يُطرح السؤال حول كيفية تعامل الأميركيين مع حزب الله، في ضوء مآلات الواقع السياسي والإقتصادي والمالي في لبنان حاليا. صحيح أنه حصل إنفجار شعبي لبناني، جاء تعبيراً عن غضب سياسي وإجتماعي مكبوت ومتراكم منذ سنوات طويلة، وصحيح أيضا أن سعد الحريري يملك كل الأسباب الموجبة لتقديم إستقالته من رئاسة الحكومة في لبنان، ربطا بمسار تسوية سياسية (2016)، صوّرته أمام جمهوره العريض في مظهر المتنازل عن صلاحياته التي أعطاه إياها إتفاق الطائف، وصحيح أن يكون حزب الله صاحب أولويات مختلفة عن أولويات الآخرين، غير أن هذا كله، وغيره طبعاً، لا يبدد حقيقة أن ما يشهده لبنان اليوم، يحمل في طياته أبعادا خارجية تكاد أحيانا تتفوق على ما عداها من أبعاد محلية.
منذ إحتلال العراق في العام 2003، قرر الأميركيون كشف أوراقهم الإقليمية. طلبوا من بشار الأسد رؤوسا عديدة. إغلاق مكاتب حماس والجهاد الإسلامي وكل التنظيمات الفلسطينية المقاومة في دمشق. التوقف عن دعم حزب الله. رد الأسد، بشراكة كاملة مع مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، بتبني خيار المقاومة في العراق. تردد الصدى في نيويورك، مع صدور القرار 1559. في كل الرحلة الممتدة على مدى 15 سنة، جرّب الأميركيون كل ما بمقدورهم تجريبه مع حزب الله، حتى أن تقديراتهم الإستخباراتية بالنسبة إلى سوريا وإنهيار نظام الأسد، سرعان ما تبددت، حسب إعترافات السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد.
إختار الأميركيون سلاحا لا يشي بنيتهم تغطية حرب عسكرية جديدة ضد حزب الله على شاكلة تموز/يوليو 2006. قرروا إعتماد الحرب الناعمة. حرب العقوبات والدولار. التضييق على البيئة الحاضنة لحزب الله، سواء في لبنان أم في الإغتراب (خصوصا أفريقيا). كان النظام المصرفي بآلياته التقليدية، وإرتباطه الإلزامي بالمنظومة المصرفية العالمية، أكثر إستجابة مما توقع الأميركيون. برغم ذلك، أثبتت التجربة على مدى سنوات طويلة أن نفوذ حزب الله يزداد تمددا في لبنان، كما في الإقليم، خاصة في ضوء ما آلت إليه الحرب السورية.
وصل الأميركيون اليوم إلى السؤال الصعب: هل يمكن محاربة حزب الله بالفوضى أم بالإستقرار؟
ثمة إنطباع أميركي (عند بعض مراكز القرار) أن خيار الحفاظ على الإستقرار في لبنان، أفضى إلى تمكين حزب الله، سياسيا وعسكريا وأمنيا، وبالتالي إستطاع الحزب أن يتكيف مع واقع الضغط المالي، خصوصا وأنه يعمل من خارج كل المنظومة المصرفية في لبنان، ولو أن بيئته تضررت كغيرها من البيئات الطائفية والسياسية اللبنانية من جراء العقوبات المالية، وخير دليل على ذلك نتائج الإنتخابات النيابية في العام 2018، وقبلها وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وإعادة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة وفق مضبطة سلوك جعلته يدير ظهره لكل سلوك حزب الله الإقليمي، ويكتفي بالتعامل معه شريكا فاعلا ومقررا في الميدان السياسي اللبناني.
هذه السياسة يبدو أنها لم تعد ثابتة أميركياً، أو أقله عند فريق أميركي له إمتداداته ضمن “الدولة العميقة”. ثمة نقاش بأن أفضل طريقة لقلب الطاولة تتمثل في أخذ لبنان إلى الفوضى، وعندها سيجد حزب الله نفسه محاصرا بمعطيات يصعب عليه تجاوزها أو تجاهلها، بالسياسة والإقتصاد والأمن، ويمكن من بعدها إبرام تفاهم جديد معه يكون شبيهاً بتفاهم نيسان/أبريل 1996، ولكن هذه المرة يجب أن يكون عنوانه الأول: الصواريخ الدقيقة.
قد يكون هذا الكلام صادماً لفريق لبناني، يقلل دائماً من شأن “المؤامرة”. دعونا نطرح أسئلة، برغم أنها تصح أن تكون أجوبة:
عندما تفاقمت الأزمة السياسية، مَن تولى الضغط على كل من سعد الحريري من أجل إستقالة حكومته، وعندما تردد الأخير، مَن أجرى إتصالاً بكل من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط للطلب منهما إستقالة وزراء كتلتيهما من الحكومة؟ ماذا كان جواب وليد جنبلاط للمسؤول عن الملف اللبناني في الخارجية الأميركية ديفيد شينكر (عُيّن مساعداً لوزير الخارجية في حزيران/يونيو الماضي خلفا لديفيد ساترفيلد)، ولماذا صُدم الدبلوماسي الأميركي من جواب الزعيم الدرزي، وفي المقابل، لماذا وافق جعجع على الطلب الأميركي سريعاً (ربما على هذا الأساس، إتهمه مسؤول فرنسي قبل أيام قليلة بأنه السياسي اللبناني الوحيد الذي ما زال يعطي أذنه للأميركيين)؟
من وضع “فيتو” على ترشيح محمد الصفدي، وأصر على سقوط هذا الخيار الذي كان قد حظي بمباركة كل من ميشال عون وسعد الحريري ومن يصر على عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة برغم دلعه السياسي، وما هي الشروط التي ينبغي أن يحصلها الحريري قبل إبرام أي تفاهم جديد؟
أما سعد الحريري، فقد ضغط الأميركيون عليه منذ اليوم الأول للحراك، لكن لماذا قاوم حوالي الأسبوعين ومن بعدها قرر الإستقالة، والأهم من ذلك، من وضع “فيتو” على ترشيح محمد الصفدي، وأصر على سقوط هذا الخيار الذي كان قد حظي بمباركة كل من ميشال عون وسعد الحريري ومن يصر على عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة برغم دلعه السياسي، وما هي الشروط التي ينبغي أن يحصلها الحريري قبل إبرام أي تفاهم جديد؟
ما هي علاقة ديفيد شينكر بمايكل داندريا، الذي يلقبه جهاز المخابرات الأميركية (سي آي إيه) بـ”الملاك الأسود” أو “أمير الظلام” أو “آية الله مايك”؟
تكفي نقرة واحد على محرك البحث الشهير “غوغل” لمعرفة من هو داندريا. الرجل إختاره دونالد ترامب رسمياً منذ العام 2017، للإمساك بملف إيران، وتردد أنه صار شريكاً في ملفات أخرى منها لبنان والعراق. هذا الفريق الأميركي تاريخه يشي بالشراسة والقتل بلا رحمة وبتنفيذ برنامج إغتيالات بالآلاف وليس بالمئات، منها على سبيل المثال لا الحصر، زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن والقيادي الكبير في حزب الله عماد مغنية.
لنراقب جيداً ما سيصدر عن الإجتماع الثلاثي الذي ستشهده العاصمة الفرنسية غداً الثلثاء ويشارك فيه مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو، وزير شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية البريطانية آندرو موريسون (أو من ينوب عنه)، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر غداً الثلثاء.
الثابت حتى الآن، أن فرنسا (ومعها الإتحاد الأوروبي) وبريطانيا، لا يحبذون أي تفريط بالإستقرار اللبناني. واشنطن التي تضع خطوطاً حمراء لا تتجاوز الجيش اللبناني ومصرف لبنان، لا تملك سياسة ثابتة أو استراتيجية واضحة للتعامل مع الملف اللبناني. وهذا يسهل تقدم أدوار بعض من يقاربون ملف لبنان من زاوية حزب الله فقط.
رب قائل إن الإنهيار الإقتصادي والمالي واقع حتماً بمعزل عن إرادات الخارج والداخل، ولكن ماذا لو قرر المجتمعون في باريس غداً (الثلاثاء) تدعيم القطاع المصرفي في لبنان بودائع عاجلة؟
لا ودائع عاجلة.. وثمة كباش أميركي ـ أوروبي حول مستقبل لبنان، ربطاً بالنظرة إلى حزب الله.. والصراع المفتوح بينه وبين إسرائيل. من يملك تصورا لما ستكون عليه حدود الجنوب اللبناني في حالة الفوضى؟
لننتظر ما ستحمله الأيام والأسابيع المقبلة.