على جاري عادة الكرسي الرسولي، فإن البابا فرنسيس تجنب الخوض في تفاصيل وتشعبات اللعبة الداخلية اللبنانية، إذ أن نظرته تستند إلى أمرين؛ أولهما، دور ومكانة لبنان كوطن تلتقي فيه حضارات واديان وانتماءات متعددة؛ وثانيهما، مصير الشعب اللبناني بقطع النظر عن الانتماءات السياسية، “لأن الكرسي الرسولي يرتبط بصداقات مع كل اللبنانيين من مختلف الاطراف والطوائف والانتماءات الدينية والمذهبية، وهذا الامر عريق وراسخ ومستمر منذ ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير، نظراً لدور ـ رسالة لبنان في المنطقة”.
ويؤشر كلام البابا فرنسيس الأخير الى اطلاعه على الاوضاع في لبنان، تماما كما البابا الراحل يوحنا بولس الثاني – برغم اختلاف الظروف والاحكام وشخصيتي الرجلين – الذي كان يفاخر بلبنان، ويقول انه يتابع “قضيته دقيقة بدقيقة”، لكن، وقتذاك، كانت ظروف لبنان مختلفة نتيجة الحرب الأهلية وما نتج عنها من تداعيات، أما في يومنا الحالي، فان البابا فرنسيس يبذل جهداً إستثنائياً لإستنهاض العالم بأسره بعد جائحة كورونا، وبرغم هذا الهم العالمي، لم يتناس الوضع الاجتماعي المتدهور في لبنان.
جاءت عباراته اللبنانية الأخيرة بعد دعمه الجهود الدولية لمعالجة الأزمة السورية، الامر الذي جعل مؤتمر بروكسل الأخير ينجح في جمع 7.7 مليارات دولار من الدول المانحة لمساعدة النازحين السوريين، بينها 4.9 مليارات للعام الحالي لاعادة استنهاض الشعب السوري وشعوب الدول المجاورة لسوريا ومنها لبنان، ومن هذا المدخل ولج الى الوضع اللبناني، اذ ان ما قاله لم يكن مدوناً بالنص المكتوب انما كان مرتجلاً.
اما الرسائل التي قصد البابا فرنسيس إيصالها، فهي متعددة:
أولاً، أراد القول إنه قريب من الشعب اللبناني بأسره، هذا الشعب المتألم والمعذّب، وخصوصا الاطفال الذين خصهم بكلامه لأنهم، وفق مفهومه، هم المستقبل، مستقبل اي بلد.
ثانياً، اراد ايصال رسالة الى المجتمع اللبناني بأنه مجتمع قادر على النمو والنهوض مجددا ومواجهة الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية والمالية.
ثالثاً، حسب النص باللغة الايطالية والمترجم حرفياً، قال مخاطباً المسؤولين: “فليتفضلوا واذا ارادوا أرجوهم وضع اسس للسلام”، أي أن أسس السلام، وخصوصاً الإجتماعي مفقودة حالياً.
والمعروف عن البابا فرنسيس أنه قليل الكلام، ولا يفصّل او يشرح كثيراً، بل يفضل الكلام المقتضب المحمل بالمعاني والرسائل والذي لا يمكن فهمه الا من خلال الفكر اليسوعي العام الذي ينتهجه.
برغم تخصيصه لبنان في عظاته، لم يحرك وزير خارجية لبنان ساكناً لا في لبنان ولا عبر السفارة اللبنانية في الفاتيكان، للاستثمار في هذا الاحتضان الفاتيكاني الإستثنائي للبنان، وكأن هناك من لا يعي خطورة عدم الاتكاء على القوة المعنوية للفاتيكان لمساعدة لبنان
ولعل النقطة الجديرة بالاهتمام تتمثل بغياب الدبلوماسية اللبنانية عن التواصل سواء مع المحيط أو مع العواصم الفاعلة دولياً ولا سيما مع الكرسي الرسولي، ذلك أنه لم يسجل أي اتصال أو تواصل سواء من وزارة الخارجية أم من السفارة اللبنانية في الفاتيكان بالمسؤولين في الكرسي الرسولي، علما انها ليست المرة الاولى التي يتحدث فيها البابا فرنسيس عن اهمية لبنان خلال جائحة كورونا، لا بل تحدث مرتين خلال شهر واحد عن نموذج ومثال لبنان (في المرة الأولى، تحدث عن لبنان الارز وما يرمز اليه الارز من خلود ومن ابدية وصفة تقارب الله، خصوصا انه في العهد القديم الله هو من زرع ارز لبنان بيديه، والمرة الثانية عندما تكلم عن ديمومة لبنان، وهو الذي لم يتكلم بالاسم عن اية دولة في العالم في كل كلماته في خلال جائحة كورونا، حتى أن ايطاليا لم يذكرها في القداديس واستعاض عن ذلك بتوجيه رسالة الى اساقفة وكهنة ايطاليا، وخصّ لبنان بالاسم في عظاته اليومية التي تحدث فيها الى العالم بأسره).
وبرغم تخصيصه لبنان في عظاته، لم يحرك وزير خارجية لبنان ساكناً لا في لبنان ولا عبر السفارة اللبنانية في الفاتيكان، للاستثمار في هذا الاحتضان الفاتيكاني الإستثنائي للبنان، وكأن هناك من لا يعي خطورة عدم الاتكاء على القوة المعنوية للفاتيكان لمساعدة لبنان، علما ان البابا فرنسيس قام بمبادرة مهمة جداً لم تعط أية اهمية في لبنان، عندما خصص مبلغا من المال كمنح دراسية جامعية للشباب اللبناني، واصرّ السفير البابوي في لبنان المونسنيور جوزيف سبيتيري على ابقاء المبلغ في السفارة (وهذا يشكل تعبيراً واضحاً عن عدم ثقة الفاتيكان بالمؤسسات التربوية التي كان يوكل إليها توزيع هكذا نوع من المنح) وبالتالي، من يتقدم بطلب منحة، يجب أن يجري مقابلة شخصية مع السفير البابوي وهو الذي يقرر من يستحقها.
وجاءت هذه المبادرة، وفق النص الرسمي لبيان صادر عن الفاتيكان، على الشكل الآتي: “الاب الاقدس تابع في الاشهر الاخيرة باهتمام والدي وضع لبنان الحبيب الذي وصفه القديس يوحنا بولس الثاني “بلد الرسالة”، وحيث اصدر البابا بنديكتوس السادس عشر ارشاد ما بعد السينودوس (الكنيسة في الشرق الاوسط) ولبنان الذي شكل على الدوام مثال للتعايش والاخوة كما وصفته وثيقة الاخوة الانسانية وارادت تقديمه للعالم بأسره. ان بلد الارز في هذه الذكرى المئوية للبنان الكبير يمر بأزمة خطيرة تولّد المعاناة والفقر وتكاد تسرق الرجاء وخاصة من الاجيال الشابة، التي لا يوجد في حاضرها الا الصعوبات ولا يرون في مستقبلهم اي يقين، وفي هذا السياق، إزدادت صعوبة ضمان حصول ابناء الشعب اللبناني وبناته على التعليم الذي تؤمنه المؤسسات الكنسية، وكبادرة ملموسة تعبر عن قربه، قرر الاب الاقدس بواسطة امانة سر الكرسي الرسولي ومجمع الكنائس الشرقية ارسال مبلغ 200 الف دولار الى السفارة البابوية من اجل دعم 400 منحة دراسية، املا ان يحقق ذلك تحالفا من التضامن (اي ان المنح غير موجهة للمسيحيين فقط) ومتمنيا ان تتابع جميع الجهات الفاعلة الوطنية القيام بمسؤولية السعي وراء الصالح العام والتغلب على اي انقسام او مصلحة حزبية”.
هذا الكلام للبابا فرنسيس صدر في 14 ايار/مايو المنصرم، وبرغم مرور حوالي الشهرين، لم تقابله الجهات الرسمية اللبنانية بأية عبارة.