المَنْشَأ اسمُ مكانٍ من الفعل نَشَأَ، الفاعل ناشئ والمفعول به مَنشوء، ومن الأسماء النادرة المُشتقة: ”نشأت“، وهو اسم لرجل ولا توجد للنسَاء مُرادفات. المصدر فنشأة ونشوء، أما عملية “الإنشاء” فتأتي من الفعل أنشأ، قد تدلل على بناءٍ حقيقيّ مَلموس وقد تبقى في الواقع الافتراضيّ، كإنشاءِ مَلفٍ على الحاسوب.
***
تحمل أغلفةِ البضائعِ الاستهلاكية جُملة “بلد المنشأ”، وتشير إلى المكانِ الأصليّ الذي شهد صناعة المُنتَج. عادة ما تعقب هذه الجملة كلمة: “الصين”؛ البلد الذي يقوم على تَصنيع كلّ شيءٍ وأيّ شيء، ويَسخر مِن العالمِ المُتقدّم بعلاماته التجارية الشهيرة الباهظة، ومِن هؤلاء الذين يُسارِعون لاقتناء جديدها ما طُرِحَ في الأسواق، بينما التقليد مَوجود بمستويات جَودةٍ مُرتفعة؛ يحمل أسعارًا أقلَّ ويَضرِب الكبرياءَ الأمريكيّ والأوروبيّ في مَقتل، ولا تتقاعس الصّين في الوقت ذاته عن إنشاءِ علاماتِها الخاصَّة التي تنافس في المجالات كافة؛ من الدقائق الإلكترونية إلى السَّيارات والمُعدات الفضائية.
***
قد تكون للمَرض أعراضٌ متنوعة ومظاهر شتَّى مُربِكة؛ لكن ثمَّة خللًا رئيسًا فإذا عُرِفَ؛ كان العلاجُ مُمكنًا، وإذا ظلَّ غامضًا فشلَ الطبيبُ في مُداواة المريض واكتفى بالتعامل مع ما يرى؛ لا مع ما اكتشف. مَنْشَأ العِلة هو سَببها الكامن ومصدرها الرئيس؛ والمهارة كلُّها في العثور عليه وتشخيصه.
***
إذا نشأ الولدُ في كَنف أبيه فتحت رعايته، وإذا نشأت الحرارةُ عن النيرانِ فبسببها، وإذا نشأ فرعٌ من الأصل فقد تولد منه، أما إذا نشأ الواحد على عادات أو سلوكيات معينة؛ فقد سَرَت في دمائه وصَعُبَ تغييرها، والمثل الشعبيِّ يقول: من شبَّ على شيءٍ شابَ عليه.
***
وضع داروين نظريَّة النشوءِ والارتقاء التي تقضي بوجُود أسلافٍ مُشتركة للكائنات الحية؛ لكن فرضياته لم تلقَ ترحيبَ كثيرين. مَنشَأ الحياةِ عند أصحاب الأديان واضحٌ مَعروف، وعند غيرِهم غامضٌ مُحيِّر أو مَردودٌ إلى تفسيرات تبقى بدورها قاصرةً غير مُقنِعة، وعلى كل حال؛ لا يبحث أغلبُ الناسِ في عصرنا هذا حركةَ الكونِ وتطوُّر أجزائه أو منشأ الأحياء على وَجه الأرض؛ إنما ينشغل كلٌّ بمأساته الصغيرة الخاصة التي صار إليها، والتي تنهك روحَه وتهدِّد وجودَه الفردي.
***
يَملِك هؤلاءُ الذين ينشأون في مناخٍ بارد طبائعَ وسِمات تختلفُ إلى حدٍّ بعيد عمن ينشأون في مناخٍ حار. الفريقُ الأول أكثر هدوءًا وثباتًا على مستوى الانفعالات، بينما الفريقُ الثاني أكثر صخبًا وأسرَع غضبًا وأسهل استثارة. كثيرًا ما يُوصَف الأولُ بالبلادة وتحجُّر المشاعر، بينما يُوصَف الثاني بأنه أغزر عاطفةٍ وأعظم حَمية. لكلّ عيوبه وحسناته؛ لكن العجيبَ أن تنعكسَ الأدوار؛ فيحمل لواءَ التظاهُرات ضدَّ الظلم والعدوان من يعيشون في بلدانِ الثلوج والصَّقيع؛ بينما يتجمَّد أصحابُ الدماءِ الحارَّة الفائرة وتنحني منهم الأعناقُ والظهور.
***
أصابت حالُ الدهشة المُفرِطة نفرًا واسعًا من الناس بسبب ما وَصلت إليه قدراتُ الذكاء الاصطناعي؛ إذ تضاعفت وتراكمَت وجَعلت من الآلةِ شبه ندٍ للإنسان، والسُّؤال المَطروح الآن يتمَحوَر حول إمكاناتٍ تفوُق المَصنوع على الصَّانع والمَخلوق على الخالق، ومن ثمّ انقلاب الآية ونشوء حقبةٍ جديدة السّيادة فيها لغير البشر. بعيدًا عن الأسئلةِ الفلسفية؛ يَخشى القطاع الأكبر من المُوظفين والعمَّال الاستغناءَ عن خدماتهم، وانضمامَهم إلى طابور العاطلين البؤساء. نبدو بأوضاعِنا المُؤسفة بعيدين أشدّ البُعد عن الجَّدل الدائر، فأنظمتنا الإلكترونية البسيطة مُعطلة أغلب الأوقات والمَصالح- التي تُدار مِن خلال الشبكات- تعتذر عن التعامُل مع المواطن في عديد الأحيان انتظارًا لعودة “السيستم” المَرفوع مِن الخِدمة، والطلاب في مدارسهم يَعجزون مرَّات عن استكمالِ الامتحانات للسَّبب نفسه، والحقيقة أن مُحاولاتِ اللحاق بالتقدُّم التكنولوجي السَّريع لا تتأتى عبر اقتباسِ مَظاهرِه، والزَّجِ بأدواته في مُحيطٍ فقيرٍ مُتداعي؛ إنما عبر الاهتمام بتكوين جيلٍ مُفكر من العلماء والباحثين.
***
إذا نشأ الفرد في كَنفِ مُجتمع سويّ يقبل الآخر؛ استوى سَمِحَ الأخلاق طيّب المَعشَر، وإذا نشأ في مُجتمع عليل يتوجَّس أفراده من بعضهم البعض؛ ازداد تمركُزه حول ذاته وظنَّ أنه الأعظم، ولا دهشة حينها أن يحتفظ لنفسه بالمَيزات، وأن يُنكرَ على المختلفين عنه حقَّ الاعتراضَ إذا ما واجهوا ظلمًا أو تعديًا. شهدنا على مدار الأعوام وقائعَ عديدة مُتكررة يُضام فيها أشخاصٌ مسيحيون؛ يُبخَسون حقوقَهم كمواطنين ويتعرَّضون للإيذاء والعنف، ولا يحصلون في نهاية الأمر على أحكام عادلة مُنصفة. ثمَّة خللٌ مَنشأه التربية على مُعتقدات راسخة تؤكد أفضليَّة دين على آخر، وثمَّة قهرٌ مُجتمعيٌّ وسياسيٌّ ينتقل من الأقوى إلى الأضعف تلقائيًا، ولا يمضي أبدًا في الاتجاه المُعاكس الذي يتيح للمَقهور أن يواجه قاهرَه ويُطالب بحقه الطبيعي.
***
كثيرة هي المنشآت الحكومية التي تمَّ التفريط فيها بدعوى عدم تحقيقها عائدًا مجزيًا. صُور التفريط عديدة؛ البيع إحداها وحقوق الانتفاع طويلة الأجل صورة أخرى، والأزمةُ تتبلور بالدرجة الأولى في مَفهوم الاضطرار الذي بات يحكم حيواتِنا ويُرهق نفوسَنا ويقضُّ مضاجعَنا. مُضطرُّون للاستدانة، مُضطرُّون لقبول سَداد فوائد مُخيفة، مُضطرُّون لتحمُّل أوضاع لم تكُن بالحسبان، والسَّبب أننا نلجأ دومًا للحلّ الأسهل ونربأ بأنفسِنا عن تقديم الثمن الواجب لقاء الحرية والكرامة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“
