كما اصبح معلوماً، ستنعكس تدابير الإغلاق خلال فترة الحجر على الاقتصاد العالمي والتي ستكون تداعياتها ونتائجها غير مسبوقة، لا سيّما بعدما تعطلّت حركة نقل السلع والأشخاص، وضُرِبت قطاعات عديدة من ضمنها النقل والخدمات والتجارة، والسياحة وغيرها. كما ألحق هذا الوباء، او بالأحرى طريقة مقاربته ومحاربته، أضرارًا جسيمة بنظم التعاون الدولي والاقليمي، مما يستوجب إعادة النظر في سبب وجودها وطريقة عملها. وتبرز هذه التأثيرات في بيئة خصبة غير مشجعة للتعاون الدولي توسعت في السنوات الأخيرة مع تنامي الشعور القومي في كثير من البلدان، شمالاً وجنوباً. فأتت أزمة كوفيد-١٩ لتكشف أن باستطاعة الشعور القومي الضيق، والذي حسبناه هامشيًا، أن يكسر تحالفات استمرّت لعقود من الزمن مبنية على القيم والمصالح المشتركة. وهو ما يطرح سؤالًا عمّا إذا كان العالم سيستمرّ في دعم هذا المسار المتصاعد بعد كوفيد-١٩، أو ستميل الدفّة نحو النهج التعاوني المتعدد الاطراف، بدءًا بصحّة عالمية أفضل.
تبدو الحاجة ملحة إلى مقاربة ثلاث حقائق أساسية لبناء نظم مشيدة على القيم المشتركة ما بعد أزمة كوفيد-١٩، تكون قادرة على التعامل مع الأزمات العالمية المقبلة، بالإضافة إلى الأزمات المستمرّة منذ عقود. لا شكّ أن بعض الأكاديميين الآخرين سيبحثون خلال مناقشة هذه القضية في مجالات عديدة بما في ذلك التجارة العالمية وموقع الدولة الوطنية، لكن في هذا المقال سنركّز على ثلاثة مجالات تتعلّق بالصحّة العالمية وتداخلها مع السياسات العامة.
“يُعدُّ الوباء والنتائج الناجمة عنه بمثابة تنبيهاً لفشل السياسات الماضية، ودعوة صريحة للتخلّص من “باراديم” يفتي بخصخصة أنظمة الرعاية الصحّية باعتبارها الحلّ الوحيد للقطاع الصحي”
أوّلًا، هناك حاجة للتخلّص من العقيدة المُتبعة منذ عقود، والتي تجادل ان مواجهة الأزمات والمشاكل العالمية تكون من خلال الاستجابات المحلّية. فقد شكّل هذا النهج قاعدة ترسّخت منذ سنوات، بدءًا من طرق استجابة المجتمع الدولي لأزمات اللاجئين ولا سيّما أزمة اللجوء السوري، أو من خلال المناورات التي شهدناها في طرق مكافحة التغيّر المناخي خلال اتفاقية باريس في العام ٢٠١٦ وبعدها. وهذا ما نراه في طرق مكافحة وباء كوفيد-١٩ فهي “ويستفالية” بامتياز، وكأنها عودة قوية للدولة الوطنية عبر بوابة مكافحة الوباء فتقفل الحدود ويتوقف إلى حدّ بعيد التعاون الاقليمي والدولي. يُفهم أن تقود الدول جهودًا للتخفيف من حدّة الوباء وإبطاء انتشاره، إلّا أن محاربته الشاملة لا يمكن أن تحدث سوى على المستوى العالمي ومن خلال تعاون مُتعدّد الأطراف وبروحية العمل المشترك.
ثانيًا، أطلقت جائحة كوفيد-١٩ صافرة إنذار لتنبيهنا إلى الحاجة لإعادة الاستثمار في الأساسيات، والتي يُعدّ الكثير منها بسيطًا او من البديهيات، مثل وظائف الصحّة العامّة وقضايا المراقبة والمتابعة الصحّية الشفّافة. لقد شهد العقد الماضي إفراطًا في التركيز على التكنولوجيا باعتبارها المُنقذ والعلاج لكلّ عِللنا، لكن ذلك لم يكن كافيًا او وافياً، على الرغم من التأثير الإيجابي والمناسب للتقدّم التكنولوجي الطّبي على العديد من شرائح السكّان. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الفعالية نسبة إلى الكلفة على الصعيد العالمي، فقد أثبت لنا كوفيد-١٩ أن الاستثمار في الأساسيات، أوّلًا، هو أكثر منطقية وكفاءة. وهذا ما يستدعي العودة إلى أساسيات الصحّة العامّة والتعاون لتوفيرها للسكّان والمجتمعات كافة.
ثالثًا، يُعدُّ الوباء والنتائج الناجمة عنه، بمثابة تنبيه لفشل السياسات الماضية، ودعوة صريحة للتخلّص من “باراديم” يفتي بخصخصة أنظمة الرعاية الصحّية باعتبارها الحلّ الوحيد للقطاع الصحي، وبالتالي الحاجة الى تغيير وتثبيت نظرة صناع القرار إلى ان الصحّة هي جزءًا من الصالح العامّ والتي يفترض بالدولة وقطاعها العام تولّيها وإدارتها والاشراف عليها، سواء على الصعيد الوطني أو المناطقي أو المحلّي. في الواقع، أثبتت جائحة كوفيد-١٩ مدى أهمّية مقاربة “الصحّة للجميع”. وهذا ما اثبتته تجربة سكّان البلاد التي ضربتها كوفيد-١٩، فقد توقّعوا من الدولة الاعتناء بهم بدءًا من إجراء الفحوص وتأمين أماكن للحجر وتوفير الرعاية الصحّية، فضلًا عن إعادة المسافرين إلى بلادهم. وهذا الشعور المتنامي حول دور الدولة لاحظناه في معظم البلدان ومن ضمنها تلك التي عادة ما تحتفي بنأي الدولة وقطاعاتها عن التدخل في جوانب حياة السكان. في الواقع، سيغيّر كوفيد-١٩ النظرة الجماعية إلى دور الدولة ومسؤوليتها، ونأمل أن ينتج عن هذا التقدّم عمل لتعزيز القطاع العام وجعله أكثر كفاءة وفعالية، وإعطاء الأولوية للعلم والأدلّة على حساب المكاسب السياسية قصيرة المدى وتلك المهتمة بالتفوق العالمي غير المُجدي كما رأينا في هذه الأزمة.
أزمة كوفيد-١٩ ليست الأزمة العالمية الأولى التي شهدتها البشرية، ولن تكون الأخيرة. لكن المسألة الاساسية في الوقت الراهن تكمن بضرورة التعلّم من هذا الوباء والنهوض بمجتمعاتنا لتصبح أقوى وأكثر عدالة وتعاوناً، وهو أمر لم يمنحه العالم أولوية في الأعوام الماضية، وربّما تكون هذه دعوة للاستيقاظ والخروج من كبوتنا.
(*) مقالة مشتركة بين معهد عصام فارس ومعهد الصحة العالمية في الجامعة الأميركية في بيروت، ينشرها موقع 180 بالتزامن