السياسة هنا هي أقرب إلى لعبة الميسر: “كأنما هي مسرحيَّة إغريقية تلفُّها خيوط العنكبوت، أو “العنتريَّات” كالتي تدور على البيادر في أزمنة الخلاف على الغلال المكدَّسة عليها بين شركاء لا شراكة بينهم”.. والتاريخ أيضاً هو تجسيد لمقولة واضحة المعالم: إنما اليوم هو نفسه الأمس بثوب زمني جديد..
يروي إيلي فرزلي في هذه الحلقة التاسعة الآتي:
“خدعنا إميل لحود، أوصلناه إلى الرئاسة، فخلا بنا من أول الطريق.
عارضنا تمديد ولاية الياس هراوي عام 1995 من أجل دعمه. أخفقنا، ولم نرتدّ. واصلنا دعمه، معلنين على الملأ “إن وصول قائد الجيش إلى الرئاسة الأولى يخدم المصلحة الوطنية العليا”.
كان غازي كنعان على اطِّلاع تام على عملنا المستميت لإيصال لحود إلى قصر بعبدا، وكان داعماً للحملة. في وقت مبكر، وتحديداً في شهر آب/أغسطس 1998. (…)
قبل أشهر من الاستحقاق الرئاسي، فاجأني غازي كنعان، في ساعة صفاء، وكان عائداً من دمشق، بأنه يجد أنني استنفدت دوري كنائب لرئيس المجلس النيابي، بعدما حمَّلته دوراً واهتماماً وحضوراً لم يكن قد أعطي لهذا المنصب من قبل، ولا بدَّ لي من خوض غمار تجربة مختلفة بدخول أول حكومة في العهد الجديد، وأوحى لي بحقيبة وزارة الخارجية والمغتربين، أو حتى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، لكن من دون حقيبة أخرى. استمعت ولم أعلِّق، تركني أعتقد بأن ما أوحى به هو رجع صدى لما تفكِّر به القيادة السورية!
في اليوم الأول من انتخاب إميل لحُّود، وكنا معاً في السيارة في طريقنا إلى “برِّ الياس”، ذكَّرته بما قاله لي وأوحاه، فلم يتنكَّر لما قال، إلاَّ أنه لم يبدِ أيَّ التزام، فأيقنت أن شيئاً تبدَّل وتغيَّر، وأن بذور الجفاء بيني وبينه قد وقعت في تربة ممهَّدة. لقد كنت أعرف أن مجرَّد سكوت غازي كنعان عما أطرحه في أيِّ أمر، يعني أنه يقف ضده!
لذلك لم أفاجأ عند تشكيل حكومة سليم الحص، في 4 كانون الأول/ديسمبر 1998، باستبعادي، إلاَّ أن المفاجأة هي أن يكون ميشال المر، الشخصية الأرثوذكسية البارزة في التركيبة الحكومية، وزيراً للداخلية والبلديات.
ما صدمني، وعدد من المتتبِّعين لمجريات الأمور، أن يكون المر بين أركان العهد الجديد، الذي عُلِّقت عليه آمال محو تجاوزات عهد هراوي. (…)
إسفين ولسان
قبل أن يعبر عهده عتبة الستة أشهر، توجَّهت إلى الرئيس إميل لحود بنداء دعوته فيه ليكون رأس البلاد كلها، وعلى مسافة واحدة من الموالاة والمعارضة. ووصفت حكومة سليم الحص، بأنها “حكومة لا لسان لها”. غداة اليوم التالي، 14 شباط/فبراير 1999، سارع رئيس الحكومة إلى الردِّ بأن “لسان الحكومة” هو بيانها الوزاري. اعترف الحص في ردِّه بأن حكومته غير قادرة على مواجهة المشكلات القائمة والتحديات الراهنة، لكنه وصف كلامي ضد الحكومة بأنه يتوخَّى “دق إسفين بينه وبين رئيس الجمهورية”.
وما كان من لحُّود إلاَّ أن سارع هو الآخر إلى الردِّ عليَّ، فأكَّد دعمه للحكومة ورئيسها. بعد ذلك التصريح الصادر عن قصر بعبدا، ما عدت ميَّزت بين لحُّود والحص. وجدتُ العهدَ وحكومَته الأولى يغرقان تحت سطوة الفريق الذي يحوط الجنرال رئيس الجمهورية.
لحود لحافظ الأسد: “القوات السورية موجودة في لبنان… لا بأس، لكن من دون غازي كنعان… البلد لا يحتمل رئيسين”
ما إن منح إميل لحُّود الغطاء السياسي للحكومة، ووقف إلى جانبها بلا تردُّد، حتى ألزمتُ نفسي بالتريُّث في الحملة عليها، لأنَّ أيَّ محاولة لتقويض الحكومة وإسقاطها، ونحن لمَّا نزل في مطلع العهد، كان من شأنها أن تُسقط مع الحكومة هيبة الرئاسة بالذات، وهو أمرٌ كنت دائماً حريصاً على مراعاته ومداراته. (…)
رئيس واحد
بدأت منذ ذلك الوقت أشعر بأن هناك “تحييكات” خفيَّة، كانت تهدف إلى الإيقاع بي وبغازي كنعان، ثم تعميق الجفوة بيني وبينه بتوسيع شقَّة التباعد المتَّسع يوماً بعد يوم. والمؤسف في تلك الفترة، أن تصرُّفات غازي كنعان الانفعالية غير المعهودة منه، فوَّتت عليه تلمُّس معاني ومصادر ومرامي ما كان يحاك في العتمة. (…)
آلمه كثيراً موقف إميل لحُّود منه، تحت تأثير البطانة ذات المغازل الرفيعة، هو الذي “استمات” من أجل وصول الجنرال إلى الرئاسة، ومن قبلها إلى قيادة الجيش، وجد نفسه وقد غدر به!
ففي 12 شباط/فبراير 1999 عُقدت خلوة بين الرئيسين حافظ الأسد وإميل لحُّود، قال فيها الرئيس اللبناني كلاماً مفاجئاً لم يسبق أن قاله أحدٌ من اللبنانيين للرئيس الأسد، أبدى رغبة لم يكن من السهل على أحد بلعها، أو التجرُّؤ على إبدائها، وهي إبعاد غازي كنعان من لبنان. قال لحُّود للأسد، كما بلغني من مصدر ثقة:
“القوات السورية موجودة في لبنان… لا بأس، لكن من دون غازي كنعان… البلد لا يحتمل رئيسين”. (…)
عاد رفيق الحريري على رأس الحكومة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2000، قوِّياً في وجه الرئيس إميل لحُّود لفوزه المُبين في الانتخابات النيابية الأولى للعهد الجديد، فكان الأقوى بين الأقوياء الفائزين، الأمر الذي أضعف عهد إميل لحُّود وهمَّشه. في المعارضة كنت في موقع غير بعيد عن رفيق الحريري، ومع أنني رفضت المشاركة في حكومته، فقد توقَّعت الدخول في مواجهة جديدة مع رئيس الجمهورية وفريق عمله وبطانته من ورائه. (…)
صراع الجبابرة
بين تموز/يوليو وآب/أغسطس 2001، شهد مجلس النوَّاب نكسة خطيرة، غير مسبوقة في تاريخه، وعلى نحو مهين، بإرغامه على عقد جلستين لتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية تحت وطأة ضغوط رئيس الجمهورية والأجهزة الأمنية، معوِّلين على دمشق لفرض تلك الإرادة على النواب.
أصرَّ اميل لحُّود على نقض تعديلات أقرَّها المجلس في الجلسة الأولى تناولت صلاحيات النيابة العامة التمييزية، وإبدالها بأخرى مناقضة مرَّرها المجلس في الجلسة الثانية التي التأمت قبل أن يجفَّ حبر الجلسة الأولى. فقد هدَّد الرئيس لحُّود بالاستقالة في حال عدم موافقة المجلس على التعديلات التي اقترحها هو وفريقه.(…)
عملاً بصلاحيته تبعاً للمادة 57 من الدستور، ردَّ رئيس الجمهورية قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي كان المجلس صادق عليه في 2 نيسان/أبريل 2001، طالباً الأخذ بأسبابه. انعقدت الهيئة العامة للمجلس في 25 تموز/يوليو وناقشت القانون المعاد وأقرَّته مجدَّداً، دونما الأخذ بأسباب الردِّ. استشاط رئيس الجمهورية غضباً وعزم على المواجهة، فطلب من مجلس النواب عقد اجتماع آخر والعودة عمَّا صادق عليه.
كنت إلى غداء عند عبدالرحيم مراد مع غازي كنعان، فأمسك بيدي وانتحى بي جانباً وقال هامساً: “سيُعدَّل القانون أيَّاً كانت الاعتراضات. الرجل هدَّد بالاستقالة”.
راجعت نبيه برِّي في الأمر، فأظهر امتعاضه ممَّا يجري التحضير له. بذلت جهوداً لتأخير عقد الجلسة الثانية وتجنيب مجلس النواب إساءة موصوفة من خلال التلاعب به. (…)
إنكفاء نحو أميركا
دعوت السفير (الأميركي دايفيد) ساترفيلد إلى الغداء يوماً ودعوت معه سيدة تدعى رولا تلج كان لديَّ انطباع بأنها صديقة للأميركيين. في تلك الليلة، استفضت في انتقاد الحكم القائم، وقسوت في كلامي على استهتار أهل السلطة بالحياة البرلمانية، وبالقوانين التي يشرِّعها المجلس النيابي، جاعلين منها مطيَّة لمآرب لا علاقة لها بأصول التشريع، ومفروضة على النواب فرضاً تعسفياً بالقوة القاهرة.
نقلت السيدة رولا تلج كلامي بالحرف إلى جميل السيِّد، فأحاله بدوره إلى دمشق بحجة أنَّ القيادة السورية هي التي أرادت الاطّلاع على فحواه لتعرُّضه لرئيس الجمهورية وعهده. كِيلت لي الاتهامات من كلّ حدب وصوب، ولم يكن غازي كنعان بريئاً منها. قالوا إنني مناوىء للحكم لأنني أبحث عن ذريعة للخروج من “الدائرة السورية” والانضمام إلى “الانعزاليين” المعادين لدمشق، ومنهم من اتهمني بأنني على تواصل دائم مع السفارة الأميركية، وفي صلب السياسة الأميركية. تمادى الوشاة والمحرِّضون في ابتكار النعوت والأوصاف التي ظنُّوا أنها تنال منِّي وتسيء إلى سمعتي.(…)
فرزلي: “يا شيخ بطرس شئتَها، فخذها. تُخاطب الرئيس برِّي بعُلى الجبين، فعُلى الجبين إليه ليس بحاجة. هذا القانون، قانون الإثراء غير المشروع، هو مؤامرة لانَّ غايته الحقيقية رفع السرِّية المصرفية”
الرفيق جورج
اتفقت مع جورج حاوي، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، على عقد مؤتمر وطني في بلدته بتغرين، في 27 كانون الثاني/يناير 2001، يناقش ما آلت اليه حال البلاد. عشيَّة انعقاد المؤتمر، تلقت زوجتي أولغا مكالمة هاتفية من زوجة غازي كنعان تمنَّت فيها، بالإنابة عن زوجها، الذي كان يؤثر مقاطعتي، إقناعي بعدم المشاركة في المؤتمر. أبلغتني زوجتي بالأمر، فلم أستجب. وأشعرُ اليوم، بمراجعة لما حدث يومئذ، أنني تماديتُ في هذا الاتجاه.
خلال أعمال المؤتمر الذي حضره أمين الجميل، ووليد جنبلاط، ونسيب لحود، وميشال سماحة، وبيار أمين الجميل، وفريد هيكل الخازن، ورافي مادايان، وشخصيات معارضة أخرى، كنت الوحيد بينهم، من خارج جبل لبنان. حرصتُ، وأصرَّيتُ، على الفصل التام بين المعركة ضد إميل لحود والسلطة اللبنانية وبين استهداف الجيش السوري في لبنان، مشدِّداً على البعد الداخلي للمسألة، تفادياً لاتّهامنا بالتآمر على الوجود السوري، ومنعاً لاتّخاذ المؤتمر ذريعة لرمينا بما لا نهدف اليه، خصوصاً وأنَّ المناخات الدولية لا توحي بأنها في وارد خوض مثل هذا التحدِّي. أكَّدتُ وشدَّدتُ على ضرورة تجنب الاصطدام بالقوات السورية أو التعرّض لها قولاً وفعلاً. إلاَّ أنَّ أمين الجميل، على الرغم من الموقف الإيجابي الذي اتخذته منه في لجنة التحقيق النيابية في صفقة طوافات “پوما”، كما مرَّ، شكَّك في حضوري، كما لو أنني جئت لمنع استنهاض المعارضة وتعطيل دورها حيال الوجود السوري. لزم وليد جنبلاط الصمت. تمسَّكتُ بصدور بيان ختامي كما اقترحت، فصدر وتلاه جورج حاوي، فاذا البيان التزم الدقة وكل ما تمنَّيت وطلبت. (…)
العين الحمراء
تنامت شكوكي إزاء ما يعتزم الحكم الجديد المضي فيه، عندما رأيت عينه “محمرَّة” تجاه نبيه برِّي الذي كان أحد أبرز داعمي انتخاب إميل لحُّود رئيساً عامي 1995 و1998، والتلويح باستهداف رجاله وأنصاره في الإدارة، من خلال طرح قانون الإثراء غير المشروع في مجلس النواب. اتضَّح من ذلك وضوح الشمس أنَّ هناك محاولة جدِّية، غير خافية، للإمساك بالبلاد كلّها، بدءاً بالمؤسسات الدستورية وصولاً إلى الإدارة.
رافقت طرح مشروع القانون حملة، اختبأت وراءها بطانة الرئيس، غايتها التشكيك بالطبقة السياسية اللبنانية، بحيث يتعذَّر على أيِّ نائب معارضته لئلا يُتَّهم بضلوعه في الفساد والتورُّط في إثراء غير مشروع. لذلك عزمتُ على المواجهة وإنْ وحيداً، فأدليت بتصريح بهذا المعنى إلى جريدة “الديار” أعلنت فيه أنني سوف أُسقط هذا المشروع منفرداً.
عقد مجلس النواب جلسة عامة لمناقشة مشروع القانون والتصويت عليه. عندما دخلت إلى القاعة كان النائب بطرس حرب يُدلي بمداخلة، سمعته يقول لرئيس المجلس:
“أنت تمثِّل عُلى الجبين يا دولة الرئيس، فهل يجوز التنازل عن هذا المشروع؟”
طلبت الكلام.. (…)
ثم توجهت بالقول لبطرس حرب:
“يا شيخ بطرس شئتَها، فخذها. تُخاطب الرئيس برِّي بعُلى الجبين، فعُلى الجبين إليه ليس بحاجة. هذا القانون، قانون الإثراء غير المشروع، هو مؤامرة لانَّ غايته الحقيقية رفع السرِّية المصرفية، وهو التزام حيال الاستخبارات الأجنبية التي تبغي التسلُّل إلى المصارف لرفع السرِّية عنها. عندئذ لا يقتصر رفع السرِّية على النواب والسياسيين وعائلاتهم وأقاربهم، بل سيشمل 70 في المئة من الشعب اللبناني، فيصبحون مكشوفين تماماً”.
كان رؤساء الكتل النيابية في صفِّي ضمناً، معارضين المشروع، فأحاله رئيس المجلس على اللجان النيابية المشتركة مجدَّداً. لم يكن مشروع قانون الإثراء غير المشروع هدفي تحديداً، بل كانت غايتي إسقاط مشروع الحكومة، لوقف تطاول السلطة الجديدة على مجلس النواب وكسر هيبتها فيه، وتحديداً القوى الحقيقية المسيطرة في الحكومة: آل المر، ومديرية الاستخبارات، وخصوصاً رئيس الجمهورية الذي لم نكن نعرف عنه تلك النزعة التسلُّطية. بالتأكيد لم أقصد سليم الحص الذي كان يحظى بثقتنا كاملة. (…)
منذ عام 1998، لم يكن إميل لحُّود يرى أمامه هدفاً سوى القضاء على رفيق الحريري. بل هو لم يشأ من انتخابات 2000 إلاَّ هذا الهدف، وصولاً إلى الإمساك ببرلمان مطواع. حتى هذه المغامرة خسرها أيضاً.
التنصت دائماً
بيني وبينه هو ما كان وما صار بيني وبين جميل السيِّد. التقينا حيث يجب أن نلتقي وافترقنا حيث يجب أن نفترق. وأروي هنا ما كان وما صار من جميل السيِّد بما هو صورة مصغَّرة عن إميل لحُّود:
كنعان لفرزلي: “نحن عند الرئيس الأسد، مثل ربطة العنق، وحده يقرِّر متى يعقدها أو يحلُّها، ومتى يستبدلها بأخرى”
في عام 2001، كنَّا نناقش مشروع قانون التنصُّت في اللجان النيابية المشتركة التي ترأستها آنذاك. وبسبب من أعمال اللجان وصلت متأخراً إلى غداء في منزل عهد بارودي دُعي إليه غازي كنعان، وقادة الأجهزة الأمنية كلِّها، ونواب من البقاع أمثال خليل هراوي، وروبير غانم، وسامي الخطيب.
دار الحديث على التنصُّت، وتنافس الأجهزة الأمنية عليه، وممارسته في أحيان كثيرة خارج الضوابط القانونية والقضائية، الأمر الذي أتاح تسيُّبه كي يشمل الجميع، سياسيين ومواطنين. تناولنا المسؤوليات المترتِّبة على معالجة هذا الملف، وأدلى كلٌّ بدلوه. قال جميل السيِّد، وكان أضحى مديراً عاماً للأمن العام معنياً بدوره بالتنصُّت: “بعد الذي سمعته، لن أذهب من الآن فصاعداً إلى جلسات اللجان النيابية”.
فأجبته بصوت عال وبحدَّة: “ليس لك أن تقول متى تذهب ومتى لا تذهب. أنت موظف. ما أن تُدعى تحضر للفور. هذا واجبك”.
تكهرب الجو، فتدخَّل غازي كنعان بكلام حمل في طياته تهديداً مبطَّناً، فهمتُ منه دعم وجهة نظر جميل السيِّد، قال بنبرة حاسمة: “بلا تنصُّت، فليحمِ كلّ واحد نفسه بنفسه”.
هي، إذن، ما كانوا يريدون: “جمهورية التنصُّت”! (…)
ربطات أعناق
“نحن عند الرئيس الأسد، مثل ربطة العنق، وحده يقرِّر متى يعقدها أو يحلُّها، ومتى يستبدلها بأخرى”.
هذه كانت آخر كلمات قالها لي غازي كنعان، وأول إشارة إلى نقله من لبنان.
إنقطع عني ولم يقطع “شعرة معاوية” بيننا. وفي الوقت ذاته لم يقبل وساطات الأصدقاء المشتركين لوصل ما كان انقطع. (…)
في 8 حزيران/يونيو 2000، يوم ذكرى مرور سنة على مقتل القضاة الأربعة في قصر العدل في صيدا، اتّصل الحريري، طالباً أن يمرَّ بي في منزلي في الحازمية لنزور معاً عائلات القضاة المغدورين في الشوف، وإقليم الخروب، وصيدا لتعزيتهم.
في الطريق دار حديث عن الأوضاع القائمة في البلاد، وكان الرجل في وضع سياسي يُرثى له، وخلافه مع إميل لحُّود وبطانته وصل الذروة، وفي الوقت ذاته كان يستجمع قواه للانتقام من الرئيس في صناديق اقتراع الانتخابات النيابية الوشيكة.
ما كان يجمعني بالحريري، في ذلك الحين، التباعد والجفاء مع عهد إميل لحُّود، والحرص على عدم استفزاز السوريين حيال هذه المسألة.
قلت لرفيق الحريري ممازحاً: “الله يلعن الساعة التي تآمرنا فيها عليك”. (…)
في اليوم التالي، قصد رفيق الحريري غازي كنعان في عنجر. في سياق حديثهما، وبأسلوبٍ مازح، قال له: “كنتم تتآمرون عليَّ، أليس كذلك؟”
سأله باستغراب ودهشة: “مَن تآمر عليك؟”
أجابه الحريري: “أنت، وجميل السيِّد، وإيلي الفرزلي”.
سأله مستفسراً: “مَن قال لك هذا الكلام؟”
أجابه بلا تردُّد وبعفوية: “إيلي الفرزلي”.
أضاف غازي كنعان: “وماذا قال لك ايضاً؟”
رصاصة في الرأس
طوى الحريري الموضوع عندما شعر بأنه أصاب وتراً حسَّاساً قد تكون له ذيولٌ ومضاعفات. ما سمعه غازي كنعان من الحريري كان كافياً للقضاء على ما تبقى من علاقتي به ووضعها على طريق اللاعودة، فأصبحت من الماضي وانقطعت نهائياً. (…)
بعد مغادرته لبنان التقيت به مرة واحدة فقط، ولم يكن انقضى وقت طويل على رجوعه إلى دمشق. حصل ذلك على أثر استقبال الرئيس بشار الأسد لي يوم 17 شباط/فبراير 2003. فلم أشأ، بعد تلك المقابلة، العودة إلى بيروت من غير أن أعرِّج على صديق قديم، فزرته في مكتبه، وكان ما زال رئيساً لشعبة الأمن السياسي(…).
بعد الزيارة اليتيمة تلك له عام 2003، انقطع كلياً التواصل بيننا، لكن بعد سنتين أبديت لعبدالرحيم مراد رغبتي في أن نقوم معاً بزيارة له، فقد اشتقت إليه فعلاً من صميم القلب.
كان عبدالرحيم مراد لا يزال يحافظ على علاقته الوطيدة به واتصالاته معه. خابره وأطلعه على رغبتي، فدعانا إلى إفطار – في شهر رمضان – في ضيافته في 13 تشرين الأول/اكتوبر 2005.
في اليوم السابق للموعد، 12 تشرين الأول/اكتوبر، فوجئت بصوته يتكلَّم عبر إذاعة “صوت لبنان”، فجذبني كلامه من دون أن أعرف السبب. فقد كان أمراً نادراً أو مستحيلاً أن يتكلّم غازي كنعان إلى وسائل الإعلام على الهواء مباشرة، بل كان أحياناً، في لحظة الضرورة التي لا مفرَّ منها، يمسك بسمَّاعة الهاتف ويتكلَّم مع أحد الإعلاميين. (…)
لم تنقضِ ساعة حتى تلقيت مكالمة هاتفية من عبدالرحيم مراد يقول لي: “إحزر مَن مات”.
قلت: “مَن؟”
قال: “غازي كنعان”.
قلت بلا تردَّد: “إنتحر؟”