“مع اقتراب مرور قرن على تأسيس العراق المعاصر 1921-2021، يشعر المسيحيّون بأنّ التغيّرات التي يمرّ فيها العراق ستكون مفصليّة، وبأنّ عام 2020 سيكون مختلفاً. لذا، إستقبلوه بروح مختلفة وتفاؤل غير مسبوق.
في ناحية برطلة، البلدة ذات الأغلبيّة السريانيّة في سهل نينوى، شرقيّ الموصل، والتي تحتلّ مكانتها المهمّة في تاريخ الكنيسة السريانيّة، نصب المسيحيّون شجرة ميلاد مقابل كنيسة مار كوركيس، وعلّقوا عليها صور الشهداء الذين سقطوا في الاحتجاجات، وتضمّنت قاعدة الشجرة صوراً لشهداء القوّات الأمنيّة الذين سقطوا أثناء عمليّات تحرير نينوى من سيطرة تنظيم “داعش”.
أضحت الحرب ضدّ “داعش” والاحتجاجات خطوتين حاسمتين لاستعادة الهويّة الوطنيّة في نظر المسيحيّين: وحّدت الحرب ضدّ “داعش” العراقيّين بمختلف انتماءاتهم الدينيّة، مثلما جمعتهم مطالب واحدة في ساحات الاحتجاجات.
ووصف الناشط في منظّمة UPP الإيطاليّة جميل الجميل الزوّار المسيحيّين لشجرة الشهداء في برطلة، الذين علّقوا الشموع وقدّموا صلواتهم، بكونهم حجّاجاً يزورون رمزاً لهويّة وطن جديد سيولد مطلع العام الجديد.
لم تقتصر مشاعر المسيحيّين الإيجابيّة على تشجيع الاحتجاجات والمشاركة فيها فحسب، بل وصلت إلى حدود غير مسبوقة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: دعوة المدوّن الآشوريّ وليم بنيامين William Bnyameen المعروف باسم “خلابئيل” Khlapieel إلى تغيير اسم إقليم كردستان إلى تسمية أخرى، بوصفها “تسمية عنصريّة”، حسب رأيه، لا تعبّر عن طبيعة التنوّع الإثنيّ والدينيّ في الإقليم، مشدّداً على أهميّة تبنّي تسمية “إقليم شمال العراق” بوصفها تسمية أكثر حياديّة.
“خلابئيل”: مع اقتراب اليوبيل الذهبيّ لتأسيس العراق المعاصر عام 2021، سيتقرّر مصير المسيحيّين في الشرق الأوسط، انطلاقاً من العراق، فإمّا النضال من أجل البقاء الدائم والفعّال، وإمّا الرحيل النهائيّ من شرق أوسط جديد من دون مسيحيّين
ويشعر “خلابئيل” بأنّ المسيحيّين سيستقبلون السنة الجديدة بثقة أكثر بأنفسهم، وبما يريدونه من مطالب، بل سيعملون على تحقيقها لتعزيز وجودهم في إقليم كردستان وبقيّة أنحاء العراق، وقال: مع اقتراب اليوبيل الذهبيّ لتأسيس العراق المعاصر عام 2021، سيتقرّر مصير المسيحيّين في الشرق الأوسط، انطلاقاً من العراق، فإمّا النضال من أجل البقاء الدائم والفعّال، وإمّا الرحيل النهائيّ من شرق أوسط جديد من دون مسيحيّين.
من جهتها، لاحظة أستاذة القانون الدستوريّ في جامعة “صلاح الدين” منى ياقو تفاؤل المسيحيّين، إلى التغيير الذي شهدوه مطلع العام الجديد، إذ شعروا بمدى القبول الذي يحظون به في مجتمع متنوّع، وقالت: “تطفو إلى السطح، بين فترة وأخرى، خطابات كراهيّة وفتاوى دينيّة تؤثّر على السلم المجتمعيّ، حتّى تقديم التهنئة بأعيادنا، غالباً ما تصدر بشأنه فتاوى، ويتمّ تصويره بأنّه فعل محرّم أحياناً، فيغمرنا شعور بالاغتراب وبكوننا منبوذين، لكنّ تضامن الشباب في ساحة التحرير وتآزرهم، بغض النظر عن الديانة، جعلانا نستعيد الأمل بهويّة وطنيّة قادرة على أن تجمعنا برغم الاختلاف. وكان الاحتفال برأس السنة ونصب شجرة الكريسمس (الميلاد) في ساحة التحرير دليلاً على أنّنا جزء أصيل من هذا الشعب”.
بدوره، قدّم بطريرك بابل للكلدان الكاردينال لويس روفائيل ساكو قراءة لاهوتيّة عن الاحتجاجات، واصفاً إيّاها بـ”لاهوت التحرير”، مشبّهاً المحتجّين الذين قدّموا تضحيات من قتلى وجرحى بالسيّد المسيح الذي قدّم تضحيات من أجل الحقّ والعدالة، مشيراً إلى أنّه من اللاّفت أنّ الجامع الرئيسيّ لمتظاهري العراق ولبنان، ومعظمهم من الشباب ومن الجنسين، هو إيمانهم بأرضهم ووطنهم وحقوقهم المشروعة ومستقبلهم أمام الفساد البنيويّ المتأصّل منذ عام 2003.
وشبّه الاحتجاج السلميّ باحتجاج المسيح الذي لم يحمل سيفاً، مستشهداً بمثال مهاتما غاندي في مواجهته السلميّة للاستعمار البريطانيّ في الهند، ونيلسون مانديلاّ في تصدّيه للتمييز العنصريّ بجنوب إفريقيا، وقال: إنّ هذا بالضبط ما يفعله متظاهرو العراق، الذين حملوا العلم العراقيّ وشعار “بالروح بالدم نفديك يا عراق”.
وخلال مقابلة مطوّلة مع “المونيتور”، أشار لويس روفائيل ساكو إلى أنّ الوقت قد حان لتوحيد المسيحيّين في تسمية واحدة هي “المكوّن المسيحيّ”، بدلاً من التسميات القوميّة: “كلدان، آشوريّون، وسريان”.
ودعا إلى تأسيس تجمّع سياسيّ واحد يضمّ المسيحيّين، لافتاً الإنتباه إلى أنّ البلاد “مرّت في تحوّلات منذ عام 2003 وفّرت فرصاً قلّما استثمرها المسيحيّون، وهم اليوم أمام تحدٍ كبير لإبقاء حضورهم ودورهم وتعزيزهما، خصوصاً أنّ البلاد مقبلة على انتخابات مبكرة”.
ولذا، توجّه للنخب المسيحيّة بالدعوة إلى “مراجعة أنفسها وتحمّل المسؤوليّة للمّ شملها، إذ تواجه تحدّيات مصيريّة متمثّلة بتناقص العدد بسبب الهجرة، وضعف التمثيل السياسيّ بسبب خطف الكوتا من قبل التيّارات السياسيّة الكبرى وتشتّت الأحزاب الكلدانيّة والسريانيّة والآشوريّة، وتغيير ديموغرافيّة مناطقها التاريخيّة، والتشريعات المجحفة بحقّها وغيرها، وصولاً إلى أهميّة تعديل الدستور وإصلاح قوانين الأحوال الشخصيّة. إنّها مسائل أساسيّة لبقائها وتواصلها التاريخيّ”.
وتبدو أهميّة هذه الدعوة بسبب عمق التشتّت المسيحيّ الداخليّ، فمع وجود 14 طائفة مسيحيّة مختلفة و12 حزباً سياسيّاً تمثّل مختلف التنوّع المسيحيّ من كلدان وآشوريّين وسريان ووجود تشكيلات وفصائل مسيحيّة مسلّحة تصل إلى 5 فصائل، يبقى هذا التشتّت عاملاً للانقسام وحجر عثرة لتشكيل رأي سياسيّ موحّد للمسيحيّين في صدد مختلف القضايا التي تهمّ مستقبلهم، وعلاقتهم بالسلطة المركزيّة في بغداد أو سلطة إقليم كردستان في إربيل.
ولذا، قد تشكّل دعوة الزعيم المسيحيّ مظلّة موحّدة للمسيحيّين في استقبال العام الجديد، من أجل تشكيل تحالف سياسيّ يضمّ كلّ الأحزاب والنخب الفكريّة، بدلاً من تشتّت الأحزاب المسيحيّة والقوميّة وانشقاقها عموديّاً وأفقيّاً.
وشدّد ساكو على أهميّة تقوية علاقات المسيحيّين أفقيّاً مع المواطنين العرب والأكراد والتركمان والإيزيديّين والصابئة المندائيّين وتطويرها وتوضيحها، والسعي إلى الاتفاق معهم على مفاهيم دستوريّة مشتركة للدولة الجديدة والمواطنة ومكانة الأقليّات الأصيلة فيها، على نحو يحفظ حقوقهم سواسيّة من خلال تأسيس “دولة مدنيّة عادلة”.(نقلا عن موقع “المونيتور”: http://bit.ly/30AkiFb )