عادات وطقوس غابرة.. ووراء كل رجل شجاع إمرأة

جرت العادة في بيوتنا، بيتنا وبيوت خالاتي، أن تقضي الخالات مع أطفالهن نهاية الأسبوع مع جدتنا في البيت الكبير الكائن بشارع أمير الجيوش الجواني (مرجوش بالعامية المصرية)، وهو شارع رئيس متفرع من المعز لدين الله الفاطمي من جهة ومن فاروق من الجهة الأخرى. كنت كطفل أتطلع بشغف لنهاية أسبوع أقضيها مع أطفال العائلة، وكلهن بنات باستثناء خالة واحدة كان لها إلى جانب البنات صبيان في مثل عمري ولكنهما كانا يفضلان قضاء نهاية الأسبوع في بيت كبير آخر، بيت يسكنه كل الأشقاء في عائلة الدهان، وهؤلاء كانوا ينجبون عديد الذكور.

الآن، وبعد مرور ثمانية عقود أو أقل قليلا، أستطيع أن أفسر حالة شغفي بقضاء نهايات الأسابيع في البيت الكبير. أتفهم التأثير على منظومة سلوكياتي في مراحل لاحقة نتيجة منحي مكانة متميزة بين أطفال ومراهقي، العائلة الكبيرة لاعتباري الذكر الوحيد بين عديد الأطفال والمراهقين.

أعترف بجميل هذه المرحلة من العمر، المرحلة التي تدربت خلالها على أصول وواجبات احترام الإناث أطفالا كن أم مراهقات أم زميلات في الجامعة ومساعدات وزميلات في العمل أو أم وشقيقتين وزوجة وابنتين في الحياة. لا يعني هذا الجميل أنني أنكر فضل الرجال على تربية النشء من الصبية والشباب.

قارنت طوال حياتي بين فضل النساء وفضل الرجال على سلوك الأبناء وقد صاروا رجالًا مسئولين. خلصت من أكثر المقارنات إلى أن شجاعة اتخاذ القرار الصعب عند رجال قدرت مواقفهم تعود في أغلب الحالات إلى فضل امرأة على رجل تبنته أو ساهمت في نشأته أو عاشرته أو تولت رعايته. مرة أخرى لا أنكر أو أستهين بفضل الرجال من الآباء والمربين ولكني منحاز إلى فضل المرأة بحكم التجارب العديدة والمقارنات التي أجريتها.

***

بمناسبة الحديث عن نهاية الأسبوع التي تعودنا، أمي وأنا وأختى الصغرى، قضاء أغلبها في زيارة بيت الجدة لأمي حيث تتواجد أيضا بالصدفة أو الترتيب بقية الخالات مع أطفالهن، أتذكر أنه كان يتعين أحيانا أن أستعد صباح يوم الجمعة للذهاب من بيت جدتي إلى حي سيدنا الحسين، مشيا على الأقدام. كنت قد جاوزت العاشرة وأصبحت أهلا للمشي منفردا في شارع المعز وعند نهايته، أو لعلها بدايته، أنحرف يمينا في اتجاه شارع الموسكي وأتوقف على بعد أمتار حيث يقع الفرع الخارجي لمطعم الدهان. أسأل هناك عن الحاج أحمد فلا أجده فهو لا يصل إلا قبل صلاة الجمعة بقليل. أستدير للاتجاه نحو القلب، قلب شارع الموسكي أحد أهم شوارع مصر التجارية والقديمة. أمشي بثقة، الأهل مطمئنون وأنا آمن وأكاد أكون معروفا لدى معظم أصحاب المحلات المطلة على الشارع.

***

أمشي حتى أصل إلى زقاق ضيق ولعله لضيقه استحق صفة العطفة. هكذا فكرت وأنا أمشي خطوات معدودة لأصل إلى مدخل وكالة يملكها ويديرها أشقاء ثلاثة على صلة قرابة لوالدي. كنت أحب زيارة المكان. أحبه لأن أصحابه كانوا حريصين على دعوتي مع أهلي لكل عرس ومناسبة دينية يحتفلون بها في قصرهم الفخم بحي هليوبوليس. أتذكر أمي وهي تنشغل قبل هذه المناسبات بشراء ثياب لنا تناسب مكانة هؤلاء الأقارب وزوارهم من كبار القوم. كانت تحترمهم ولا تفوت مناسبة دينية إلا وساهمت في الاحتفال بها معهم. فهمت أنهم كانوا في الوقت نفسه أقارب لأهلها من أيام حارة الوراق. نشأت معهم وفي ظني أنهم أخوال لها وبشكل ما أعمام أيضا.

***

هناك في الوكالة تعرفت على عديد المندوبين، وبعضهم يهود، يعملون لحساب الوكالة في الريف، لكل منهم ناحية يختص بالتنقل بين قراها على دواب أو على قدميه يبيع منسوجات الوكالة على اختلاف أنواعها وفي البنادر يتعاقد مع التجار على بيع كميات من قطع الملابس الداخلية. تغلق الوكالة أبوابها عند ظهر يوم الجمعة، وتفتحها فور عودة المصلين من مسجد الحسين وكنت بينهم أمشي برفقة والدي أو أحد أفراد العائلة المالكة للوكالة. نقضي بعض اليوم في صحبتهم يديرون بكفاءة ملحوظة مشروعا تجاريا متعدد الجنسية. “إن شاء الله تكبر وتاخد الشهادة وتيجي معانا”، جملة ترددت أكثر من مرة خلال زياراتي للوكالة التي لم تتوقف إلا عندما انشغلت أيام الجمعة وأنا طالب بالعمل “نصف وقت” في المكتبة الأمريكية.

***

روتين نهاية الأسبوع لا يكتمل إلا بزيارة أخرى لأحد أعمامي في موقع تجارته بالعطارين، موقع ورثه عن أبيه وأمه. أتذكره جيدا، ليس فقط لأنه كان كريما في هدايا نعود بها إلى أمي ولكن أيضا لأنه كان رجلا بالغ الثراء بكل المعايير وجميلًا إن صح وصف رجل بهذه الصفة، جمال أورثه لأكثر أبنائه وبناته. أظن الآن أنني ربما تعرفت عنده في العطارين على مستويات غير عادية لجمال المرأة المصرية، مستويات تخفيها «الملاية اللف» أحيانًا وتبرزها بقوة أحيانًا أخرى. لم أخف يومًا عن أبي انبهاري بهذه المستويات ونحن نتناول وجبة الغدا قبل العودة إلى منزلنا. غالبا ما كان يرد بابتسامة وهزة رأس وربتة على كتفي.

***

كان من طقوس نهاية الأسبوع أن يكون الغداء «كباب ونيفة ومنبار محشي بصل» إما في أحد محلات الدهان بالحسين، أو بالطلب في أحد موقعين، وكالة المنسوجات والملبوسات القطنية ومركز التجارة في العطارين، أو وقد حملناه معنا في العودة إلى منزلنا في شارع سامي بحي الحكومة في لاظوغلي، لينتظر معنا عودة أمي وشقيقتي الأصغر من بيت جدتي في الجمالية.

إقرأ على موقع 180  المرحلة الثالثة في حرب غزة.. إحتلال دائم!

***

أحب بين الحين والحين إحياء فصل أو آخر من فصول الماضي، عله يكون من الممارسات المفيدة في تعزيز الذاكرة خشية أن يصيبها وهن مقدر ومكتوب، عله يفيد أيضًا في تجديد طاقات أنهكتها مصاعب العمر الطويل وتجارب حياة متعددة الأوجه والأنشطة والبشر.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عاداتُ وممارساتُ عفا عليها زمني