقت المملكة دينامية جديدة في سياستها الخارجية كانت تعبيرًا عن رغبتها بتوفير مخرج سياسي لحرب اليمن، تُرجم بهدنة غير معلنة تطوّرت في 2022 إلى وقف إطلاق نار فعلي برعاية الأمم المتحدة؛ مفاوضات مباشرة مع الحوثيين، ثم مصالحة مع إيران في 2023 برعاية صينية.

في هذا السياق، أصبح الجنوب اليمني أكثر من أيّ وقت مضى ميدانًا لصراع آخر، وبات السؤال مطروحاً ماذا سيحدث إذا ترسّخت سيطرة الحوثيين على الشمال؟ ومن سيملأ الفراغ السياسي والأمني في الجنوب وعلى السواحل، حيث تمر ممرات بحرية حيوية للسعودية وللتجارة العالمية؟

(*) راجع الجزء الأول بعنوان: إرهاصات الشرق الأوسط الجديد.. بوابات البحر الأحمر

(*) راجع الجزء الثاني بعنوان: لعبة الممرات البحرية.. من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أردوغان يتقرّب لكن تل أبيب لن "تخون صديقاتها العربيات"!