ذات 17 تشرين الأول/أكتوبر، إستفاق المارد النائم منذ ما أسمي “لبنان الكبير”. نعم، منذ إرتضينا لأنفسنا “قسمة الطوائف”، فأصبحت رئاسة الجمهويرة “مارونية” ورئاسة مجلس النواب “شيعية” ورئاسة الحكومة “سنية”، ليس بالدستور بل بالأعراف المقدّسة، ومذّاك، صرنا نعيش في “دولة الأعراف” لا دولة الدستور. مذّاك أيضاً، كرّت سبحة حكم أرباب الطائفية باسم الطائفة: ننهب ونعيّن ونحكم باسم الطائفة لخيرات جيوبنا لكن بإسم المصلحة العليا للطائفة!
أجيالٌ لبنانية نشأت على فكرة واحدة مفادها: لبنان دولة طوائف، مصلحتنا عند زعيمنا، فهو يرعى الوجود والصمود والحدود – حدود الزعامة الكانتونية! من بين هذه الأجيال، ثمة قلّة حلمت بعلمنة الدولة، وبقيت أحلامها إما طيّ الكتمان، وإما سبباً في استشهاد بضعة رجال دولة نفتقد وجود أمثالهم منذ زمن. من هذه الأجيال، أبي وأباك، اللذان إن تحدثنا معهما، نحن الشباب العشريني، عن الثورة والتغيير، يضحكان حدّ الإستهزاء . يقولان: “هالبلد إلو 100 سنة زعامات وطوائف، هلق إنتو رح تغيرو؟ مستحيل”!
جيل أهلي وأهلك عاش الحرب، والشعارات والقضايا الكبرى والأحلام المستحيلة. جعلهم حكامنا يكرهون بعضهم البعض، ويخافون من هذا “الآخر” الذي لا يعرفونه إلا من خلال ما يريد زعماؤهم تصويره لهم.
أما جيلنا، فقد ولد في غالبيته، بعد الحرب، لا تعنيه زعامة وولاء أعمى، ولا يأبه لحقوق طائفية أو مذهبية! فتح عيناه على بلدٍ مديون بمليارات الدولارات التي قيل أنه جيء بها للإعمار، وإذ به يرى بلداً ببنى تحتية مترهلة، ومن دون كهرباء أو مياه! فتح عيناه على والديه، يجهدان طيلة النهار لتأمين غذائه وتعليمه ومسكنه، ولسدّ أقساط المصارف التي جنت أرباحاً بمليارات الدولارات على حساب شعب فقيرٍ مسحوق! جيلنا مسافر بطبعه، إما جغرافياً أو افتراضياً، يقارن بلده ببلدان العالم المتحضرة، ويجد فرقاً كبيراً. يسأل أهله ومحيطه: من المسؤول عن كل هذا؟ فيجيبونه: فساد السياسيين.
هكذا، نشأ جيلٌ غاضب، يحتقر السياسيين وأولادهم وشركاتهم وكل من يمسح لهم الجوخ أو الطفيليات التي تتربى على فتات سلطتهم!
وتسألون لمَ الثورة؟ وما المسبب؟ لا ليست ضريبة الواتساب، إنما الوقاحة. فرض ضريبة على الواتساب كان آخر إبداعات الوقاحة والفجور السياسي. نعم، أخطر ما في فسادكم يا سادة أنه بات “وقحاً ” و”على عينك يا تاجر”.
لا تخطئوا الحسابات. ما زرع في تشرين، سيزهرُ حتماً، وإن كان الشتاء قاسياً. لا نظريات المؤامرة، ولا شبيحة السلطة، ولا حكومات أقنعة التكنوقراط ستثني هذا الشباب عن محاسبتكم
لبنانكم هذا الذي حكمتموه، ونهبتموه، إما بالسرقة المباشرة، أو بالتغاضي عن السارقين، ثمة جيل كامل يثور عليه. لبنانكم مراسيم لا توقّع بحجة مسلم بالزائد ومسيحي بالناقص، وكهرباء بفاتورتين، وجسور وطرقات هشّة تفوح منها رائحة فسادكم العفن. لبنانكم حروب إعلامية اليوم، وتسويات غداً. لبنانكم ميثاقية مزيفة، وحكم أقوياء الطوائف غصباً عن اللاطائفيين. لبنانكم، خمسة أو ستة آلهة يحكمون ويتحكمون بكل شيء، والباقي “كمالة عدد”. لبنانكم، قانون انتخابٍ يحط الرحال عند كل مرجعية سياسية، لتضفي عليه بركاتها في مناطق نفوذها. لبنانكم، أغلى فاتورة هاتف خلوي، ومصارف “على مدّ عينك” تحتجز أموال الناس دون وجه حق. لبنانكم خطوط حمراء طائفية تمنع المحاسبة والمساءلة، ورجال دين صار معظمهم مجرد أبواق لمرجعيات سياسية. باختصار، لبنانكم زمرة أقلوية سياسية دينية أمنية مصرفية.
على كل هذا، نثور! ولا تخطئوا الحسابات. ما زرع في تشرين، سيزهرُ حتماً، وإن كان الشتاء قاسياً. لا نظريات المؤامرة، ولا شبيحة السلطة، ولا حكومات أقنعة التكنوقراط ستثني هذا الشباب عن محاسبتكم، ومساءلتكم، واقتلاعكم من أماكنكم التي باتت تئن من شدة تمسككم بها!
ثورتنا، على لبنانكم، مستمرة.
100 يوم من الثورة، و100 يوم من الدهشة والإنبهار والمفاجآت.. والأهم عودة الأمل.