ذكرى شهداء الصحافة، أو استشهاد الصحافة؟

كانت الأوساط المقرّبة من رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري تنقل عنه جملةً رهيبة، تبيَّن في ما بعد أنّها كانت "البوصلة" التي وجّهت حياته ووسّعت أعماله وفرضت سطوته. تقول هذه الجملة: "كلّ إنسان يمكن شراؤه في هذه الدنيا. يتوقّف الأمر، فقط، على السعر"! جوزيف سماحة، فقيد الصحافة اللبنانيّة والعربيّة الكبير، كان من بين قلّة قليلة جداً من الصحافيّين المشاكسين الذين دحضوا تلك المقولة الحريريّة. فلقد فشل "أبو بهاء"، وبالرغم من مفاوضاتٍ طويلة وعسيرة، بإقناع سماحة بالانضواء في "إمبراطوريّة الحريري الإعلاميّة" (كما سُمِّيت آنذاك).

لم يكن ذاك التكتيك مُحرجاً لرئيس الحكومة اللبنانيّة الراحل رفيق الحريري، بل على العكس تماماً؛ كانت حاشيته تتباهى بـ”الحسنات” التي كان يغدقها الحريري – الأبّ على الصحافيّين اللبنانيّين (وغيرهم)، وعلى المؤسّسات الإعلاميّة اللبنانيّة (وغيرها) لانتشالها من غرقٍ حتميّ. فلقد كان الرجل يساوم على السعر ويشتري ويتملّك ويفرض، بعد ذلك، “طقوس اللعبة” تبعاً للمثل الفرنسي القائل “مَن يُعطِ يأمرْ”. وعلى هذه القاعدة، كانت الأوامر تُعطى (ضمناً) للصحافيّين اللبنانيّين كي يسيروا على “الصراط المستقيم”؛ مرّةً من خلال تقديم الهدايا والمكافآت الثمينة لهم، ومرّةً من خلال استنساب بعض الأسماء “المحظوظة” منهم لتغطية النشاطات الرسميّة خلف البحار، ومرّةً من خلال تثبيت “الأوفياء” في جداول الـ Payroll الشهريّة.

لقد اقتدى سياسيّو لبنان (ممّن أغدق عليهم الربّ من خيراته) بهذه الوصفة السحريّة، وكرّسوها نهجاً للتعاطي والتعامل مع الجهات التي يمكن أن تسبّب لهم “وجع الرأس”؛ ومَن أكثر من “أهل الصحافة” قدرةً وقابليّة، لإثارة واستجلاب المتاعب، ولا سيّما في أوقات المحن والأزمات والنزاعات والمناكفات في ما بين “قادة لبنان”؟! حتى أنّ البعض منهم، يذهب إلى حدّ توصيف “الإعلام” (الذي بات يعني “الصحافة” مع ظهور الإذاعة والتلفزيون)، بالسلاح الأساسي في الكثير من المعارك. وفي المعارك، كما تعوّدنا، يسقط الشهداء. مَن هم شهداء الصحافة اللبنانيّة، الذين يحتفل لبنان بذكراهم اليوم؟

في الأصل، كان السادس من أيار/مايو يوماً للاحتفال بعيد الشهداء، في كلٍّ من لبنان وسوريا؛ كانت تُرفَع الصلوات وتُقرَع الأجراس وتعلو أصوات المآذن، تحيّةً لتضحية رجالٍ قضوا في نضالٍ، مهّد الطريق إلى التحرّر من الاحتلال العثماني. لكنّ الدماء التي نزفها آلاف الشهداء خلال حروب لبنان (الأهليّة وغير الأهليّة)، غمرت أعواد المشانق التركيّة التي عُلِّقَت في ذاك الأحد الأسود من عام 1916، فارتأى الخارجون من جحيم الحروب، أن يُلغى هذا العيد. وكبدلٍ عن ضائع، خُصِّص السادس من أيار/مايو للاحتفاء، حصراً، بشهداء الصحافة الذين أعدمهم سفّاح تركيا الشهير جمال باشا على أرض بيروت (في ساحة البرج)، مع باقي الشهداء، وهم: الشيخ أحمد حسن طبارة، سعيد فاضل عقل، عمر حمد، عبد الغني العريسي، الأمير عارف الشهاب، بترو باولي، جورجي حداد، فيليب وفريد الخازن.

بعد سقوط هذه الكوكبة من الشهداء الصحافيّين، سقطت كواكب كثيرة على طرقات الحروب والاجتياحات والاحتلالات، ممّن نذروا حياتهم للنطق بالحقّ والحقيقة؛ إنّما لا شيء يسلك مسالكه الطبيعيّة في لبنان، فالاختلافات والخلافات والتناقضات والنزاعات والصراعات، تبدأ في هذا البلد ولا تنتهي. فأهل لبنان يختلفون على أيّ شيء وكلّ شيء، حتى على مفهوم “الاستشهاد”، وعلى شهادة الصحافي التي يراها البعض، أحياناً، لا تتعدّى كونها “تصفية حساب جسديّة”، لا تمتّ بصلةٍ إلى محاولات قمع حرّية التعبير أو دفع أثمان الموقف والرأي. صحافيّون كُثُر اغتيلوا في لبنان، سبق أن وُضِعوا في دائرة الشكّ والاتهام، على خلفيّة أدوارٍ سياسيّة أو أمنيّة أو استخباراتيّة لعبوها وموّهوها، بحصانة بطاقاتهم الصحفيّة. لكن، وبمعزلٍ عن هذه الحالات، لم تنجُ صحافة لبنان وإعلامه، يوماً، من حملات الانتقاد والذمّ والطعن بالمصداقيّة. فلقد أحاطت الصحافيّين اللبنانيّين، على الدوام، شبهاتٌ حول ارتكابهم ثلاثَ معاصٍ خطيرة : التزلّم والتواطؤ والفساد.

سأل “ضمير لبنان” (كما كان يُلقَّب ريمون إدّه) أنسي الحاج: “ماذا تريد؟” فأجابه الأخير: “لا شيء. فقط أريد التلذّذ في شتيمتكم” (وكان يعني السياسيّين). كم كان سيتلذّذ أنسي الحاج لو عاش ورأى في بلده حكّاماً وسياسيّين ومسؤولين لا تليق بهم إلاّ الشتيمة

من المفيد، ربّما، التذكير ببعض الأمور.

منذ نشأتها، ساهمت الصحافة اللبنانيّة بدورٍ وطني مشهود له، وحملت، منذ بدايات القرن العشرين، لواء النهضة العربيّة في مواجهة الاستعمار العثماني ومن ثمّ الانتداب الفرنسي. لكن، في السنوات التي تلت نيل لبنان استقلاله، بات دور الإعلام عرضةً لحملات التشكيك، أوّلاً بوطنيّته، وثانياً بمسؤوليّته. ففي الفترة التي سبقت اندلاع حرب الـ 1975، اتُّهمت “صحافة لبنان” بتهمتيْن خطيرتيْن:

الأولى، هي التمهيد للحرب من خلال التحريض السياسي والطائفي عليها؛

الثانية، ارتهان الصحافة للرأسمال الخارجي (العربي تحديداً) على حساب المصلحة الوطنيّة العليا.

وقد اختصر الرئيس الراحل شارل حلو العلاقة الإشكاليّة التي نشأت، آنذاك، بين السلطة السياسيّة والصحافيّين، بقوله الشهير أثناء استقباله وفداً يمثلهم في القصر الجمهوري: “أهلًا بكم في وطنكم الثاني لبنان”. وبعد “حرب السنتيْن” (كما سُمِّيت)، وُجِّهت إلى الصحافة اللبنانيّة تهمة ثالثة، هي العمل على إذكاء نار الحرب الأهليّة، وقد تُرجم الاتهام، بفرض الرقابة المسبقة على وسائل الإعلام. وقبل اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر بأسبوعيْن فقط، حمّلت حكومة سعد الحريري، جهاراً، الصحافة والصحافيّين اللبنانيّين، مسؤوليّة بثّ الشائعات التي ساهمت “بتقويض ثقة الناس بالدولة، وبإلحاق ضرر كبير بالاقتصاد والماليّة العامّة”.

إقرأ على موقع 180  عن فدرالية الكورونا وشوبنهاور

وعلى قدْر ما كان هذا التصويب لمافيا السلطة على “السلطة الرابعة” مضحكاً ومجحفاً ومشبوهاً، إلاّ أنّ أحداً في لبنان لم ينبرِ للدفاع عن الصحافيّين. لماذا؟ لو طرحنا على الجمهور هذا السؤال في استطلاعٍ للرأي، لأظهرت النتائج، على الأرجح، أنّ أكثر ما ينتقده اللبنانيّون (بعد فساد حكّامهم وعجزهم طبعاً)، هو أداء الوسائل الإعلاميّة في لبنان. ففي الوقت الذي تغنّي فيه كلّ وسيلةٍ على ليلاها، ينشط الصحافيّون (ضمنها) لخلق أسلوبٍ مريض للسجال السياسي في البلد، تقزّمت معه الحياة العامّة، ككلّ، كي تتناسب مع الخواء الشامل والكامل للخطاب الإعلامي الذي “يريده الجمهور” هكذا! عذرٌ أقبح من ذنب.

يتعامل الصحافيّون، بلا ريب، مع مستوياتٍ غير طبيعيّة من الضغوطات في حياتهم اليوميّة، فنراهم لا يملكون سوى القليل من الوقت والفرص لفحص أدوارهم، كمحقّقين ومتقصّين، كي ينقلوا (قبل غيرهم) المعلومة إلى الناس. وعلى اختلاف مستوى مؤهّلاتهم ومهاراتهم ورصيدهم الأخلاقي، يميل هؤلاء الصحافيّون، غالباً وللأسف، لتجاهُل التقارير التي تنقل القصص الإخباريّة ذات النيّة الحسنة؛ وتزداد تعقيدات هذا الواقع، في المجتمعات التي تشهد نزاعات متأصّلة وكفاحات وجوديّة، إذا جاز التعبير، كما هي الحال عندنا في لبنان. هم يتقيّدون بالقاعدة السائدة (عالمياً) التي تشدِّد على أنّه “كلّما كان هناك دماء، ومصائب، وخسائر، وفضائح، فالخبر رئيسي”. فهذه “المعطيات”، هي عُدّة العمل المثاليّة والمطلوبة لشدّ الانتباه واستقطاب الجماهير بشتّى الوسائل، المشروعة وغير المشروعة. لكن، ما نفع هذا اللّهاث في زمنٍ باتت تُنقَل فيه الأحداث قبل وقوعها؟

إنّه الضياع في تحديد الدور والوظيفة، والذي كشف العيوب البنيويّة للمؤسّسات الإعلاميّة اللبنانيّة، وأدخل الصحافيّين في متاهات حربٍ باردة مستمرّة تخوضها مؤسّساتهم، بوتيرةٍ، تعلو وتهبط، بحسب ما تقرّره أجندات القيّمين على هذه المؤسّسات، والقيّمين على هؤلاء القيّمين. من هنا، تصبح الوسائل الإعلاميّة (ولا سيّما التلفزيونيّة منها) منابر سياسيّة ناطقة باسم مموّليها من أصحاب القرار السياسي في البلاد، وظيفتها ممارسة دور ترويجي، أكثر ممّا هو إعلامي، لبعض الأحزاب والتيارات السياسيّة والمذهبيّة “الواصلة”.

فشَرْعَنة سلطة “الأمر الواقع”، على كلّ المؤسّسات الإعلاميّة في لبنان، ربطت وشبّكت هذه الأخيرة بها، بشكلٍ مباشر، ما أضعف دورها ومهنيّة العاملين فيها، وكبّلها وكبّلهم بتبعيّاتٍ، تبدأ ولا تنتهي. لكنّ الصحافيّين، هم الأكثر عُرضة للانتقاد و”الغمز واللمز”، كونهم الأشخاص المرئيّين في هذه المؤسّسات، من خلال إطلالاتهم أو تواقيعهم، وتتظهَّر عبرهم الإرتكابات المهنيّة للعيان. لماذا بات الصحافيّون مرتكبين؟

“بفضل” طبيعة نظامٍ ممانع عن المبادرة إلى تعزيز وحماية المهنة، التحق الصحافيّون اللبنانيّون، بنسبٍ متفاوتة، بمنظومة الفساد اللبناني، وأصبحوا، بمعظمهم، ناطقين باسم قوى وتيارات سياسيّة وطائفيّة ومذهبيّة متنازعة. لقد جعلهم حكّامنا يتحوّلون، بالترهيب أو الترغيب، إلى: إمّا “بغايا الصحافة” الذين يفوق وسخهم أوساخ بغايا السياسة (على حدّ توصيف الشاعر العراقي مظفّر النواب)، أو نجوم برتبة “صحافيّي بلاط” خطّوا وروّجوا لنهج محاباة الزعماء والتملّق لهم والاستفادة منهم، أو “أيتام على مائدة اللئام” سُلّمت “رقابهم” إلى مؤسّساتٍ تتحكّم بهم وتلقّنهم القسَم الواجب ترداده، صبحاً ومساءً: “أقسم بشرفي وأعزّ ما عندي أن تكون مصالح مؤسّستي وصاحب مؤسّستي فوق كلّ اعتبار، وأن أخدم أجندة مؤسّستي (وصاحبها) وتقاليدها ودفتر ضوابطها، وأُقِرّ بحقّها في صرفي من العمل ساعة تشاء ومن دون قيد أو شرط “. بئس الحال والمصير.

صحافيّو لبنان ليسوا بخير. حرّية التعبير في لبنان ليست بخير. اللبنانيّون جميعهم ليسوا بخير. العصابات المتحكّمة بخيرات لبنان واللبنانيّين بخير. ونقول لشهداء الصحافة في عيدهم المئة وأربعة: “أيّها الشهداء الأحبّاء، شعب لبنان يترحّم، كلّ يوم، على أيام جمال باشا السفّاح. فالرجل، كان ينشر إجرامه فوق سطوح بيروت، بينما النماذج المستنسخة عنه ترتكب جرائمها، بدون ضوضاء، في الزوايا المظلمة… يا ليتكم تنظرون من عليائكم لعلّكم ترون ما لا نراه”!

كلمة أخيرة. يُقال إنّ العميد ريمون إدّه كان معجباً بكتابات الصحافي (والشاعر) أنسي الحاج في جريدة “النهار”، فطلب مرّةً من صاحبها غسان تويني أن يرتّب له لقاءً مع الحاج. سأل “ضمير لبنان” (كما كان يُلقَّب العميد) أنسي الحاج: “ماذا تريد؟” فأجابه الأخير: “لا شيء. فقط أريد التلذّذ في شتيمتكم” (وكان يعني السياسيّين). كم كان سيتلذّذ أنسي الحاج لو عاش ورأى في بلده حكّاماً وسياسيّين ومسؤولين لا تليق بهم إلاّ الشتيمة.

إقتضى التنويه و… الشتم.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أصدقائي ضد تشاؤمي.. إقرأوا أنسي الحاج!