للنائب أن يحاسب وزيراً أو مديراً عاماً لا أن يتحول مخبراً

إن منح السلطة التشريعية سلطة رقابية على الإدارة العامة، كان مبرره بالنسبة لمنظري النظام السياسي الحديث، أن القضاء لا يمكنه منفرداً مواجهة  السلطة التنفيذية، بما تملكه من امتيازات وصلاحيات، ولو كان بإمكان القضاء منفرداً القيام بهذه المهمة لانتفت الحاجة إلى الرقابة البرلمانية بل وأيضاً المحاكمة السياسية التي يجسدها في لبنان المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

أياً كان القضاء وعديده واستقلاليته وشجاعته ومكانته المجتمعية لا يستطيع أن يتصدى منفرداً للفساد أو أن يقف في مواجهة مع مافيات تملك من القوة والمال والسطوة، واستطاعت أحياناً تمرير تشريعات وأنظمة تشرّعن أعمالها وتحميها من المساءلة القضائية. لذا، كانت المواجهة الفاعلة تستوجب تعاون وتماسك كافة السلطات الفاعلة لكي تأتي المواجهة بمفاعيلها المطلوبة.

من هذا المنطق يكون مستغرباً، تخلي نائب عن واجبه الرقابي، وتحوّله إلى مراقب ينتقد في الاعلام، مع تحفظنا على النقد المباشر، كون النظام الداخلي لمجلس النواب وضع نظاماً داخلياً ينظم العلاقة الرسمية بين النائب والوزير، وهي علاقة تمر عبر رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة، بحيث لا يكون الوزير ملزماً بالإجابة على تصريحٍ إعلامي وجهه نائب ما لم تتبع الأصول في توجيهه سواء بصيغة سؤال أم استجواب أم مساءلة.

ويزداد الأمر خطورة عندما يتحوّل النائب إلى مخبر يكتفي بالتقدّم بإخبار ضد وزير أو إدارة عامة أمام النيابة العامة التمييزية أو المالية. وهذا الأمر ليس وظيفته، وهو لم ينتخب لكي يخبر القضاء عن مخالفات، لأنه يمكن لأي مواطنٍ أن يقوم بهذه المهمة من دون أن يحمل لقب نائب. وكنا نأمل أن تعمد النيابات العامة إلى ردّ هذه الإخبارات لورودها من جهة تملك وسائل مختلفة لملاحقة وقمع أي فساد أو خلل في عمل الإدارات العامة، وهي بذلك تدفع النائب إلى العمل الفعلي لا الاستعراضي، متماشية بذلك مع موقفٍ حازمٍ لمجلس شورى الدولة عندما ردّ المراجعة المقدمة من رئيس كتلة نيابية لإبطال قرار مجلس الوزراء الرامي إلى الطلب الى وزارة الثقافة ـ المديرية العامة للاثار، الاشراف على عملية طمر الاثار في المواقع المنوي اعادة البناء فيها في مخيم نهر البارد، حيث قضى مجلس الشورى بأن:”النظام الديمقراطي البرلماني في لبنان المبني على مسؤولية السلطة الاجرائية امام السلطة التشريعية، قد اوجد وحدد الطرق القانونية العائدة للنائب وللنواب من اجل صون مصالح الامة ومراقبة اعمال السلطة الاجرائية، أي مساءلة الوزراء افرادياً او الحكومة مجتمعة. ومن اهمها: السؤال او الاستجواب خلال الجلسات النيابية، طلب عدم الثقة او طرح الثقة، طلب التحقيق من قبل لجان نيابية، وأما مراجعة القضاء، فلا تدخل ضمن هذه الوسائل المكرسة دستوراً او قانوناً” (م.ش. قرار رقم 553/2009-2010 تاريــخ 8/6/2010 دولة الرئيس النائب العماد ميشال عون/ الدولة – مجلس الوزراء – رئاسة مجلس الوزراء – وزارة الثقافة- المديرية العامة للاثار).

بإمكان النائب التحرك ضمن المؤسسة التشريعية بحيث يملك حق المساءلة والاستجواب وطرح الثقة التي جعلتها المادة 37 من الدستور مطلقة:”حق طلب عدم الثقة مطلق لكل نائب في العقود العادية وفي العقود الاستثنائية”

وأكثر ما يثير الاستغراب أن الإخبار يوجه ضد وزير مع علم النائب بأن الوزير لا يخضع للمساءلة أمام القضاء العدلي (المادة 70 من الدستور)، أو يعلم بأن الموظف الملاحق قضائياً سوف تتوقف ملاحقته على إذن مسبق من الإدارة التي ينتمي إليها الموظف (المادة 61 من قانون الموظفين). وبكلا الحالتين، بإمكان النائب التحرك ضمن المؤسسة التشريعية بحيث يملك حق المساءلة والاستجواب وطرح الثقة التي جعلتها المادة 37 من الدستور مطلقة:”حق طلب عدم الثقة مطلق لكل نائب في العقود العادية وفي العقود الاستثنائية”. كما أن للنائب حق طلب تشكيل لجان تحقيق، وهذه اللجان تملك سلطة دعوة أي وزير أو موظف للمثول أمامها دون أن يملك المدعو أن يتمسك بحصانة أو بالحصول على إذن مسبق.

بل إن القانون رقم 11/72 تاريخ 25 ايلول/سبتمبر 1972 قد صدر ليمنح لجان التحقيق البرلمانية بعض سلطات قضاة التحقيق، حيث ورد في المادة الأولى من هذا القانون “أن  لجنة التحقيق النيابية المنتخبة، وفقاً لأحكام المادة 94 من النظام الداخلي لمجلس النواب تتمتع بصلاحيات قضاة التحقيق باستثناء إصدار مذكرات التوقيف والاستنابات القضائية وقرارات الظن أو الاتهام أو منع المحاكمة، وبحسب المادة 2 فإن كل من دعي للشهادة أمام اللجنة عليه الحضور وأداء الشهادة بعد حلف اليمين. وتطبق بحق الشهود النصوص القانونية لجهة التخلف عن الحضور أو تقديم العذر الكاذب أو شهادة الزور أو كتم المعلومات وغير ذلك من الأفعال التي تقع تحت طائلة قانون العقوبات”.

ومن نافل القول إن مجلس النواب هو من يفترض به أن يتهم الوزير ثمّ يشترك بمحاكمته (المادتان 70 و80 من الدستور) ولا يصحّ بعد النص الصريح التخلي عن المهمة ورمي الكرة في ملعب القضاء وهو غير مختص دستورياً لتولي هذه المهمة فيما خصّ الرؤساء والوزراء.

هذه هي باختصارٍ شديد خلاصة الوسائل الرقابية التي باستطاعة النواب اللجوء إليها عند اخلال الحكومة بواجباتها أو عند تقصيرها في المهام التي عليها تنفيذها، أو إذا ارتكبت إحدى الوزارات أو الإدارات أو المؤسسات العامة عملاً يخلَّ بالأمن الاجتماعي أو المالي أو الاقتصادي للدولة، واليوم في ظل الوباء وغلاء الأسعار والتلاعب بالعملة وتهريب الأموال، لا يحق للنائب أن يكتفي بالفرجة أو بتقديم إخبار رفع عتب، بل على النواب التحرك الجاد والفاعل لمساءلة وملاحقة وإلزام الحكومة بكف يد أي موظف يخل بواجباته ولا يحمي النقد ولا يلاحق المتلاعبين بالأسعار ولا يقمع من سطا على المال العام، وللنائب أن يطلب من الحكومة اتخاذ التدابير تحت طائلة حجب الثقة عنها أو عن الوزير الذي يمتنع عن تلبية المطالب النيابية ويقصّر بواجباته.

إقرأ على موقع 180  العنصريّة عورة قبيحة في تاريخنا.. وحاضرنا!

هذه هي واجبات النائب، والدور الرقابي الذي يملكه لم يمنحه إياه المشترع كوسيلة ترفٍ وتسلية، بل وُجدت هذه الوسائل، من أجل إعطاء الرقابة البرلمانية الفعالية الكاملة. وأن تكون الإدارة حذرة دائماً في نشاطها من سطوةِ نائبٍ يقف لها بالمرصاد. وإذا ما تخلى النائب عن ممارسة هذا الدور الرقابي، فإنه يكون قد أساء للشعب الذي منحه ثقته إئتمنه على مصيره.

(*) أستاذ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية

Print Friendly, PDF & Email
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  كوكايين مصارف لبنان.. والطوفان الآتي!