حذرني زملاء عديدون من استخدام هذا العنوان أو الكتابة في هذا الموضوع. كانت ردودي وما تزال صريحة وواضحة بافتراض صدق وموضوعية النوايا. أكاديمياً أرى الموضوع مشروعاً. كتب فيه علماء السياسة عديد المرات في السنوات اللاحقة لحصول عشرات المستعمرات على استقلالها. كانوا يسألون إن كانت هذه المستعمرة أو تلك تستطيع أن تستمر كدولة بعد اعتراف العالم لحكامها الوطنيين بالسيادة. تعلمنا أن الدول، صغيرة أو كبيرة، ليست خالدة، إنما تولد وأحيانا كالبشر بعمليات قيصرية وتسقط بأمراض خاصة بها وكثير منها ينتقل بالعدوى.
نحن أنفسنا في عالمنا العربي نشأنا كتلاميذ في رحاب العلوم السياسية والسؤال الحائر بدون جواب بيننا وبين أساتذتنا كان المتعلق بمُكنة أقطار عربية، نشأت بانسحاب قوات الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، على الصمود أمام مسئوليات ترتبت على قادتها نتيجة الاستقلال. أذكر أن البحث عن إجابة عن هذا السؤال كان وراء اهتمام بعضنا بجامعة الدول العربية ثم وراء خيبة أملنا فيها. إذ أثبتت الجامعة، بما لا يدع مجالاً للشك، أن بعض هذه الأقطار حديثة الاستقلال ما كانت لتبقى طويلاً دولاً مستقلةً أو تنمو ويشتد عودها وتعتدل في وقفتها، لو لم تكن حازت على عضويتها ومقاعد في مجالسها. لدينا أمثلة معروفة نعود إليها كثيراً للاستدلال على أوزان الأسس التي قامت عليها الدولة العربية الحديثة، ومنها عضويتها في الجامعة العربية. هذه الجامعة على ضعفها وعجزها عن أداء أبسط أدوارها كانت أيضاً ضرورة أو شرطاً كامناً فرضته الدول العظمى لقبول هذا البعض من الدول العربية حديثة الاستقلال أعضاء في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
***
هذا السؤال كان على الدوام مشروعاً بالنسبة لأوضاع دول في أقاليم أخرى غير الشرق الأوسط، أقاليم لم تتطور فيها الكيانات تاريخياً وسياسياً واجتماعياً بشكل طبيعي وبدون تدخل خارجي لتصير دولاً ذات سيادة. السؤال أيضاً مبرر في أجواء نعيشها الآن في مرحلة هجمة الفيروس الكوروني على دول عديدة. نسأل السؤال كلما حاصرتنا إحصاءات تلاحق الفيروس. نقترب منه ومن غزواته فينتقل إلى مناطق ودول أخرى. نقترب أكثر فيشدد قبضته معلناً بكل الثقة الممكنة أنه في هذا الصراع يكسب أرضاً بينما تفشل حتى تكاد تسقط دول عديدة الواحدة بعد الأخرى. بعض هذه الدول لم ينفعها في هذه الحرب ضد الفيروس استقلالها ولا الدساتير المنظمة للحكم فيها ولا درجة تحضرها وتقدمها ولا الصواريخ الباليستية وحاملات الطائرات. كنا قبل أيام قليلة شهوداً على فيروس احتل حاملة طائرات بعد أن أوقع في حباله عدداً غفيراً من بحارتها ومن ضباط وجنود البحرية الأمريكية. كانت فرصة نادرة لنشهد حالة فزع رهيب في صفوف قيادات الدولة الأعظم. تابعناهم يحاولون التعتيم على ما دار من جدل مبرر حول قيمة هذه القطعة الحربية من القوة الجبارة وتكلفة تشغيلها في مواجهة فيروس يكاد لا يرى. للحق أعترف بأن الرئيس ترامب، وهو الرئيس الذي أخطأ تقريباً في كل قرار اتخذه في الشهور الأخيرة، لم يخطئ حين وصف نفسه بأنه رئيس دولة عظمى في حالة حرب تشبُهاً برؤساء عظام في التاريخ الأمريكي مثل روزفلت وودرو ولسون.
***
في الوقت نفسه، ما زلنا في حال انبهار لما حققه هذا الفيروس من انتصار ساحق على دولة كانت دائماً من النماذج البارزة على أهمية القوة الناعمة في حسابات توازنات القوة في العلاقات الدولية. رأينا الصدام على أشده في ميلانو وغيرها من مدن البيدمونت في شمال إيطاليا. لن نجافي الحق والعدل إن كنا حكمنا للفيروس بالنصر في معركته ضد أحد أهم قلاع الفن في تاريخ البشرية. هناك حاصرَ البشر وأفرغ المدن من أصواتهم المزعجة وزحمتهم الخانقة. كانت فرصة نادرة تمتعت فيها التماثيل والمباني العريقة بأجواء حضارة أصيلة وغناء الناس لأنفسهم في بيوتهم.
كنا قبل أيام قليلة شهوداً على فيروس احتل حاملة طائرات بعد أن أوقع في حباله عدداً غفيراً من بحارتها ومن ضباط وجنود البحرية الأمريكية. كانت فرصة نادرة لنشهد حالة فزع رهيب في صفوف قيادات الدولة الأعظم
في ظني أن السؤال يبقى أيضاً مشروعاً ما بقيت دول وقامت علاقات بينها أو نشبت صراعات. ألم يكن أبناء جيلي شهوداً على سقوط ألمانيا للمرة الثانية في أقل من ربع قرن وسقوط النمسا وبلاد التشيك بدون قتال قبل نشوب الحرب العالمية الثانية؟ كانوا أيضاً شهوداً وربما ضحايا أو ثمرات سقوط الإمبراطوريتين العثمانية والسوفييتية. ألم تسقط امبراطورية المغول في الهند على أيدي حفنة من موظفين وضباط مرتزقة في شركة الهند الشرقية في عام 1858 بعد عمر ناهز الثلاثمائة عام، وسقطت امبراطورية الصين على أيدي حفنة مغامرين من تجار الشاي والأفيون الإنجليز ليلتقطها الزعيم “صن يات صين” قبل أن تنفرط اقطاعيات – حرب متحاربة.
***
سقطت دول غير قليلة. سقطت دولة الأندلس وممالك أخرى في أوروبا. سقطت امبراطورية مالي في إفريقيا وأكثر من امبراطورية للهنود الحمر في الأميركيتين. سقطت أكثرها نتيجة تخريب داخلي أو إهمال أو فساد أو فقدان العصبية وكلها اعتبرها قبل مئات السنين ابن خلدون شروطا لسقوط الدول. قضيت ساعات عديدة خلال الشهور القليلة الماضية، وساعات أخرى قضاها زملاء ومراقبون من مختلف الجنسيات والأعراق، قضيناها نراقب ما يغرد به رئيس أمريكا أو يصرح وما أصدره من قرارات وأقره من سياسات وخطط. خرجنا من هذه الرحلة واثقين من أنه ما من رئيس عاقل ومحب لبلده يفعل بها ما فعله السيد ترامب بأمريكا. أكتب هذه السطور وأمامي على شاشة أخرى جداول بأرقام الحال المتدهورة للولايات المتحدة الأمريكية. تحتار وأنت تقارن. قوائم بأرقام تعلن تدهور أغنى اقتصاد بالعالم وقوائم بأعداد المصابين بالفيروس وقتلاه، وتسأل لماذا تكون الدولة الأغنى والأكثر تقدماً وتحضراً ونصيباً في الثروة العالمية هي الدولة التي تجاوز عدد موتاها على يد الفيروس الملعون ثلث موتاه في العالم بأسره بينما لا تزيد نسبة سكانها إلى مجمل سكان الكوكب عن 5%.
***
هذه علامات قليلة من علامات كثيرة تثير جميعها وبإلحاح الرغبة في الحديث عن مستقبل دولة عظمى واحتمالات سقوطها. يبقى أيضا مثاراً السؤال التالي، لو كانت العلامات بالفعل جادة وخطيرة وليست مجرد فصل في سردية افتراضية فما العمل؟