منذ بداية الحرب في سوريا قبل نحو عشرة أعوام، شكلت المنطقة الجنوبية من سوريا حالة خاصة، ففي وقت اعتبرت فيه هذه المنطقة “شرارة بداية الأحداث”، ساهم الموقع الجغرافي لها في خلق مشهد معقد، حيث تتصل هذه المنطقة بالأردن، إضافة إلى كونها محاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي حولها إلى “ساحة” للمعارك السياسية، ونقطة ارتكاز لمشاريع عديدة أبرزها مشروع “غرفة الموك” الأميركية التي كانت تدير العمليات العسكرية للفصائل المسلحة انطلاقاً من الأردن.
بعد التدخل الروسي، في خريف العام 2015، بطلب حكومي سوري في الحرب السورية، أعادت موسكو ترتيب أوراق الحرب، عن طريق عمليات فرز وتقسيم للملفات وفق تبعيتها للدول التي تدخلت في الحرب، الأمر الذي أفضى بمجمله إلى تحقيق قفزات سياسية هامة، ساهمت في إنهاء “غرفة الموك”، وتمهيد الأرض لإنهاء العمليات القتالية في خاصرة سوريا الجنوبية القريبة من العاصمة، عن طريق فرض توقيع مصالحات مع الحكومة السورية بعد قطع خطوط الإمداد والدعم للجماعات المسلحة.
المصالحات التي تم توقيعها في شهر حزيران/يونيو من العام 2018 كانت متنوعة ووفق قنوات عديدة، حيث جرى توقيع الاتفاقيات مع كل مجموعة مسلحة أو بضعة مجموعات مسلحة على حدة، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تشتيت الجماعات وقياداتها، ومهد الأرض لاستعادة شريط الحدود السورية – الأردنية من قبل الحكومة، إضافة إلى توفير ملاذات آمنة لمن يود الخروج إلى الشمال السوري، أو حتى من يود البقاء في منطقته من تلك الجماعات، والسماح أيضاً للجماعات المسلحة بالحفاظ على أسلحة خفيفة ومتوسطة وتسليم الأسلحة الثقيلة، إضافة إلى تقديم تعهدات بعدم ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية ضمن مدة محددة ( ستة أشهر في البداية تم تمديدها في ما بعد).
هدوء لا استقرار
بالرغم من أن هذه المصالحات (وبعضها تم سلقه لأسباب ومعطيات سياسية وإعلامية)، قد أوقفت النزيف العسكري المستمر في الجنوب السوري ووفرت الوقت والجهود لملفات أخرى أبرزها المنطقة الشمالية، إلا أنها تسببت أيضاً بخلق بيئة غير مستقرة، وغير مضبوطة أمنياً، خصوصاً أن قسماً من الجماعات المسلحة التي فضلت البقاء في قراها ومناطقها في درعا مرتبطة بمجموعات أخرى موجودة في الشمال السوري، وهو ما رفع من حدة القلق بشكل متزايد في ظل الأزمات المتلاحقة التي تشهدها المناطق الشمالية من سوريا.
وفي وقت تربط فيه مصادر مطلعة في الجنوب السوري بين التحركات المسلحة التي تنفذها بعض الجماعات والمصالح والأهداف السياسية للمعارضة، ترى المصادر ذاتها أن الانتشار غير المضبوط للسلاح بدأت تظهر آثاره الخطيرة على المجتمع بشكل عام، سواء في الهجمات المسلحة التي تتعرض لها المواقع الحكومية، أو في عمليات الاغتيال المستمرة التي تشهدها المنطقة الجنوبية بشكل عام ومناطق في درعا بشكل خاص.
إضافة إلى ذلك، مثل قرب هذه “الخاصرة الهشة” من العاصمة السورية نقطة ارتكاز لخروقات أمنية متتالية، آخرها سلسلة التفجيرات التي شهدتها دمشق في مطلع العام الحالي، وقد بينت التحقيقات أن هذه العمليات تدار من منطقة كناكر في ريف دمشق، وفق اعترافات أفراد الخلية التي نفذت التفجيرات والتي عرضها التلفزيون السوري، الأمر الذي ينذر بخروقات أمنية لاحقة قد تأتي من الجنوب في ظل حالة عدم الاستقرار التي يشهدها.
مثّل قرب هذه “الخاصرة الهشة” من العاصمة السورية نقطة ارتكاز لخروقات أمنية متتالية وآخرها سلسلة التفجيرات التي شهدتها دمشق في مطلع العام الحالي
مقابل ذلك، يبدو أن الحكومة السورية، ومعها روسيا، تعملان على محاولة “حلحلة” هذا الملف بشكل متتابع وفق التطورات الجارية، بمعنى أن عمليات التدخل العسكرية تأتي كحل أخير لمعالجة الخروقات في حال فشلت الحلول الأمنية والسياسية، وبشكل موضعي يعالج كل منطقة بشكل منفصل عن محيطها، كما جرى في منطقة الصنمين قبل نحو شهرين، التي شهدت عملية أمنية وعسكرية سريعة أفضت إلى التوصل إلى اتفاقية جديدة قضت بإخراج مجموعة مسلحة إلى الشمال السوري.
عملية جديدة
التطور الجديد الذي شهدته بلدة المزيريب المحاذية لطفس عقب اغتيال تسعة من عناصر الشرطة، تبعته محاولات وساطة روسية، حيث تم عقد سلسلة اجتماعات لحل الأزمة عن طريق تسليم الأشخاص الذين شنوا هذا الهجوم ضمن مهلة محددة.
في غضون ذلك، أرسل الجيش السوري تعزيزات عسكرية (الفرقة الرابعة) إلى محيط هذه المنطقة، الأمر الذي ينذر بشن حملة عسكرية على بعض المواقع، في وقت توقعت مصادر معارضة أن تكون الحملة المرتقبة واسعة النطاق هذه المرة، بحيث تشمل مناطق عدة، وهو ما يشي به حجم التعزيزات العسكرية التي وصلت إلى المحافظة.
ولم ينف مصدر سوري مطلع احتمال البدء بعملية عسكرية، إلا أنه أشار، في الوقت ذاته، إلى تغيرات “كبيرة” تشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة، حيث كانت ردود الأفعال على الهجوم الذي طال المخفر غاضبة ومستنكرة، الأمر الذي قد يوفر جهداً كبيراً ويساهم في إعادة ضبط المشهد الأمني بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة.
ويعتبر المصدر أن هذه الأزمات المتلاحقة التي تشهدها المنطقة الجنوبية “منطقية ومتوقعة” نظراً لسنوات الحرب التي سبقت توقيع اتفاقيات المصالحة، وبالنظر إلى طبيعة هذه الاتفاقيات، موضحاً أن ما يجري قد يمثّل خطوة في طريق إعادة “تمتين الجنوب” بشكل متلاحق، وبسط السيطرة الحكومية عليه، وإنهاء حالات الفلتان الأمني، خصوصاً أن قسماً كبيراً من الفصائل المسلحة في تلك المناطق انضوت بشكل متتابع في التشكيلات العسكرية التابعة للجيش السوري، وأن الجهود السياسية المتلاحقة التي تبذلها موسكو قطعت عن فصائل الجنوب خطوط الإمداد والدعم.
يبقى السؤال: هل ستقتصر العملية العسكرية الوشيكة في الجنوب على الجيش السوري أم سيشارك فيها بعض الحلفاء؟