احتجاجات الأردن وأساسيات الوعي.. المُضحك المُبكي

يقول المثل الشعبي "هبلة بتكحل عمياء، وطرشا بتِتْسَمّع ع الباب". مثل يعبر عن حالة الفوضى التي تحكم السلوك العام، الذي لا يحقق فائدة تُرجى، إنما هو بكل تفاصيله عبث وفوضى. في السلوك السياسي، فإن الغضب والرفض إن لم يتم بناؤهما على منطق ووعي، فليسا أكثر من فوضى، ولأن الأردن بطبيعته الجيوسياسية، الفوضى فيه غير ممكنة حالياً، حتى الآن، فإننا إذا أردنا توصيف الوضع السياسي فيه فلا نجد أبلغ من هذا المثل الشعبي ليعبر عن الحالة.

في الأردن، تيارات سياسية انقسمت عشية الأزمة السورية: تيار مع سوريا ووحدة أراضيها، ومع محورها (روسيا، إيران، حزب الله والصين)، وتيارات أخرى توزعت بين تركيا والولايات المتحدة ودول الخليج العربي.

الطريف في الأمر أن الجميع يخرج يوم الجمعة رافعاً شعارات ضد اتفاقية الغاز مع العدو الإسرائيلي. الجميع يرفضون الغاز لكنهم، مؤيدون ومعارضون لسوريا، قد يجهلون أن الحرب على سوريا كان هدفها الغاز الطبيعي، وغالبيتهم يمقتون روسيا، ولا يعلمون أنهم بصراخهم ضد اتفاقية الغاز إنما هم ينحازون، شاؤوا أم أبوا إلى روسيا!

يخرجون ضد صفقة القرن، ولم يقرأوا بنودها هذه الصفقة التي تهدف بالدرجة الأولى للنيل من المقاومة الفلسطينية التي يدعمها كل من حزب الله وإيران، وغالبية المتظاهرين من أمام المسجد الحسيني ضد إيران!

لا يمكن للمرء الواعي وهو يراقب إحدى المسيرات المعارضة للغاز في الأردن أو تلك المعارضة لصفقة القرن، ويتأمل وجوه المنسقين ومطلقي الهتافات، إلا أن يدخل بحالة من الهستيرية الفكاهية، ولا يسعفه في تلك الأثناء إلا أن يردد “هبلة بتكحل عمياء، وطرشة بتتسمّع ع الباب”.

المعارضة السياسية في الأردن.. أزمة وعي

سردت باحثة وصحافية أردنية حواراً جرى بينها وبين إحدى القيادات الشيوعية الأردنية البارزة، عندما اقترحت عليه مشروعاً لتنمية القراءة لدى الحزبيين، فأجابها بأن أحداً لا يملك وقتاً للقراءة.

ولأن قِلةً من الحزبيين في الأردن امتلكوا وقتاً للقراءة وليس الأكثرية، تجدهم اليوم يمثلون في تظاهراتهم لوحة “مُضحكة مُبكية”، إذ كيف لنا أن نفهم أن أبرز منسقي الحملة المناهضة لاستيراد الغاز من إسرائيل بعضهم معارض وبشدة لوحدة الدولة السورية ولروسيا التي دعمت صمود سوريا!

يوم الجمعة، وبعد صلاة الظهر، يخرج الإخوان المسلمون (كلهم عارَضوا وعملوا ضد الدولة السورية أيام الأزمة الممتدة حتى الآن) وشباب مستقلون (كثيرون منهم ضد الدولة السورية) والتيارات القومية واليسارية التي يقف “أغلبها” مع الدول السورية. كلهم يخرجون معاً وبيد واحدة ويصرخون ضد اتفاقية الغاز.

مؤخراً، صدحت الحناجر ضد صفقة القرن، وطبيعة الشعارات التي رُفعت، وطبيعة المعارضين تُظهران للملأ أن احداً، حتى كاتب الشعارات لم يقرأ الصفقة، ولعل كثيرين إن قرأوها، وكانوا صادقين في مشاعرهم الرافضة لحزب الله وإيران، كان الأجدر بهم أن يقفوا مع صفقة القرن لا ضدها!

قصة الغاز

في سنوات الطفولة، تلجا الأمهات إلى رواية القصص للأبناء لتشرح لهم السلوكيات عبر قصة، كذلك يلجأ الأساتذة لأسلوب القصة ليقنعوا طلابهم بأهمية القراءة ويستميلونهم إليها. نحن هنا سنلجأ لأسلوب القصة أو الحدوتة لنشرح لكثير من المعارضين الأردنيين حقيقة ما يجري، ليراجعوا مواقفهم من إسرائيل.

بداية عندما بدأت الأزمة السورية، لم يكن الهدف منها التصدي لـ “قاتل شعبه” ولا قطف الحرية وحقوق الإنسان وتقديمها للشعب السوري، فلا دولة في العالم تأبه لمصالح الشعوب الأخرى. إن الهدف الأول كان مد أنابيب الغاز عبر سوريا إلى أوروبا، لتتمكن أوروبا من الاستغناء عن الغاز الطبيعي الروسي، وهذا ما لم يحصل، ولهذا السبب دعمت روسيا سوريا حتى النفس الأخير.

الأمر الثاني هو أن منتدى غاز شرق المتوسط المكون من إسرائيل ومصر والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا وفلسطين، إنما هو إحدى المحاولات لحصار روسيا وتمكين أوروبا من الاستغناء عن الغاز الروسي (روسيا التي تدعم قاتل شعبه – على حد تعبير أردنيين يعارضون اتفاقية الغاز). وثمة صعوبات تواجه المنتدى أبرزها مالية، وإن شراء الأردن ومصر الغاز من إسرائيل، قد يكون إحدى العوامل المخففة لصعوبات مد أنابيب الغاز من إسرائيل إلى اليونان ومن ثم إلى أوروبا، علّ الأخيرة تتمكن من الاستغناء عن الغاز الروسي.

بلغة أدق، إن الأردنيين الذين أطلقوا على الرئيس بشار الأسد “قاتل شعبه” غرقوا في الدعاية الحقوقية والإعلامية، التي ما كانت تهدف لتقديم شيء للشعب السوري، وإنما سرقة أراضيه لمد أنانبيب الغاز، فهل يعلم هؤلاء الأردنيون أنهم عندما يصرخون ضد اتفاقية الغاز مع إسرئيل إنما ينحازون، ولو من دون قصد إلى روسيا، التي يرونها دولة مستعمرة مثل الولايات المتحدة ويساوون بينهما؟

هل يعلم الأردنيون اليوم أن انهيار فكرة منتدى غاز شرق المتوسط سيكون خبراً سعيداً لكل من روسيا وإيران  وسوريا وحزب الله؟

“حدوتة” صفقة القرن

الأمل كل الأمل أن يكون الأردنيون الذي خرجوا ضد صفقة القرن قد قرأوا بنودها، فلربما تغير طرحهم السياسي ضد إيران وحزب الله، وإن لم يتغير فالأجدر بهم أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ويقفوا مع صفقة القرن وليس ضدها.

قبل احتلال بغداد في العام 2003، كان الناس في الأردن لا يفرقون تماماً بين مصطلحي “شيوعي” و”شيعي”، وكثيراً ما حصل هذا الخلط، فلا شيعة بيننا، ودولتنا كانت منذ الخمسينيات في حلف ضد الاتحاد السوفياتي، فلا معلومات وافية عن الشيوعية لدى العوام إلا انها كُفر. بعد انهيار العراق بدأ التحشيد في الأردن ضد الشيعة في ظل غياب الوعي والمعرفة، وأصبح الناس صيداً سهلاً لكل تحشيد ضد الشيعة.

إقرأ على موقع 180  صور المُقدسة التي لا تُقهر .. و"الشيكل" المسروق!

عند بدء الأزمة السورية، كان عنقود الكراهية قد استوى، وطاب قطافه، فكنتَ تصادف من يهاجمك لأنك مع وحدة سوريا بأنك “رافضي”، فتشعر أنك سافرت عبر الزمن واجتزت مئات السنوات إلى الخلف وكأنك تحضر لحظة الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان!

في صفقة القرن، لمن قرأ بنودها، مساحات مخصصة لإضعاف المقاومة الفلسطينية، التي تدعمها بالدرجة الأولى إيران، وإضعاف حزب الله.

قاد الإخوان المسلمون في الأردن حملة التجييش لصالح ما يسمى المعارضة السورية، ووقفوا ضد إيران وحزب الله، واليوم يقف الإخوان المسلمون ضد صفقة القرن، التي تهدف بالدرجة الأولى للتصدي لإيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية!

في الشارع الأردني وأنت تقطع طريقك يوم الجمعة نحو الجامع الحسيني، تسمع شعار “خيبر خيبر يايهود جيش محمد سوف يعود”، وأول ما يخطر ببالك، هو سؤال: عندما يعود محمد هل سيلتحق بمن يبجلون أحفاده (الشيعة) أو انه سليتحق بمن يسبغون الوضوء (السنة)؟ مع من سيقف محمد؟

يسير الأردنيون والغضب يعلو محياهم وينسى أو يتناسى أكثرهم أن روسيا (التي دعمت قاتل شعبه من وجهة نظرهم) قاطعت اجتماع المنامة في البحرين، ورشة الشق الاقتصادي في صفقة القرن، وكان لها موقف معارض لها، وأن الولايات المتحدة التي قادت حرباً هي وحلفائها ضد سوريا الواقعة في محور روسيا وإيران والصين، هي التي عقدت هذه الورشة ورعتها.

ويبقى في الأردن أشخاص يؤمنون بوجبة الحريات وحقوق الإنسان التي تطبخها الولايات المتحدة، لكن إذا جدّ الجد، يصرخون في الشوارع ضد “إسرائيل”، فعلا “هبلة بتكحل عميا وطرشة بتتسمّع ع الباب”.

Print Friendly, PDF & Email
رانية الجعبري

صحافية وقاصة من الأردن

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الفلسطينيون.. حملة مناديل أم حقائب؟