أفرجت الحكومة البريطانية عن وثائق سرية تولى نشرها الأرشيف الوطني البريطاني، أظهرت إستخدام البريطانيين منابر دينية في العالم العربي من أجل بث الدعاية المناهضة للأحزاب الشيوعية. ففي العام 1948، أنشئت وحدة بريطانية أطلق عليها إسم “العمليات الدينية”، ومهمتها استخدام الدين الإسلامي حاجزا ضد الشيوعية، وتولت الإشراف على عدد من الصحف والمجلات ودور النشر والإذاعات ووكالات الأنباء العربية طوال 29 عاما، كما أنها تدخلت في صياغة مضمون خطب الجمعة ولا سيما في جامعة الأزهر في القاهرة، بغرض نشر دعاية معادية للشيوعية في الشرق الأوسط من دون أن تنسبها إلى الحكومة البريطانية.
وقد كشف الصحافي إيان كوبين أن الوحدة التي كانت تحصل على ميزانية من “الخدمات الأمنية البريطانية”، أنتجت روايات للأطفال والفتيان والكبار، سيما تلك التي تخاطب الشباب (قصص عاطفية وبوليسية)، وكلها تتضمن رسائل مبطنة تحذر من مخاطر الفكر الشيوعي الإلحادي ومن دور الإتحاد السوفياتي الذي يريد نشر الإلحاد والفوضى السياسية والإقتصادية في الشرق الأوسط. وقد تولى إدارة هذه الوحدة، عند إنشائها، عميل بريطاني يدعى جون بيك.
وبحسب مذكرة سرية من مكتب بيروت في آب/أغسطس 1960، ثمة عبارات واضحة: “نأمل بأن نقدم نشرات أو خطبا شهرية تغطي موضوعات دينية، وسيقوم بكتابتها الشيخ سعد الدين الطرابلسي، من المحكمة الشرعية في بيروت سابقا، والآن في محكمة زحلة الشرعية، كونه شخصية دينية تقية.. وسيتم توزيع ألفي نسخة من كل خطبة دون ذكر كاتبها في العالم العربي كله باستثناء العراق، وسيتم إرسالها إلى الشيوخ والشخصيات المسلمة والمساجد والمؤسسات التعليمية الإسلامية”.
ويشير كوبين إلى أن اسم الوسيط بين الوحدة البريطانية والشيخ سعد الدين الطرابلسي كان إسمه “ريفيرا”(إسم حركي)، و”ربما كان اسما سريا”، مشيرا إلى أنه تم ذكر وسيط بين الوحدة وأشخاص وصفوا بـ”العاملين الدينيين”، وهذا الوسيط هو طلعت الدجاني، وهو لاجئ فلسطيني في بيروت، انتقل إلى لندن لاحقا، وكرمته ملكة بريطانيا في العام 1979، وتوفي في العام 1992”. ويورد تقرير “ميدل إيست آي” أن العملية التي نفذها الطرابلسي، كانت تكلف حوالي 8800 ليرة لبنانية سنوياً، أي ما يعادل ألف جنيه إسترليني.
يوضح كوبين بأنه في العام 1953، كتبت الوحدة من مركزها في لندن إلى ممثلها في بغداد: “نرغب بالتعرف على برنامجك التجريبي لنشر الدعاية السرية في الأماكن الشيعية المقدسة، وإمكانية استخدام الأفكار خارج العراق”(تحديداً بعض المساجد الشيعية في العاصمة اللبنانية).
ويشير التقرير إلى أنه في نيسان/أبريل 1959 عقد في بيروت مؤتمر لضباط وحدة العمليات الدينية في الشرق الأوسط.
ويقول الكاتب إيان كوبين إن الوحدة أدارت عمليات في العديد من بلدان المنطقة ولكنها كانت ناشطة في مصر منذ الأيام الأولى لإنشائها، وتظهر وثيقة كتبت في العام 1950 أن الظروف في مصر تجعل من إمكانية انتشار الشيوعية “أمرا محتوماً” بسبب الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء وتمركز ملكية الأراضي بيد مجموعة صغيرة من الملاكين والإقطاعيين المصريين. كما إستهدفت الوحدة البريطانية في مهامها جامعة الأزهر؛ كونها تخرج أئمة يلقون خطب الجمعة في المساجد المصرية كلها، بالإضافة إلى مدرسي اللغة العربية في المدارس الثانوية، والمدرسين في الأرياف، والمحامين المتخصصين في القانون الإسلامي، ولعل “الإنجاز الأكبر” للوحدة في القاهرة هو “وكالة الأنباء العربية”، التي أنشأتها المخابرات البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية، مشيرا إلى أنه مثل وكالات الأنباء والإذاعات التي أنشئت في بيروت وطرابلس والبحرين وعدن، فإن وكالة الأنباء العربية أصبحت تحت إدارة الوحدة بعد إنشائها في العام 1948.
كان رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن مقتنعا بأن عبد الناصر خاضع لتأثير الكرملين، مع أن سفير بريطانيا في القاهرة، همفري تريفليان، لم يكن موافقا على هكذا إستنتاج
ويشير الموقع إلى أنه بعد تدهور العلاقات البريطانية مع مصر في العام 1956، فإن وحدة العمليات الدينية حولت دعايتها من الشيوعية لمواجهة نظام جمال عبد الناصر، الذي كان يدير حملة دعائية ضد بريطانيا، وبعد تأميم قناة السويس في تموز/يوليو 1956، زادت الدعاية البريطانية من خلال “وكالة الأنباء العربية”، وكان رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن مقتنعا بأن عبد الناصر خاضع لتأثير الكرملين، مع أن سفير بريطانيا في القاهرة، همفري تريفليان، لم يكن موافقا على هكذا إستنتاج.
ويذكر كوبين أنه مع زيادة التحضيرات لعمل عسكري بريطاني ضد مصر، إنكشف أمر مكتب الوحدة البريطانية في القاهرة، فقامت المخابرات المصرية بمداهمة مكاتب “وكالة الأنباء العربية” وبيوت عدد من العاملين فيها، واتهمت 11 مصريا بالتجسس لصالح “أم آي 6″، وتم إعدام أمين محمود وابنه وسجن ضابط بحري، واعتقل عميلان من “أم آي 6″، حقّق المصريون معهم مطولاً، وحوكم آخرون غيابيا، فيما تم ترحيل دبلوماسيين وأربعة صحافيين بريطانيين، ونجا مدير الوكالة البريطاني، الذي كان مراسلا لمجلة “إيكونوميست” و”التايمز” في القاهرة.
ويشير كوبين إلى أنه بحلول آذار/مارس 1960 كتب مسؤول بارز في الوحدة في سفارة بريطانيا في بيروت، قائلا: “من بين عملياتنا السرية، أؤكد الأهمية الكبرى لوكالة الأنباء العربية، ولا شك أنهم يقومون بعمل مهم في المنطقة ويديرون مكتبا جيدا”.
وبحسب التقرير، فإن الوثائق تكشف عن إقناع الحكومة البريطانية في الستينيات وكالة “رويترز” بإدارة عمليات وحدتين واجهتين تابعتين للوحدة “خدمة الأخبار الإقليمية” (الشرق الأوسط) و”خدمة الأخبار الإقليمية” (أميركا اللاتينية)، مشيرا إلى أنه تم الكشف عن علاقة “رويترز” مع الوحدة في ثمانينيات القرن الماضي، ودعمت الحكومة البريطانية عمليات “رويترز” من خلال “بي بي سي”، وبدأت تقدم دعما معززا لـ”بي بي سي”، من خلال عمليات الخدمة العالمية، ودفعت “بي بي سي” بدورها مبالغ مالية لتلقيها الأخبار.
ماذا حدث بعد إغلاق الوحدة البريطانية في العام 1977؟
يجيب كوبين أن ثمة جواب صرح به وزير الإعلام الأردني عدنان أبو عودة (جنّدته إم آي 6″)، وهو فلسطيني وصل إلى مركز مهم في المخابرات الأردنية، واختاره العاهل الأردني الملك حسين لهذه الوظيفة، وكان الأردن يواجه أزمة كبيرة عرفت باسم “أيلول الأسود”، وحلت عندما تم ترحيل الفدائيين الفلسطينيين إلى سوريا”. يوضح كوبين أن أبو عودة شرح في مقابلة مع موقع “ميدل إيست آي” في العام 2018، كيف أرسل في بداية سبعينيات القرن الماضي إلى إنجلترا للتدريب، (كان ضابطا في جهاز المخابرات الأردنية)، حيث قال له مدير المخابرات الأردنية: “جلالته يريد منك أن تذهب في دورة إلى لندن إسمها وحدة أبحاث المعلومات”، وقال أبو عودة: “قلت له ما هي هذه الوحدة؟ لا أعرفها”، ثم تم إرساله لاحقا إلى إنجلترا لدراسة الحروب النفسية، و”كان الملك يُحضّرني لأن أكون وزيراً للإعلام بناء على نصيحة أم آي 6 ودرستني الوحدة أساليبها ووسائلها.. وعندما أصبحت وزير إعلام قمت بتدريب شخص أو شخصين على كيفية القيام بذلك”.
ويختم كوبين تقريره في “ميدل إيست آي” بالإشارة إلى أن هناك أدلة تثبت أن الوحدة درّبت مسؤولين في المنطقة للقيام بالمهام نفسها قبل إغلاقها، برغم عدم وجود ما يشير إلى ذلك في ملفاتها حتى الآن. النص الكامل للتقرير باللغة الإنكليزية على موقع “ميدل إيست آي“: http://bit.ly/2I76U30