

تعرّفتُ على محمد بن عيسى في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي مع نخبة لامعة وكوكبة متميّزة من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في المغرب، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر عبد الرحمن اليوسفي وإدريس بن زكري ومحمد أوجار وعبد العزيز البنّاني في أجواء مبشّرة بالانفتاح والتداولية في السلطة والتناوبية في الإدارة التي شهدها المغرب بتوافق الإرادة الملكية مع الفاعليات السياسية والمدنية، وكان بن عيسى بما يمثّله من ثقل يُعتبر نموذجًا للوسطية والاعتدال والواقعيّة السياسية، حيث كان مشروعه يقوم على التطوّر التدرّجي بالاعتماد على الثقافة باعتبارها المدماك الأساس لأي تطوّر، مُفردًا للتعليم والمعرفة مكانًا متميّزًا؛ وكان قد أسس منتدى أصيلة في العام 1978، الذي يُعتبر من أقدم المشاريع الثقافية العربية المعمّرة، كإطار جامع للقاء والحوار، إضافة إلى الجوانب الفنيّة والأدبية والأنشطة المتنوّعة في هذا المجال، لذلك فإن غيابه هو خسارة فادحة لجميع من عرفوه، وأردّد هنا مع الشريف الرضي:
ما أخطأتك النائبات / إذا أصابت من تُحبُّ
أما الجواهري الكبير فيقول:
يظلُّ المرءُ مهما أخطأته / يدُ الأيام طوعَ يد المُصيبُ
وكما ورد في القرآن الكريم: “كل نفس ذائقة الموت” (آل عمران، 185)
“ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” (الرحمن، 27).
***
كان محمد بن عيسى، وهو المثقف الاستثنائي، هو الفرد وهو المجموع في الآن، حيث اجتمعت في شخصه رمزيات كثيرة من فضاء المكان (أصيلة) إلى فضاء الذاكرة وفضاء الدبلوماسية وفضاء الثقافة والسياسة والإدارة، وقد حاول أن يكون جسرًا بين المغرب العربي ومشرقه، وبين أمريكا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربي، والخليج وأوروبا، فقد عاش في ثلاث قارات وخبر لغات وأقوامًا وشعوبًا وعادات وتقاليدًا وحضارات وثقافات وأديانًا وقوميات.
كان محمد بن عيسى يمثّل مدرسة حقيقية في الدبلوماسية والثقافة والإدارة والفنون والآداب والعلاقات والسلوك، وقد جمع في شخصه الثقافات السمعية والمكتوبة والبصرية، وحاول تجسير الفجوة بين أصحاب القرار والمثقفين، والثقافة معرفة وبالتالي الثقافة سلطة حسب فرانسيس بايكون، أمّا الصداقة عنده فلها قيمة، والصديق هو أنت ولكنه بجسم آخر وفقًا لأفلاطون، لذلك أعتقد كل شخص من أصدقائه أنه الصديق الأقرب إليه. قد يكون له خصوم كثيرون لكنه لم يكن له عدو واحد كما أعتقد.
كان محمد بن عيسى عاطفيًا إلى أبعد حدّ، والعاطفة قوة وليست ضعفًا كما يُعتقد لأنها دليل على القلب الرقيق. وهو نصير حقيقي للمرأة وحقوقها، ويتعامل معها كرجل جنتلمان، كما انشغل بشؤون الشباب لأنهم يمثّلون مستقبل الأمة.
***
لم يكتفِ محمد بن عيسى بالثقافة النظرية، بل اشتغل على البراكسيس (الممارسة)، وقرأ التطورات، واستنبط أحكامه منها وتلك دروسه في إطار المجتمع المدني الذي أراد تحويله من قوة احتجاج إلى قوة اقتراح.
توفّرت لبن عيسى جميع أسباب النجاح لمشروعه، من الرؤية والإرادة إلى العلم والمعرفة، واختار الوسائل المناسبة لتحقيقه، محاولًا إعلاء شأن المثقفين، كما كان يقول، وحاول توظيف المال لصالح الثقافة وليس توظيف الثقافة لصالح المال، وأخضع السياسة للثقافة والأولوية للأخيرة، كما كان يُدرك قيمة القوى الناعمة وحاول توظيفها قدر الإمكان في مشروعه الثقافي الحضاري من خلال علاقاته وشخصيته الكاريزماتية. ونظر إلى الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي ودورها التأسيسي في عملية التنمية، وأدرك أن لا تنمية دون ثقافة، مثلما لا تنمية دون سلام، وهذا الأخير يفترض حد أدنى من العدالة، ولا سيما الاجتماعية. وقد يكون هناك مثقفون، لكنهم لا يمتلكون مؤهلات القيادة والإدارة.
هو المثقف الكوني العابر للانحيازات الضيقة منطلقًا من أفق إنساني غير محدّد، متجهًا إلى أفق إنساني مفتوح، وتأتي مبادراته من ضفة إنسانية إلى ضفة إنسانية، مؤمنًا بقيم الحريّة والسلام والمساواة والعدالة والتسامح، بغض النظر عن الجنس أو الدين أو القومية أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي، وتلك هي أسس المواطنة في الدولة العصرية.
***
كان محمد بن عيسى شجاعًا مثلما كان كريمًا، وكل شجاع كريم وبالعكس. والجبان لا يمكن أن يكون كريمًا، والبخيل لا يُمكن أن يكون شجاعًا.
لقد مثّل بن عيسى قوة النموذج لأنه امتلك سلطة الجمال، ومن يمتلك سلطة الجمال تبقى روحه نظيفة، فهو لم يعرف الحقد والكراهية على المستوى الشخصي، وسعى لتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها على أساس المشترك الإنساني، وامتلك شفافية عالية لدرجة أن كل من عرفه يعتقد أنه يعرفه بالكامل لكنه كان يعرف جانبًا منه.