مستقبل أسواق الطاقة.. كيف أخطأت أوروبا في سياساتها؟

إنها نهاية حقبةٍ تاريخيةٍ عاشتها أسواق الطاقة الأوروبية. حقبة دامت 23 عاماً وانتهت بفعل الحرب الروسية - الأوكرانية التي فضحت مكامن الخلل في سياسة الطاقة الأوروبية.

من المتوقع أن تشهد أسواق الطاقة في المرحلة المقبلة تحولات عميقة تطال الشكل والهيكلية وآليات التسعير بفعل تبدّل اتجاه تصدير الغاز الذي سيُبدّل معه مناطق تركز الثروة والإنتاج. فبعدما كانت صادرات الغاز تَرِدُ من الشرق إلى الغرب – أوروبا تحديداً- صارت ترد من أقصى الغرب، أي الولايات المتحدة، إلى أوروبا وبذلك ستتحول سوق الغاز من محلية الى عالمية ما قد يُغيّر خارطة الثروة والإدخار العالمي بشكل جذري.

خصائص الإقتصاد الأوروبي

لطالما اعتمد النظام الإقتصادي الأوروبي على التنافسية لتحفيز النمو. بمعنى آخر، إعتمد على الطلب الخارجي لتحفيز الأنشطة الإقتصادية حتى وصل حجم الصادرات إلى 16% من إجمالي الناتج القومي الأوروبي، خلافاً للولايات المتحدة التي تعتمد على الطلب الداخلي ويمثل حجم صادراتها 8%؜ فقط من إجمالي الناتج القومي.

وقد استفاد النظام الأوروبي لفترة طويلة من منافع العولمة القائمة على تركز الانتاج في المناطق ذات التكاليف المنخفضة، فحصل المنتجون الأوروبيون على المواد نصف المصنعة بأسعار تنافسية، كما حصلوا على الطاقة بأسعار منخفضة من روسيا بفضل العوامل الجغرافية المؤاتية والسياسات القائمة على أساس مبدأ “التجارة تضمن السلام”، وهو مبدأ تبنته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خصوصاً مع روسيا والصين. كل ذلك ساعد أوروبا عموماً وألمانيا خصوصاً لتكون مركزاً مهماً للتجارة الدولية والادخار العالمي وتركُّز الثروة، فحقّقت فائضاً في ميزانها التجاري سمح لها طوال عشرين عاماً ببناء استراتيجية حديثة للطاقة والتحول نحو الطاقة النظيفة.

ولأن الصناعة الأوروبية بحاجة إلى طاقة وفيرة بأسعار زهيدة، صدرت تشريعات خاصة بالتحول نحو الطاقة النظيفة، لعلّ أبرزها إصلاحات المستشار الألماني غيرهارد شرودر في العام 2000 التى دعت إلى التخلي عن الإنتاج بالطاقة النووية وتحقيق التوازن الطاقوي Mixte énergétique 80/20 الذي يقوم على الإنتاج باعتماد الطاقات المتجددة (الرياح والشمس والمياه) بنسبة 80% والطاقة الأحفورية (الغاز والفحم) بنسبة 20%. وفي هذا التوزيع إشارة إلى أنه لا يمكن الاعتماد على الطاقة المتجددة بالكامل نظراً إلى ارتفاع تكاليف الإستثمار فيها وعدم إستقرار الإنتاج، ويجب الإستعانة بمصادر الطاقة التقليدية كالغاز والفحم عند الحاجة شرط أن تكون أسعارها مستقرة. واستناداً إلى إصلاحات شرودر، طوّرت الدول الأوروبية تكنولوجيا Smart Grid Contract التي تهدف إلى تحقيق الإنتقال “الذكي” أو التلقائي بين الموارد لتعويض أي نقص والحفاظ على توازن الإنتاج واستدامته.

يمكن أن تتفادى أوروبا أزمة كبرى في المديين المتوسط والبعيد من خلال إجراءات جدية ومستعجلة تضمن عدم خسارة الهوية الصناعية لأوروبا بسبب إرتفاع أسعار الطاقة

ضعف وقلق.. وإرباك

وقعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022، وخلطت الأوراق في سوق الطاقة ولا سيما الأوروبية، فاتُخذت قرارات مخالفة للتوجهات السابقة، وظهر تشتّت المصالح بين الدول الأوروبية. حتى أبسط القرارات التي كانت تصب في مصلحة الجميع مثل الشراء المشترك للغاز أو إصلاح قطاع الكهرباء، صارت محل نقاش أو جدال وباتت مكلفة للغاية وتُهدّد الهوية الصناعية لأوروبا حيث ظهرت مؤشرات الضعف في القدرة الشرائية وكذلك في القدرة الانتاجية.

وارتفع منسوب القلق بين صُنّاع القرار الأوروبيين، عندما تزامنت مؤشرات الضعف مع إصدار “المنافِس” الصناعي الاميركي برنامج inflation Act الذي يسعى إلى جذب الإستثمارات الأجنبية ومع استمرار المشروع الصيني Made in china، وكلاهما قد يسحب البساط من تحت أقدام الدول الأوروبية في عزّ حاجتها إلى تحفيز الإستثمار الصناعي والحفاظ على التنافسية والصمود أمام ارتفاع تكاليف الإنتاج.

ولمواجهة هذا القلق، إتخذ الإتحاد الأوروبي سلسلة قرارات غير مفهومة الأهداف أدت إلى اتساع الفجوة الهيكلية بين الإقتصاد الأوروبي ونظيره الأميركي، نذكر منها:

1- تحديد سقفٍ لسعر الغاز: قرارٌ يترك تأثيراً محدوداً على المدى القصير، فعلى الرغم من تعقيد آليات تفعيله وضعف توافر الشروط اللازمة لتفعيله، يبقى السقف المحدد عند 180 يورو لكل MWH مرتفعاً جداً ويساوي ثلاثة أضعاف السعر في الولايات المتحدة. لذلك، تفضل الشركات الأوروبية الناشئة الإنتقال من أوروبا بحثاً عن بيئة جاذبة للإستثمار تؤمن تكاليف أدنى للإنتاح وهوامش أعلى للأرباح، وهذا ما يثير الريبة من إفراغ الدول الأوروبية من أفضل شركاتها التي يمكن التعويل عليها للدخول في دورة إقتصادية طويلة الأمد في المستقبل، خصوصاً في قطاعات الطاقة البديلة وتكنولوجيا أشباه الموصلات.

2- ضريبة حدود الكربون: اتخذت أوروبا قراراً بوضع ضريبة على انبعاثات الكربون كادت ان تكون مثالية لو طُبقت بالتنكافؤ والتنسيق مع الدول الأخرى. لكن الرئيس الأميركي جو بايدن وصفها بـ”غير المقبولة إجتماعياً” خلال اعلان قانون خفض التضخم inflation act وقال إنه من السابق لأوانه تطبيقها ثم بادر إلى تقديم إعانات مالية واعفاءات ضريبية للصناعات الخالية من الكربون.

3- آلية تطبيق ضريبة الكربون خصوصاً على السلع نصف المصنعة والآتية من بلدان لا تطبق هذه الضريبة: الصناعة الأوروبية معروفةٌ بكونها “تجميعية” تحصل على المواد الأولية والسلع نصف المصنعة من مصادر مختلفة وعندما لا تكون الآلية واضحة أو محددة، تنزح الشركات إلى خارج دول الإتحاد لتفادي المخاطر والتعقيدات. على سبيل المثال، قد تبدو الضريبة على الصلب واضحة، ولكن ماذا عن الضريبة على صناعة أبواب السيارات؟

وفي هذا السياق، تبذل الدول الأوروبية جهوداً لإبقاء الشركات في داخل الإتحاد، وقد بدأ الحديث عن إنشاء صندوق خاص لدعم الصناعة المحلية شبيه بـ Chips Act الذي أنشئ أساساً لدعم صناعة اشباه الموصلات. هذه الفكرة ما زالت قيد النقاش، ولكن التسريبات تشير إلى أن الصندوق سيحمل توصيف Relocation fund لأن هدفه تحفيز الشركات للبقاء في أوروبا. وهذه الخطوة إذا طُبّقت ستكون الخطوة الأولى الصحيحة في مسار طويل يُراد منه حماية الصناعة الأوروبية.

ما الخطأ في سياسة الطاقة الأوروبية؟

يمكن تسجيل الكثير من الأخطاء التي ارتكبها صُنّاع القرار الأوروبي عندما رسموا السياسات المتعلقة بقطاع الطاقة والصناعات المرتبطة به.

  • خطأ في سياسة التحول نحو الطاقة النظيفة عندما لم يأخذ الإتحاد الأوروبي في الحسبان السيناريو الأسوأ المتمثل بتأثير العوامل الخارجية على أسعار الطاقة والتي تودي إلى رفع أسعار الطاقة المكمِّلة عندما تكون الطاقة النظيفة متذبذبة، وهذا ما حدث بالفعل خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
  • إساءة تقدير ما يسمى “السيادة الإستراتيجية” باعتماد أوروبا التام على مصدر وحيد للطاقة، ما أدى إلى ضغوط إستثنائية ونقص فادح في الموارد بعد إندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
  • عدم قراءة خلفيات ونتائج ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014 وما نتج عنها من عقوبات غربية على روسيا وعقوبات جوابية من روسيا ضد الدول الغربية.
  • أخطأت بعض الدول في تقييم إمكانياتها المتوافرة وتقدير حاجاتها المستقبلية، فلم تتأكد من إمكانية النجاح في الاعتماد المتوازن على الطاقتين النظيفة والأحفورية إلى حين تحقيق الأهداف بعيدة المدى.
  • أخطأت ألمانيا في إهمال التحذيرات الأوروبية بشأن تعديل استراتيجيتها الخاصة للطاقة وبوجوب الإعتماد المتوازن على الطاقتين النظيفة والأحفورية (رسالة أنجيلا ميركل 2015).
  • أخطأت المفوضية الأوروبية عندما انخرطت مبكراً في الحرب بين روسيا وأوكرانيا من دون إفساح المجال أمام الحل الدبلوماسي، وبدل أن تحسم النقاش حول المسلمات والمصالح العامة، سمحت ببقاء النقاش دائراً ما فضح تباين المصالح بين الدول وتناقضها في بعض الأحيان.
إقرأ على موقع 180  مصارف "الزومبي" نموذجاً لبنانياً: جردة في الميزانيات

هذه السلسلة من الأخطاء أدت إلى تفاقم الأزمة ووصولها إلى ما هي عليه اليوم: نقصٌ في موارد الطاقة، إرتفاعٌ في تكاليف الإنتاج والتشغيل، تضخمٌ في أسعار الاستهلاك، إضطرابات سياسية وأزمات إجتماعية.

إن الخطر المحدق يتمثل بثلاثة عوامل إذا اجتمعت (والمؤشرات تنذر بذلك) ستعصف رياح الهجرة بمختلف الشركات الأوروبية، وهذه العوامل هي: الأول، أسعار الطاقة المرتفعة؛ الثاني، سياسة التحول نحو الطاقة البديلة بشكلها الحالي؛ الثالث، نقص العرض في أسواق التكنولوجيا والطاقة

ما الذي ينبغي فعله لتفادي الأسوأ؟

لم يعد خافياً على أحد أن شتاءَي العامين 2023 و2024 يتسمان بالقسوة على أوروبا، حكومات وشعوباً، فالفجوة بين العرض والطلب في سوق الغاز ستبلغ 30 تريليون متر مكعب من الغاز حتى نهاية العام المقبل، وفق تقديرات الوكالة الدولية للطاقة. وتتسع هذه الفجوة بسبب ضيق العرض في السوق العالمي للغاز المسال (العرض في أسواق الغاز العالمية يزيد على شكل موجات كل خمس سنوات تقريباً)، وكذلك بسبب البنى التحتية غير المكتملة التي لن تدخل في الخدمة قبل العام 2024 (محطات تغويز وإمدادات)، وعودة الطلب من الصين بالتوازي مع انخفاض الإمدادات من روسيا. ويبدو أن الحلول المتاحة أمام صُنّاع القرار في أوروبا تقتصر في المدى القصير على شراء الغاز وإن بأسعار مرتفعة لملء المخزون الإستراتيجي. أما في المديين المتوسط والطويل، فبالإمكان إتخاذ الخطوات الآتية:

1- زيادة الإستثمارات إلى ضعف ما هي عليه اليوم في مجال تكنولوجيا الطاقة وكفاءة التوزيع (الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الطاقة النووية والهيدروليكية) لمضاعفة الإنتاج.

2- إصلاح سوق الطاقة الأوروبية وفصل سعر الكهرباء عن سعر الغاز، وهنا يبرز اقتراح تقدمت به اليونان يقضي بالسماح للدول ببيع الكهرباء التي تنتجها محلياً بالطاقة النووية أو الشمسية أو الرياح بسعر الكلفة وذلك بهدف دعم الصناعات المحلية، أما الكهرباء التي تنتجها بالغاز فتُباع بسعر السوق. هذا الإقتراح قد يُمثل حلاً مريحاً لدول جنوب أوروبا التي لا تستطيع تحمل المزيد من تكاليف الإنتاج أو الإستمرار في سياسات الدعم الحالية.

3- السماح للشركات بتوقيع عقود طويلة الأمد لشراء الطاقة بشرط أن تكون مفهرسة على التضخم. وهذا يحمي الصناعة من التقلبات الحادة في أسواق الطاقة.

4- تغيير استهدافات العام 2030 المتعلقة بمزيج الطاقة mixte énergétique مع الحفاظ على استهدافات 2050 بما يسمح للدول الأوروبية باستخدام الطاقة الأحفورية في المدى القريب لسد الفجوة في إنتاج الطاقة النظيفة نتيجة ضعف الاستثمار أو عوامل خارجية أخرى.

5- إشراك النرويج في الإستراتيجية الأوروبية للطاقة. فالنرويج وحدها تستطيع تصدير 30% من حاجة القارة الأوروبية للغاز. وهذه النسبة تطابق نسبة الغاز الذي تستهلكه أوروبا في انتاج الكهرباء. ويُذكر أن فرنسا اقترحت على الأوروبيين الدخول في مفاوضات لشراء الهيدروجين الأخضر من النرويج. أوسلو وافقت بشرط أن تشارك في تطبيق إستراتيجية الطاقة، غير أن دولاً أوروبية عديدة رفضت ذلك بذريعة أنه يتعارض مع مصالحها أو يُرتّب عليها أعباء في المدى الطويل. علماً أن هذا الحل فعالٌ في المدى القصير لأن البنية التحتية لأنابيب الغاز موجودة ويمكن الإستفادة منها لتجنب التعقيدات الإدارية المتعلقة بوضع سقف لسعر الغاز.

6- وضع إستراتيجية ضريبية تفضي إلى جذب شركات التكنولوجيا والشركات العاملة بالطاقة النظيفة لإبقائها في أوروبا من خلال تقديم مساعدات مالية وتحفيزات ضريبية لثنيها عن الهجرة إلى أسواق أخرى. ومن الأفضل ألا تتوقع الدول الأوروبية دوراً وازناً لمنظمة التجارة العالمية في حماية مصالحها بل عليها توجيه رسالة قوية إلى الحلفاء قبل الخصوم وإن بدا ذلك مستبعداً في الوقت الراهن.

7- إصلاح سوق رأس المال وتحقيق الإنفتاح بين مختلف الأسواق المحلية في الدول الأوروبية بحيث تستفيد الشركات الايطالية مثلاً من الرساميل الهولندية من دون المرور بقواعد الملاءة الخاصة بكل دولة أو أي حواجز أخرى، بما يضمن حرية تنقل رؤوس الأموال وحركة الاستثمار الخاص الذي يكمل الاستثمار العام.

في الخلاصة، لا حلول سحرية تحقق نقلة نوعية في المدى القصير. لكن يمكن أن تتفادى أوروبا أزمة كبرى في المديين المتوسط والبعيد من خلال إجراءات جدية ومستعجلة تضمن عدم خسارة الهوية الصناعية لأوروبا بسبب إرتفاع أسعار الطاقة.

إن الخطر المحدق يتمثل بثلاثة عوامل إذا اجتمعت (والمؤشرات تنذر بذلك) ستعصف رياح الهجرة بمختلف الشركات الأوروبية، وهذه العوامل هي:

الأول هو أسعار الطاقة المرتفعة؛

الثاني هو سياسة التحول نحو الطاقة البديلة بشكلها الحالي؛

الثالث هو نقص العرض في أسواق التكنولوجيا والطاقة.

ومن أجل تفادى مشكلة تفريغ أوروبا من أدواتها، يجب التوافق سريعاً على شكل النظام الإقتصادي والإجتماعي المستقبلي وتوحيد القرار السياسي وإقرار الإصلاحات المستعجلة.. بخلاف ذلك، قد تتخلف أوروبا عن التقدم نحو عوالم جديدة منافسة.

Print Friendly, PDF & Email
اليسار كرم ودانيال ملحم

اليسار كرم صحافية لبنانية متخصصة في الإقتصاد؛ دانيال ملحم خبير إقتصادي لبناني مقيم في فرنسا

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  جنبلاط: الجيش بخطر.. والله يرحم "أبو يعرب"!