اللبناني كالأم الثكلى يعاني صدمة الفقدان. يبحث عن ذاته بين الركام. هو الذكي والطليعي بين اقرانه. المميز بهندامه في محيطه. الديناميكي المثقف المتعدد اللغات. يتدرج حيثما حل في شتى أنحاء العالم برتب ورواتب عالية. يتباهى بحذاقته. صورة “الحربوق” والمثال والقدوة هذه كلها تتهاوى أمام ما آل اليه الوطن من انهيارات تحمل الينا صوراً لم نشهدها حتى في عز الأزمات التي واجهناها من قبل.
المشاهد المصورة لمواطنين يقتاتون من حاويات النفايات، والتي على فظاعتها، باتت مشهدا يوميا، هي ليست مشاهد عابرة. في إحداها تقف سيدة حامل لم يظهر من جسدها النحيل سوى بطنها المتكور كأنها تقف على عكازين فقط لتقي بالفضلات جنينها من إحتمال سقوط مبكر. ينحني الزوج على حاوية النفايات يبحث ويعود اليها حاملاً بعض الفتات. يلقمها لقمة وترفض اخرى ربما لم تساعدها الرائحة على التهامها برغم الجوع الذي قادهما الى تلك الوليمة عند حافة حاوية النفايات في أحد شوارع بيروت “أم الدنيا”!.
لمراحل السقوط مشهديتها، وبالتأكيد هذا واحد منها. استعيدُ أيضاً مشهدية اخرى كانت علامة فارقة في تحول البحبوحة التي اتسمت بها مسيرة اعادة الإعمار والبناء في زمن حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كنا نتابع كصحافيين وصحافيات إحدى جلسات الحكومة في القصر الجمهوري وقد طُرح خلالها نقاشُ حول فرض ضريبة القيمة المضافة (TVA) وهي تعبير لم يعتده اللبنانيون آنذاك وحصلت بلبلة اضطرت الحكومة للتراجع عنها والإكتفاء بفرض ضريبة على الكماليات، وبينها لائحة تشمل العطورات والمشروبات الروحية والتبغ والتنباك وبعض المأكولات (نموذج الكافيار) التي تصنف في خانة الكماليات ومظهراً من مظاهر الرفاهية. خرج الرئيس رفيق الحريري من الجلسة، وتولى هو شخصياً تلاوة المقررات الرسمية، وكان كعادته يترك للصحافيين حق التعبير عن ارائهم ويصغي اليهم ثم يجيب، فبادرته بسؤال عن المقاييس التي اعتُمدت في لائحة الكماليات، وقلت له ان العطور و”الكريمات” (المساحيق التجميلية) ليست رفاهية بالنسبة لنا بل هي جزء من شخصيتنا وتميزنا، فأورد شرحاً بإسهاب لإظهار تعاطفه مع الطبقات الفقيرة، وقال “انا كنت مدرساً في مدينة صيدا، وكنت عندما يفسد كعب حذائي أُركّب له نصف نعل لعجزي عن شراء حذاء جديد، ودعا اللبنانيين للتأقلم وفق مواردهم وليس وفق احتياجاتهم، قائلا انا قبل سفري الى السعودية كنت واحدا من الطبقات المحتاجة واعلم ان قراراتنا ليست شعبوية، لكن لا خيار لنا وسنمضي بها”.
كنا على الهواء مباشرة، وصدرت الصحف في اليوم التالي مركزة على عبارة “النصف نعل” لتوصيف الاجراءات الحكومية التقشفية… وهكذا كان بأن دفع الفقير الضريبة مرة تلو الأخرى وتهرب الغني من ضرائبه وتوالت الحكومات ولم تتبدل السياسات بل بقيت القرارات غير الشعبية سيدة الساحة الى ان كاد بعض الفقراء يفقدون امكانية حتى رقع الحذاء بنصف نعل او امكانية ارسال اولادهم الى المدارس لا بل توفير الحليب وأبسط المأكولات لهم، فماذا قدّم الاغنياء في مسيرة الشوك هذه؟
المَثَل والمثال الى ادراج النسيان. صرنا مجداً بائداً. شعب كان مزهوا بذاته جعلته لوائح الفساد والفاسدين في صدارة الصفوف الدولية. “النموذج” بات في مهب الجوع والعوز والفقر المدقع إلا لقلة قليلة تتصدر لوائح اغنى اغنياء العالم ولم تلتفت الى تصدع الأرض التي تقف عليها. ولعل احياء المدن في العاصمة او في المدن الكبرى ولا سيما طرابلس تشكل نموذجاً صارخاً لهذا التصدع الإجتماعي وهذه المفارقة البائسة لمجتمع لا طبقة وسطى فيه، بوصفها زنار حمايته.
هل نستغرب لماذا يطرق الفقراء ابواب الاغنياء؟ هل تبقى لهم إلا حناجرهم التي بُحت من الصراخ؟ هل يخترق الصدى الابواب الموصدة؟ هل نشهد فصولاً من العنف تنسينا صورة المرأة الحامل وزوجها وغيرهما الكثير من الجياع؟