النظام كلّه كان مع رياض سلامة لكن بلا تغطيات قانونية مُحكمة. فلا الحكومات أبرمت معه اتفاقيات مُصادَق عليها من مجلس النواب، ولا مجلس النواب أصدر القوانين التي تُجيز له إنفاقه، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
خلال ساعات تنتهي عهود رياض سلامة. الرجل يعيش منذ ثلاث سنوات ونيف أياماً صعبة، لكنها ازدادت صعوبة في الأشهر الأخيرة: ادّعاءات بحقّه بجرائم الرشوة والتزوير وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضّريبي واستغلال السلطة ودعاوى بتهم إساءة استعمال صلاحياته الوظيفية.
ومن أجل ضمان مرحلة ما بعد رياض سلامة، يُطالب نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة بتغطية قانونية للاستمرار بإقراض الدولة، واستعمال “الاحتياطي الالزامي” بـ 200 مليون دولار شهرياً (يمكن خفضها إلى 100 مليون دولار) لـ3 أشهر قابلة للتجديد 3 أشهر أخرى، من أجل تسديد رواتب القطاع العام فضلاً عن مبلغ يُستعمل للتدخل في سوق القطع دفاعاً عن الليرة، بالإضافة إلى التزامات تتعلق بدعم أدوية الأمراض المستعصية واستيراد الحبوب.
لن يكون من السهل للقضاء أن يُسهّل صرف ما تبقى من احتياطي لدى مصرف لبنان المركزي، بغضّ النظر عمَن سيحكم مصرف لبنان، أكان النواب الأربعة (وهذا المرجح بدءاً من يوم الثلاثاء المقبل) أم المدير الموقّت، وبغضّ النظر عن الوعود الحكوميّة لنواب الحاكم الأربعة
قوبلت مطالب النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان (الكابيتال كونترول واعادة هيكلة القطاع المصرفي واجازة صرف 200 مليون دولار شهرياً وإعادة النظر في موازنة 2023 إلخ..) برفض برلماني، فلوّحوا بالاستقالة. هذا الأمر دفع إلى التداول بفكرة تعيين المدير الموقّت من قِبل قضاء العجلة الإداري. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن المدير الموقّت ليس حارساً قضائياً.
فالحارس القضائي يُعيَّن من قِبل القضاء العدلي في حال وجود نزاع مالي في شركة ما. أما المدير الموقّت، فيُعيّن في المؤسسات الخاصة و/أو المؤسسات العامة التابعة للدولة في حال وجود فراغ كلّي لإدارة هذه المؤسسات. وفي هذه الحالة يعود لمجلس شورى الدولة، قضاء العجلة، بناء على طلب هيئة القضايا من تلقاء نفسها أو وزير العدل تعيين هذا المدير الموقّت.
المهمّ، باءت محاولة نواب الحاكم بالفشل. فحاول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تأمين تغطية قضائية دستورية. طلب رأي “مجلس شورى الدولة” ذات المفاعيل الإلزامية بموضوع إمكانية اقتراض الحكومة من “المركزي” عن طريق المادة 91 من قانون النقد والتسليف. جواب “الشورى” جاء سلبياً إذ اعتبر أن الاستقراض غير جائز حالياً. وبالتالي يُمنع على الدولة أن تُبرم أي عقد استقراض مع مصرف لبنان المركزي.
فشروط الاستقراض المنصوص عنها في المادة 91 من قانون النقد غير متوفرة. أضف إلى ذلك أنّ المادة 69 تفرض عدم المسّ بالاحتياطي وهي تنصّ على أنه “على المصرف أن يُبقي في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي 30٪ على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره، وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50٪ من قيمة النقد المصدر”.
بمعنى أبسط، يُمنع تحت أي ذريعة وحتى في الظروف الاستثنائية الخطيرة أن يستخدم المصرف المركزي احتياطاته، والتي للمناسبة باتت سلبية منذ العام 2013.
عملياً، دخل لبنان “المنطقة الحمراء”(red zone) منذ مؤتمر “باريس واحد” ومن ثمّ “باريس 2” و”باريس 3″، وبعدها خلال العامين 2008 – 2009 حيث تدفّقت الأموال بنسب كبيرة ولم يكن حجم الاقتصاد اللبناني جاهزاً لاستيعابها… فتقييد حركة الرساميل كان يجب أن يتمّ منذ ذلك الوقت لضبط الأموال المتدفّقة إلى النظام المصرفي، بلا قيود، والتي استُخدمت في ما بعد للإفراط في الإنفاق الحكومي. لكن وحده رياض سلامة يملك حقيقة الأرقام التي يُنتظر كشفها من قِبل تقرير التدقيق الجنائي النائم في أدراج وزير المال يوسف خليل برغم إلحاح رئيس المجلس النيابي بوجوب تسليمه لرئاسة الحكومة.
وبالعودة إلى مسألة الإقراض الحكومي من مصرف لبنان المركزي؛ فلقد نظّم قانون النقد والتسليف الصادر في آب/أغسطس 1963 شروط إقراض مصرف لبنان وهو مؤسسة الإصدار للخزينة وسائر هيئات القطاع العام، من خلال:
1- الظروف العادية.
2- الظروف الاستثنائيّة الخطورة.
أجاز القانون لمصرف لبنان المركزي تقديم تسهيلات صندوق للخزينة في الظروف العاديّة بشكل موقّت ومحدود، وبشروط صارمة. وذلك عندما يكون طلب الاقتراض الوارد من الحكومة منسجماً مع الشروط القانونيّة، ويكون المركزي مستقلّاً وحرّاً في الموافقة أو عدمها على الطلب.
عدا عن ذلك، فإنّ إقراض مصرف لبنان للدولة محظور.
أي إنّ الإقراض الوحيد الذي أجازه قانون النقد والتسليف بتوفيره للقطاع العام هو “تسهيلات الصندوق”، وحرص على عدم تحويل هذه التسهيلات إلى قروض مقنعة طويلة المدى للدولة فقيّدها بالشروط التالية:
– تُمنح التسهيلات للخزينة المركزية فقط بطلب من وزير المالية.
– لا يمكن أن تتعدّى قيمة هذه التسهيلات الـ10٪ من متوسط إيرادات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة التي تمّ قطع حسابها.
– تُمنح هذه التسهيلات لأربعة أشهر فقط ولا يجوز منحها أكثر من مرّة خلال السنة الواحدة.
– تُخصّص هذه التسهيلات لسدّ النواقص الطارئة الناجمة عن خلل بين موجودات الخزينة لدى المصرف المركزي والتزامات فورية مترتّبة على الدولة. أي أنه لا يجوز استعمال التسهيلات المذكورة لتمويل نفقات ثابتة أو مشاريع.
في مقابل ذلك، أجاز “النقد والتسليف” ضمن قواعد وضوابط محدّدة إقراض الدولة بشروط مختلفة إن توافرت عناصر “الظروف الاستثنائية الخطورة”. وقد ألزم القانون مصرف لبنان المركزي بضرورة استعمال كل الوسائل القانونية المتاحة لتأمين المال للدولة عبر وسائل مختلفة غير الاقتراض من البنك المركزي، وأن يكون “المركزي” الملجأ الأخير الذي لا يُقرض الدولة إلا عند فقدان الأمل نهائياً بإمكانية وجود مصدر آخر للتمويل أو بإمكانية الاستغناء عن القرض عن طريق خفض النفقات العامة أو إيجاد موارد ذاتية جديدة للدولة.
لكن، حتى لو توافرت كلّ هذه الشروط، فمصرف لبنان ليس ملزماً بإقراض الدولة بل إنه مستقلّ تماماً في قراره لأن العبارة التي وردت تقول حرفياً: “يُمكن للمصرف المركزي أن يمنح القرض” وليس “على المصرف أن يمنح القرض”.
كما أن مدّة القرض يجب أن لا تزيد في حالة “الظروف الإستثنائية الخطورة” عن عشر سنوات. هذا، ووضع القانون ضابطاً آخر على حرية الإقراض الحكومي من “المركزي”، تمثّل بالرقابة البرلمانية. فنصّ على أنّ شروط القرض تُصاغ في عقد توقّعه الحكومة والمصرف، ويُحال العقد مع المستندات والتقارير إلى مجلس النواب كي يُصدّقه عملاً بالدستور الذي حظّر في المادة 88 أن تُرتّب الحكومة على نفسها أي التزام إلا بقانون.
وحده رياض سلامة يملك حقيقة الأرقام التي يُنتظر كشفها من قِبل تقرير التدقيق الجنائي النائم في أدراج وزير المال يوسف خليل برغم إلحاح رئيس المجلس النيابي بوجوب تسليمه لرئاسة الحكومة
بالإضافة إلى ذلك، أجاز المشرّع اللبناني للبنك المركزي شراء وبيع وحسم أدوات الدين الحكوميّة ضمن عمليّات السوق المفتوحة، وبهدف التأثير على السيولة وليس بقصد إقراض الدولة.
كلّ هذه الاستثناءات لم تتوفر منذ العام 1993.
تورّط مصرف لبنان، بلعبة التنفيعات والزبائنية والمضاربات. أغرق النقد الوطني وزجّه في المصالح السياسية – المصرفيّة. ونتيجةً لأدائه السيّئ والمُخالف للقانون في غالبية الأحيان، تسبّب بخسائر في ميزانيّته تُلامس حدود الإفلاس. في كلّ الأحوال، لن يكون من السهل للقضاء أن يُسهّل صرف ما تبقى من احتياطي لدى مصرف لبنان المركزي، بغضّ النظر عمَن سيحكم مصرف لبنان، أكان النواب الأربعة (وهذا المرجح بدءاً من يوم الثلاثاء المقبل) أم المدير الموقّت، وبغضّ النظر عن الوعود الحكوميّة لنواب الحاكم الأربعة. لذا، فقد آن الأوان لتسيطر وزارة المال على مواردها المالية وتضبط السرقات فتؤمّن إيراداتها لئلا تعود الحكومة بحاجة إلى الاقتراض.