سوريا وتركيا.. العلاج بالماضي!

بدت تركيا - من منظور شريحة من السوريين - العدو الأكثر خطراً وجذرية من أي عدو آخر، وربما تقدمت في ذلك على إسرائيل. وهذا ناتج عن حجم التدخل التركي في سوريا، وكون تركيا عامل تفجير للأزمة/الحرب، بل وأحد عوامل استمرارها، وتحتل بصورة مباشرة أو عبر وكلائها أجزاء من سوريا تعادل مساحة لبنان تقريباً.

وليس من السهل تصور كيف يُمكن حلحلة وزحزحة وتفكيك كل تلك الطبقات من العداء والدماء والتدمير، ورعاية “كيانات جهادية” في بعض مناطق سوريا، والاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية، بما في ذلك مناطق “الإدارة الذاتية” التي أقامها حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي السوري) – من جانب واحد وبدعم أمريكي – في شمال شرق سوريا ومناطق خط الفرات.

بالمقابل، ثمة وجه آخر للموقف، تشي به لقاءات ومداولات أمنية واستخباراتية منذ سنوات، ولقاءات على مستوى وزراء الدفاع والخارجية، والكثير من التراسل العلني وغير العلني من أجل التقارب بين البلدين، بدفع مباشر من روسيا وإيران وأطراف أخرى. والملاحظ أن الرغبة في التقارب تتطلب المزيد من الإصرار والهمة والاندفاع، وحتى الضغوط المباشرة وغير المباشرة للوسطاء، وبالطبع المزيد من التهيئة على المستويات النفسية والسياسية والأمنية والعسكرية، والأهم تهيئة الأمور على أرض الواقع.

والواقع أن ما يُمثل “نقطة استعادة”، من منظور كثيرين، أي “بروتوكول أضنة” (1998)، كان هو نفسه نتيجة “لحظة اختلال” في موازين القوى بين الطرفين. لم تكن دمشق مرتاحة للموضوع، لكأنّها وَقَّعَت النص في ظل إكراهات ثقيلة ومعقدة، لكنها التزمت به في نهاية المطاف. وقد تكون ذهبت بعيداً في التقارب مع أنقرة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وإعلامياً إلخ..

مع ذلك، يصح القول إن “الذاكرة” و”التاريخ”، لا يسعفان السوريين في إيجاد “نقاط ارتكاز” إيجابية بقدر يمكن التعويل عليه في “إعادة هندسة” الموقف بين البلدين. إذ أن أنقرة نسفت في الواقع “بروتوكول أضنة” وكل الاتفاقات الاستراتيجية مع دمشق، وذلك منذ اللحظات الأولى لحدث 2011 في سوريا، وربما قبل ذلك. كما نسفت العلاقات بين البلدين، بقدر كبير من التعجل والاندفاع والعداء والوحشية!

يُمكن الحديث عن سياسات أثقلت “الجوانب الإيجابية”، ولنفترض أن “بروتوكول أضنة” واحداً من الإيجابيات، وجعلت من الصعب التفكير فيها بمعزل عما بعدها. ثمة ستار أو جدار، بل سُتر وجدران، وطبقات من المواقف والتطورات، تجعل “الحدث الأصلي” أو “المراد التفكير فيه”، بعيداً ومنفصلاً، ومنسوخاً، بالمعنى الفقهي والواقعي، وربما غير قابل للإستعادة أو من الصعب استعادته بالشكل الصحيح.

لا شك أن أموراً كثيرة حدثت.. ووصل الحدث السوري إلى انسداد وليس إلى استقرار. وهذا يُعزّز مدارك ومصادر تهديد “غير اعتيادية” من منظور أنقرة ودمشق:

(1) من منظور أنقرة، لجهة “الكيانية الكردية” في منطقة الجزيرة وشرق الفرات، فضلاً عن التوترات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية داخل تركيا.

(2) ومثل ذلك، من منظور دمشق، إنما لجهة الاحتلال التركي لأجزاء من البلاد، و”الكيانية الجهادية” في إدلب وريف حلب، المدعومة من قبل تركيا. والوجود الأمريكي الراعي لـ”الإدارة الذاتية”، التي تعدها دمشق (وأنقرة) ذات نزوع كياني (دولتي) وانفصالي في منطقة الجزيرة وخط الفرات، فضلاً عن الحاجة لكسر الجمود وفك الحصار الاقتصادي الأمريكي أو تخفيفه إلخ..

وجدت دمشق أن فكرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أطلقها في كانون الثاني/يناير 2019) للعودة إلى “بروتوكول أضنة”، ولاحقاً تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (تصريحات، 25 أيلول/سبتمبر 2023)، فرصة لتغيير النمط بين البلدين. ولكن الفجوة كانت ما تزال واسعة، والتوقعات منخفضة إلى حد كبير. ولو أن دمشق تلقت المبادرة الروسية بشيء من القلق والتوجس، ولا يُغيّر من ذلك البيانات أو التصريحات السورية المرحبة بها.

لا تعني العودة إلى “بروتوكول أضنة”، من منظور دمشق، وبالطبع موسكو وطهران، العودة إليه هو بالذات، بقدر ما تعني التحرك في خط المعنى والتوجه الذي أنتجه، أي خط التفاهم والتوافق على أن يقرأ كل طرف أولويات الطرف الآخر وهواجسه الأمنية والاستراتيجية، ولا يكون مدخلاً لها أو جزءاً منها. وأن تقوم العلاقات بين البلدين على أساس حسن الجوار

أبدى الرئيس بشار الأسد انفتاحاً حذراً على مبادرات التقارب مع تركيا، والتي “لم تُحقّق أي نتيجة تذكر على أرض الواقع”، على الرغم من جدية الشركاء والوسطاء، وأن “استعادة العلاقات الطبيعية كنتيجة للانسحاب والقضاء على الإرهاب هي مصلحة مشتركة.. لكن لا يمكن الحصول على نتيجة دون التعامل مع السبب”. (كلمة الرئيس بشار الأسد، مجلس الشعب، 25 آب/أغسطس 2024). الأمر الذي يحيل إلى صعوبة تحقيق تقدم كبير في الموقف بين سوريا وتركيا. ولو أن الأسد أحال في موقف سابق إلى الحاجة لـ”أطر مرجعية” و”قواعد” و”متطلبات” وليس شروطاً. (تصريحات، 15 تموز/يوليو 2024).

تحدثت دمشق بلسان وزير الخارجية الروسي، عندما قال إن الحكومة السورية “تعتقد أن الاستمرار في عملية التطبيع تتطلب تحديد إجراءات انسحاب القوات التركية من سوريا”. ويضيف لافروف: “أما الأتراك فهم مستعدون لذلك، ولكن لم يتم الاتفاق على معايير محددة حتى الآن”. (تصريحات، 1 أيلول/سبتمبر 2024).

إقرأ على موقع 180  زلزال سوريا لا يُداوى بـ"النِفاق".. الأمريكي!

ويذهب لافروف للتعبير عن “تفهم” روسي ضمني بالحاجة لوجود قوات تركية على الأراضي السورية، إنما بموافقة دمشق. هذا “التفهم” يصدر عن وعي بإكراهات الموقف وصعوبة تنفيذ انسحاب عسكري تركي في وقت سريع أو قريب.

لا تُوافق دمشق على هذا التقدير الروسي. وتحدثت وزارة الخارجية السورية (بيان، 5 شباط/فبراير 2020)، استهجنت فيه “إصرار رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان على الاستمرار بالكذب والتضليل إزاء سلوكياته في سوريا وبخاصة ادعاءه فيما يتعلق بدخول قواته إلى شمال حلب بموجب اتفاق أضنة لمكافحة الإرهاب”.

وأما إعادة التأكيد على الموضوع من قبل موسكو اليوم (آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2024)، فتحدث في لحظة مختلفة، لعلها أقرب من أي وقت مضى، لكنها ما تزال بعيدة. ولو أن ضغوط روسيا وإيران على سوريا وتركيا، وضغوط التطورات والإكراهات الإقليمية والداخلية وغيرها، تدفع لـ”تضييق الفجوة” و”تقريب وجهات النظر”. ويبدو أن الحديث عن استدعاء “بروتوكول أضنة”، هو في جانب مهم منه، تعبير عن أمور حدثت بالفعل. وثمة تقديرات بأن الموضوع تحت النظر والمداولة منذ عدة سنوات.

إن المهم في الفكرة الروسية – من منظور دمشق – أنها تعود إلى “لحظة توافق” مهمة بين البلدين. وترى دمشق في المبادرة الروسية، مناسبة لـ”إعادة التفكير” في الموقف بينها وبين أنقرة. وهنا يُمثل “بروتوكول أضنة” وأي صيغ معدلة منه، جانباً من الموضوع. والمهم بالنسبة لدمشق أيضاً هو العودة إلى أوليات وأسس العلاقات بين بلدين جارين. وإخراج البروتوكول من كونه “عنوان” و”ذريعة” للتدخل، تستخدمه أنقرة عند الحاجة، إلى كونه جزءاً من “إطار مرجعي” – بتعبير الرئيس بشار الأسد – يتضمن التزامات متبادلة، وبالتالي تفسير وتأويل أي أطر ومرجعيات ونصوص وبروتوكولات إلخ.. يجب أن يكون ثنائياً وتوافقياً وليس من طرف واحد. وبالطبع فإن الرئيس الأسد لم يحل إلى البروتوكول بالذات، وإنما إلى ضرورة وجود “إطار مرجعي”، كما سبقت الإشارة.

وهكذا، لا تعني العودة إلى “بروتوكول أضنة”، من منظور دمشق، وبالطبع موسكو وطهران، العودة إليه هو بالذات، بقدر ما تعني التحرك في خط المعنى والتوجه الذي أنتجه، أي خط التفاهم والتوافق على أن يقرأ كل طرف أولويات الطرف الآخر وهواجسه الأمنية والاستراتيجية، ولا يكون مدخلاً لها أو جزءاً منها. وأن تقوم العلاقات بين البلدين على أساس حسن الجوار، وتوسيع خيارات التعاون المباشر وحتى التعاون متعدد الأطراف.

قد لا يكون “العلاج بالماضي” أنسب الطرق لتجاوز الاختناقات الراهنة في الموقف بين دمشق وأنقرة، لكنه الطريق الأقرب والأكثر إمكاناً، من منظور مختلف الأطراف، وخصوصاً قوى الدفع للتقارب: روسيا وإيران. وهذه أمور يوضحها ما بعدها.

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الدبلوماسية الاقتصادية نموذجاً.. للحرب الناعمة!