بعد أكثر من شهر على هذا التقرير، تصاعدت نبرة الوكالة الدولية ومديرها العام رافائيل غروسي، بالتزامن مع التوتر الإقليمي المتصاعد من جهة وتوقف المفاوضات الأميركية الإيرانية السرية التي كانت تستضيفها سلطنة عُمان من جهة ثانية. ففي تقرير أصدرته الوكالة في السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي، إتهمت إيران بتسريع عجلة تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% “خلال الأسابيع الماضية، بعدما كانت خفّضت وتيرة ذلك في منتصف العام 2023”.
تطرح التقارير المتلاحقة للوكالة في هذا التوقيت بالذات أسئلة حول المغزى من إصرار الوكالة الدولية على وضع ايران مرة أخرى تحت مظلة الإتهام أمام الرأي العام العالمي؟ وما هي أسباب تبني رافائيل غروسي خطاباً أكثر حدة تجاه طهران؟ وما هي العلاقة بين المواقف المُصرّح بها في فيينا وتوقف المفاوضات السرية في مسقط؟
هذه عينة من الأسئلة التي يُمكن طرحها على خلفية الخطاب شديد اللهجة الذي يتبناه رافائيل غروسي والذي بات يرقى إلى مستوى التهديد بإعادة ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي.
غروسي.. غروسي!
ليس خافياً أن المفاوضات السرية بين طهران وواشنطن في مسقط أدت إلى الإفراج عن الأرصدة الايرانية المجمدة في بنوك كوريا الجنوبية وإنجاح صفقة تبادل سجناء بين الطرفين، وكان مُقررا المضي في عدد من التفاهمات الجزئية بين الجانبين حتى موعد الإنتخابات الأميركية في خريف العام 2024، لكن مع إنطلاق عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، سعت كل من طهران وواشنطن إلى تجنب أي إنعكاسات لهذه العملية على الإتفاقيات والمفاوضات، بدليل مسارعة الولايات المتحدة إلى تبرئة إيران من الحدث الفلسطيني ـ الإسرائيلي ثم تأكيد إيران نفسها بلسان المرشد السيد علي خامنئي ووزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان عدم معرفتها المسبقة بما قرّرت حركة “حماس” القيام به، علماً أنها باركت ما حصل وأكدت دعمها للمقاومة الفلسطينية.
وبرغم ما شهدته جبهة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة على مدى مائة يوم، من “حرب مضبوطة”، إلا أن تطور الموقف في جبهة البحر الأحمر هو الذي أدى إلى توتر الأجواء بين طهران وواشنطن على خلفية إتهام إيران بالوقوف وراء عمليات استهداف السفن العابرة في مياه البحر الأحمر، ولكن التأثير الأعمق لتوتر العلاقات تمثل في تبني الوكالة الدولية للطاقة الذرية موقفاً أكثر تشدداً تجاه طهران.
واللافت للإنتباه أن إيران لم تأخذ على محمل الجد تصريحات رافائيل غروسي وآخرها المقابلة التي أجراها مع قناة “فرانس 24” وهدّد خلالها طهران بإمكانية فرض عقوبات جديدة عليها وإحالة ملفها مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي.
وفي هذا الصدد، قال غروسي إن لدى الوكالة الكثير من أوراق الضغط وعندما لا تثمر جهود المفتشين الدوليين عن نتائج مرضية في دولة ما يمكن اعتبار الأمر بمثابة عدم تعاون لتلك الدولة مع الوكالة الدولية وعدم التزام بتعهداتها الدولية وعندها يمكن إرجاع ملف تلك الدولة إلى مجلس الأمن الدولي.
“ليس مُستبعداً أن نشهد انطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين إيران وأميركا، وفق إطار جديد، كما أنه ليس مُستبعداً أن يتم ترسيم إطار جديد للتعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية”، على حد تعبير مصادر إيرانية
وفي مقابلة مع “فايننشال تايمز” في الثلاثين من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تحدث غروسي عن الحاجة إلى اختراع نظام جديد للمفاوضات مع إيران، وطالب القوى العالمية بفتح باب التفاوض مع طهران وأن لا يتم تجاهل ارتفاع مخزون إيران من اليورانيوم المخصب. غير أن النقطة الأهم في مقابلته هي الإشارة إلى مصطلح “الإتفاق النووي 2″، وذلك على خلفية فشل جهود إعادة إحياء الإتفاق النووي المبرم عام 2015.
ولا يحتاج اللجوء إلى المؤسسات الدولية إلى كبير عناء للإستنتاج أن الولايات المتحدة هي صاحبة النفوذ الأقوى في مجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذا الأمر من شأنه أن يُعيد ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن وصولاً إلى التلويح بإمكان إصدار قرارات أممية ضدها، الأمر الذي يفتح الباب أمام المتطرفين في أميركا لإستخدام كل أساليب الضغط التي تفوق العقوبات والحصار الإقتصادي ضد إيران بذريعة حيازتها أسلحة غير قانونية وقيامها بنشاطات نووية.
طهران.. والهدوء النسبي!
ولو افترضنا أن الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يستعد لدخول السباق الرئاسي في مطلع هذا العام لن يكون صاحب مصلحة في الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران أو اتباع سياسة أكثر تكلفة من العقوبات ضدها، عندها يُصبح السؤال: ما هي العوامل التي دفعت طهران إلى التخلي عن سياسة خفض التوتر مع واشنطن والبحث عن سياسة رفع مستوى المواجهة غير المباشرة معها؟
وقد علق المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني على موضوع تعليق المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأميركا في مسقط بالقول إن الجمهورية الاسلامية الإيرانية وفي إطار التزامها المسار الديبلوماسي وطاولة المفاوضات مستعدة للعودة والعمل بكافة تعهداتها المنصوص عليها في الإتفاق النووي شرط أن تعود جميع الدول المشاركة في الإتفاق لتحمل مسؤولياتها والعمل بتعهداتها بشكل كامل، وأكد كنعاني أن الأجواء ما تزال مؤاتية لعقد جولة جديدة من المفاوضات وإيران لا تعارض عودة أي من الأطراف إلى طاولة المفاوضات شرط أن تراعى الخطوط الحمراء التي وضعتها إيران لإنجاح المفاوضات.
هذه المواقف الإيرانية تشير إلى أن إيران ما زالت تسعى للحفاظ على سياسة الهدوء النسبي في علاقاتها الدولية لأنها تدرك أن التصعيد والإنخراط في الحرب الكلامية والإعلامية مع مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية سوف يؤدي إلى نقل اللعب إلى أرض الملعب الذي اختارته إسرائيل للتعامل مع إيران.
مفاوضات جديدة؟
ربما يمكن القول إنه ما من شيء أكثر أهمية بالنسبة لإيران من تطورات عملية “طوفان الأقصى” والرد على اغتيال العميد رضي الموسوي أحد كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، لكن الرد الإيراني اقتصر على الحديث عن أن هدف اسرائيل من عملية الإغتيال هذه هو جر طهران إلى تصرف يفتح باب المواجهة المباشرة بين إيران وأميركا الأمر الذي سوف يسمح لإسرائيل في الإصطياد بالماء العكر.
وتصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الإيرانية الجنرال رضا طلائي تعقيباً على عملية اغتيال الجنرال موسوي خير دليل على هذا حيث قال إن إسرائيل يجب أن تنتظر وسوف تدفع ثمن هذه العملية والثمن سوف يكون باهظاً ومؤلماً بالنسبة لهم ولكن الرد سوف يكون في الوقت والمكان المناسبين وسيحرم إسرائيل من تحقيق أهدافها من وراء تنفيذ هذا النوع من العمليات.
وبرغم جميع الصعوبات التي واجهتها إيران في المنطقة بعد “طوفان الأقصى” والحيز الكبير الذي شغلته هذه العملية سياسياً وديبلوماسياً، تسعى الحكومة الإيرانية إلى تجنب تعقيد ملفها النووي في المحافل الدولية وخاصة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فطهران تعتقد “أن أي تعقيد في هذا الملف سوف يمنح إسرائيل مساحة أكبر للمناورة وحياكة المؤامرات ضدها في المحافل الدولية، ولذلك ليس مُستبعداً أن نشهد انطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين إيران وأميركا، وفق إطار جديد، كما أنه ليس مُستبعداً أن يتم ترسيم إطار جديد للتعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية”، على حد تعبير مصادر إيرانية.