السلاح في العقيدة العسكرية.. كيف تطوّرت نظرياته السياسية؟

السلاح بالنسبة لللفيلسوف والقائد العسكري الصيني صن تزو، يوفّر الصيغة الكلاسيكية للقوة كأداة للدبلوماسية، وأداة تفاوض ومنطقية لعبة وفقًا للمنظر الأميركي توماس شيلينغ، أو أداة لتحقيق توازن استراتيجي ضمن السياسة الواقعية، وفقًا لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر. 

يُعدّ كتاب القائد العسكري الصيني صن تزو (Tzu) “فن الحرب” (The Art of War) وثيقة تاريخية ومستندًا أساسيًّا حول السلاح وأهميته في العقيدة العسكرية، حتى باتت أفكاره جوهر ما يُعرف بالواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية، والتي ترى:

1) أن النظام الدولي فوضوي؛

2) أن الدول تسعى للبقاء عبر القوة وامتلاك الردع؛

3) أن السلام ليس غياب الحرب، بل توازن قوة يمنعها؛

ومن أشهر ما قاله صن تزو حول أهمية السلاح:

-“السلاح أداة خطيرة لا يُلجأ إليها إلا للضرورة القصوى”.

-“لا تعتمد فقط على احتمال ألا يهاجمك العدو، بل اعتمد على استعدادك التام لردعه”.

-“من لا يعدّ سلاحه، يضطر إلى حمل سلاح عدوه”.

-“أفضل الجيوش هي التي تكسب الحرب دون أن تطلق سهمًا”.

السلاح، إذًا، في فكر صن تزو، ليس فقط أداة قتال، بل هو أداة سياسية واستراتيجية تُستخدم للردع، وللسيطرة، ولحماية الدولة من الانهيار أو التبعية. وتؤكّد النظريات العلمية المختلفة الحديثة في العلاقات الدولية والدراسات الأمنيّة مدى أهميّة السلاح وبناء القدرات العسكرية، وتُعبّر عن امتداد عقيدة التسلّح ودورها في الحروب، وتاليًّا تأمين الحماية وضمان الاستقرار وحتى السلام.

عقيدة الاعتماد الذاتي في الأمن 

عقيدة “الاعتماد الذاتي في الأمن” (Self-Reliance in Security Doctrine) هي مبدأ جوهري حول أهمية توفّر الاحتياج الأساس من القدرات الذاتية العسكرية والاقتصادية في بناء الأمن الذاتي أو القومي بهدف تعزيز الاستقلالية والسيادة الوطنية، وفقًا لنظرية الواقعية البنيوية (كينيث والتز، نظرية السياسة الدولية، 1979). فكل دولة لا تملك إلا خيار الاعتماد على نفسها لضمان أمنها الخاص في نظام دولي فوضوي.

ويشكّل هذا المبدأ نقطة جوهرية في مفهوم توازن التهديد الذي طرحه ستيفن والت (Walt)، في كتابه (“مصادر التحالفات”، عام 1987)، في سياق تطوير النظرية الواقعية البنيوية. لقد طوّر والت نظرية توازن القوى التقليدية عام 1985 في سياق نقده للواقعية الكلاسيكية والبنيوية. فتوازن التهديد مفهوم يفترض أن الدولة تحشد قواها أو تنضم لتحالفات ضد أكثر دولة تشهد تهديدًا فعليًّا على أمنها، خاصة في مواجهة تهديدات مستمرة أو مزمنة. والتهديد المدرَك يتقوّم بثلاثة عناصر: القوة العسكرية لدى الدولة الخصم والنوايا العدوانية والقرب الجغرافي. وفي مرحلة أكثر تطوّرًا مع جون ميرشايمر (Mearsheimer) والمدرسة الواقعية الجديدة في كتابه (“مأساة سياسات القوى العظمى”، 2001)، يصبح “الاعتماد الذاتي ليس خيارًا أيديولوجيًا بل ضرورة استراتيجية، خاصة في بيئة دولية لا تُكافأ فيها الثقة، بل تُعاقب”.

بالتالي، تنصّ عقيدة الاعتماد الذاتي على السيادة الأمنية وتحقق الاستقلال في القرار الأمني والسياسي؛ بحيث لا يجوز التفريط بالقرار الدفاعي لصالح قوى خارجية، وتتطلّب تطوير القدرات الذاتية والحد من الدعم الخارجي الذي قد يتغير تبعًا للمصالح. بالنتيجة، تؤمّن العقيدة تقليل التعرّض للابتزاز أو الضغوط. وحتى اليوم، تفتقد الدول العربية بغالبيتها الاستراتيجية المتكاملة في بناء عقيدة الاعتماد الذاتي بقرار خارجي، يهيمن على النظام الدولي، وتحديدًا في منطقة غرب آسيا.

القدرة العسكرية وفق نظرية الردع 

بالنسبة للاستراتيجي والفيلسوف العسكري الصيني صن تزو، السلاح هو الوسيلة الوحيدة حين تفشل كل البدائل، والاستعداد العسكري والتحسّب للعدو هو جوهر نظرية الردع للمنظّر الاقتصادي والاستراتيجي الأميركي المعاصر، توماس شيلينغ (Shelling)، في كتابه الأسلحة والتأثير، 1966. فالعدو قد لا ينوي الهجوم اليوم، لكن القدرة على الردع تمنعه عنه، لأن السلاح أداة توازن الرعب والردع. الأول عاش في ذروة الصراع بين الإمارات الصينية تقريبًا ما بين القرن الخامس والسادس ما قبل الميلاد، والثاني عاصر صراعات الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وما بعدها (1921-2016)، وألّف كتابه في سياق الحرب الباردة والأسلحة النووية. وعلى الرغم من التباعد الزمني واختلاف السياقات التاريخية والقدرات العسكرية بين عصري المنظّريْن، أدرك كل منهما جوهر فلسفة الردع وأهمية دور القدرات العسكرية كأداة نفسية وسياسية، لا كوسيلة مادية للتدمير فقط. فقوة السلاح في حد ذاتها ليست الغاية، بل أداة للضغط والتأثير، وتحقيق النصر بأقل تكلفة. والقدرة العسكرية الفعالة ليست فقط في استعمال السلاح، بل في إقناع الخصم في استعماله إذا لزم الأمر. وهو ما يُعرف بـ”الردع بالتهديد لا بالفعل” أو “الردع بالتكلفة المتوقعة”. هكذا يغدو السلاح وسيلة للهيبة وخلق حسابات الردع لدى الخصم، حيث ذروة استراتيجية الردع: “النصر دون إطلاق رصاصة”.

السلاح عنصر أساسي في توازن القوى، ويجب استخدامه لدعم المفاوضات وليس كبديل عنها، فهو أداة لإدارة التوازن الدولي؛ ودعم أدوات السياسة الخارجية المعاصرة: الردع، التفاوض، وتوازن القوى

وقد شكّلت نظرية شيلينغ في كتابيه: (The Strategy of Conflict) عام 1960 و(Arms and Influence) عام 1966، حول امتلاك القوة العسكرية الموثوقة وإظهار الاستعداد لاستخدامها بما يؤمن ردع العدوان وتحقيق الاستقرار، نواة مبدأ “السلام من خلال القوة”، وبخاصة في سياق الحرب الباردة، وهي العبارة التي لطالما ردّدها دونالد ترامب منذ بدء ولايته الثانية هذه السنة.

إقرأ على موقع 180  قرارات ترامب ووعوده من كندا إلى لبنان.. ممثلٌ واحدٌ على مسرح العالم!

مبدأ “السلام من خلال القوة”

وبينما أسّس شيلينغ لكيفية تحويل القوة العسكرية إلى “إشارات ردع” (Deterrence Signals) يفهمها الخصم، وأدخل فكرة “التواصل عبر التهديد”، بحيث تصبح القوة العسكرية لغة للتفاوض، شكّلت نظريته في “الردع النووي” (Nuclear Deterrence) الأساس النظري والعلمي لمبدأ “السلام من خلال القوة” في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

والجدير ذكره أن “السلام من خلال القوة” (Peace through Strength) هي نظرية في العلاقات الدولية تعتمد على فكرة أن امتلاك قدرة عسكرية قوية وموثوقة يُسهم في تحقيق السلام عن طريق ردع أي معتدٍ محتمل. بمعنى آخر، فإن انتشار القوة والعمل الاستراتيجي المبني على الردع يخنق احتمالات العدوان ويعزز الاستقرار. إذًا هو مبدأ استراتيجي يفترض أن السلام يتحقق عبر امتلاك القوة العسكرية وردع الخصوم، علمًا أنه مبدأ جذوره يونانية تعود للقرن الثاني الميلادي.

تطوّر المبدأ أكاديميًّا مع الوقت مع نظرية الردع والواقعيّة في العلاقات الدولية، وبرز في سياسات الردع وبناء القوة كوسيلة للبقاء وضمان المصالح، وليس على المبادئ الأخلاقية. وقد طُبّق في الحرب الباردة وفي سياق تطوّر الفكر الواقعي الأميركي مع كل من الرئيس الأميركي رونالد ريغان (عقيدة ريغان)، وكذلك المفكّر الاستراتيجي والدبلوماسي هنري كيسنجر (1923-2023) على مستوى الممارسة والخطاب. وتشير المقارنة التحليلية الفلسفية بين مبدأ السلام من خلال القوة كما يظهر في الفكر الاستراتيجي الحديث، وفلسفة صن تزو حول السلاح والحرب، الالتقاء حول علاقة الأمن الوطني بالقدرة على الردع بحيث إن الدولة التي لا تمتلك السلاح ولا تُعدّ نفسها عسكريًا تخضع لمن يملكه وتفقد استقلالية القرار بما يتناقض مع نظرية السيادة. ويؤمن امتلاك القوة العسكرية وردع الخصوم وبناء الهيبة تاليًّا “السلام” وضمان الاستقرار وفقًا للمنظّريْن وإن كان مبدأ “السلام من خلال القوة” أكثر اعتمادًا على الردع العسكري التقليدي والهيمنة وتنفيذ استراتيجية الردع.

السلاح قوة العاقلين 

بناء على ما تقدّم، يمكن إيجاز أهمية السلاح في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية على كل من البعد الاستراتيجي الكلاسيكي والبعد النظري للردع والبعد الواقعي الدبلوماسي.

على المستوى الأول، يمثّل السلاح بالنسبة لصاحبه أداة ردع تكسر العدو دون قتال ويمكن أن يحقّق النصر بأقل تكلفة ممكنة، كما يساهم في تكامل منظومة القوة الشاملة إلى جانب القدرات الاقتصادية والدبلوماسية والمعلوماتية، وتعزيز المصداقية التفاوضية وإجبار الخصم على تقديم تنازلات. وفي العلاقات الدولية المعاصرة تبرز استراتيجيات الردع الحديثة مثل “القوة الذكية” (Smart Power) التي تدمج بين القوة الصلبة (السلاح) والقوة الناعمة.

في البعد الثاني أو البعد النظري للردع، تحتاج السياسة الخارجية للتهديد المصداقي الذي يوفره السلاح للتواصل السياسي عبر مختلف الرسائل للخصوم، ومنع الحروب الكبرى لا النزاعات المحدودة. ويساهم مفهوم السلام من خلال القوة حيث يوازن امتلاك السلاح بين الاستعداد للدفاع وردع التصعيد. أما على مستوى البعد الواقعي الدبلوماسي، فالسلاح عنصر أساسي في توازن القوى، ويجب استخدامه لدعم المفاوضات وليس كبديل عنها، فهو أداة لإدارة التوازن الدولي؛ ودعم أدوات السياسة الخارجية المعاصرة: الردع، التفاوض، وتوازن القوى.

بعد هذه اللمحة عن أهمية دور السلاح في العقيدة القتالية والعلاقات الدولية والعلوم السياسية والسياسة الخارجية، يفتقد كلُّ حديث عن نزع السلاح في هذه الأيام، المنطق بأبعاده اللغوية والاصطلاحية والمفهومية. فالمنطق هو الكلام السليم والمعبّر عن المعاني بالألفاظ. وفي التعريف الإصطلاحي، يعرّفه الفيلسوف الفارابي بأنه “آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في التفكير”، أي هو مجموعة القواعد التي تنظّم عمليات التفكير والاستدلال بحيث يصل العقل إلى نتائج صحيحة من مقدمات صحيحة. ويفيد المصطلح مفهوم دراسة قوانين الفكر، وشروط الصحة في الاستدلال، ويهتم بالعلاقة بين المقدمات والنتائج، والتمييز بين البرهان الصحيح والمغالطة. فالتنازل عن السلاح ليس من المنطق بشيء في أي من موازين العقل، ولا يساوق إلا الضعف والهزيمة وخسارة السيادة والاستقلالية وارتهان القرار. هل نتأمل جيّدًا في المفاهيم والمصطلحات؟

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذة جامعية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إسرائيل "اليمينية".. تحوّلات إقليمية ودولية