“روليت روسية” بين حفتر والسراج

هل يمكن النظر إلى ما يجري اليوم في ليبيا باعتباره صراعاً بين "علمانيين" بزعامة المشير خليفة حفتر، وبين "إخوانيين" بقيادة فايز السراج؟ الأول، وراءه مصر والإمارات والسعودية وفرنسا. والثاني، وراءه تركيا وقطر، وتؤيده الأمم المتحدة، وإلى حد ما "اتحاد المغرب العربي" (ليبيا عضوٌ مؤسسٌ فيه).

لا شك أنها نظرة سطحية وأحادية الجانب، مخدوع صاحبها أو منخدع بالعناوين والشعارات، إن لم نقل إنه غارق في الخطأ والخطيئة. فالطرفان المتصارعان يلهجان بلكنة واحدة، ويتشابهان، بل تجمعهما عدة قواسم مشتركة. أو كما يقال، هما وجهان لعملة واحدة، عملة مسكوكة بمعدن الاستماتة العنيدة للتربع على عرش ليبيا للاستيلاء على السلطة والتصرف بخيراتها الطبيعية، بأي ثمن وبأية وسيلة.

الاثنان معاً لم يترددا في جلب واستدعاء قوات أجنبية لقتال بعضهما البعض. أباح السراج لتركيا أن ترسي علمها وبوارجها وأن تنزل آلياتها العسكرية على أرصفة موانئ ليبية، وتحشيد مرتزقة وأفاقين داخل التراب الليبي، تم استقدام معظمهم من مقاتلي سوريا النازفة. أفسح السراج بذلك المجال أمام رجب طيب أردوغان الحالم بإعادة تركيب “بازل” امبراطورية عثمانية بائدة، محاولاً تحقيق معجزة خارقة ليست إلا للأنبياء، ببث الروح في “الرجل المريض” الذي قضى وزهقت روحه قبل مئات السنين.

أما اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فلم يحتج سوى لسيرته الانقلابية وإلى  نياشينه العسكرية، مع طموح بلا حدود لخلافة صديقه معمر القذافي، هذا الأخير الذي قال عنه دونالد ترامب مرة: “إن العالم بوجود صدام والقذافي كان أفضل”. ما لبث أن حاز  الساكن  الجديد في البيت الأبيض على لقب “قذافي الولايات المتحدة الأميركية”، كما وصفه الكاتب والصحافي البريطاني روبرت فيسك في مقال له بصحيفة “ذا إندبندنت” البريطانية: “إن ترامب باتباعه لأهوائه وعدم الإنصات للآراء الأخرى، يقدّم نفسه للعالم على أنه نسخة أمريكية من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان منفصلاً عن الواقع بشكل كامل”.

لقد حصل حفتر على مساندة قوات جوية فرنسية وسعودية وروسية، في “زحفه الأخضر على اليابس” صوب العاصمة طرابلس. فأنقذته تلك القوات من هزائم كانت محتملة، وهو يقاتل بمعدات عسكرية صدئة، من مخلفات “أبو سيف الإسلام”، ولم تكن لديه سوى بضع طائرات هجومية، ومثلها متهالكة خاصة بنقل الجنود. في المقابل، حصّلت “حكومة الوفاق” قوة جوية ومعدات عسكرية أكثر تطوراً. لكن نزول الدعم العسكري الأجنبي، إلى الجبهتين، غيَّر من معادلة الصراع، وزاد من تعقيدها، فظلت ليبيا أسيرة خطوط حمراء من هنا وهناك ومبارزة عسكرية بلا حسم لأي طرف من المتقاتلين. بإختصار  تحولت ليبيا من مجرد ساحة عسكرية إلى ساحات حرب حول النفط والمال والأرض واستراتيجيات المجال.

وإذا كان الاتهام يوجه إلى حفتر على أساس أنه “أميركي مُتأسْرِل”، فإن فايز السراج يوصف بـأنه “دمية عثمانية”، إذ أن والده من كتائب جنود خلافة “الباب العالي” ومن وزراء العهد البائد في ليبيا الملكية. كما أن عرّابه أردوغان هو من يغطي خصاص إسرائيل من الطاقة (الغاز والبترول)، ويتبادل معها السفراء والقناصل والتهاني في المناسبات. أما حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل، فيفصح عن أن تركيا أردوغان على رأس الدول الإسلامية، بما يتجاوز الـخمسة مليارات دولار. كما أن الخطوط الجوية التركية تعد الناقل الأول للمسافرين الإسرائيليين حول العالم. وكما قال المتنبي:

“وَسِوى الروم خَلفَ ظَهرِكَ رومٌ / فَعَلى أَيِّ جانِبَيكَ تَميلُ”.

وإذا كان السراج يعمل على مساعدة حلفائه في رسم خريطة جديدة لمشروع “شمال إفريقيا جديد”، فإن حفتر لم يقصّر، من جانبه، في تأمين وصول فرنسا إلى آبار الغاز والبترول الليبي. نعم فرنسا التي كان مصرع القذافي على يد رئيسها نيكولا ساركوزي. ناهيك عن تسلم القائد السابق للكتائب الليبية في تشاد، عربون دعم من بنيامين ناتنياهو، مقابل تمكين إسرائيل من مد نفوذها إلى منطقة شاسعة تضمن من خلالها الهيمنة على الجغرافية العربية الممتدة، بعد أن رسم الخبراء الإسرائليون سيناريوهات مريحة، تؤكد أن الطريق الآمن لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”، يمر عبر الصحراء الليبية..

***

هي الصحراء الليبية نفسها التي امتلأ بطنها بآلاف الجثت في الحرب العالمية الثانية، ومعظمهم من جنود بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا وألمانيا. تشهد عليم قبور أغلبها بلا أسماء بمقبرة “جسر الفرسان” في غرب طبرق.

ومثلما أوقف الجنرال “ثلج” الهجوم النازي على روسيا في زمن جوزف ستالين، أرغمت رمال الصحراء وعواصفها المفترسة العمياء جيش أدولف هتلر على التراجع والانسحاب. فبعدما حقق الجنرال الألماني إرفين روميل الملقب بـ”ثعلب الصحراء” وكان من أمهر القادة في حروب الصحاري، عدة انتصارات رفعته إلى رتبة مشير، هُزِمَ على يد الجنرال البريطاني برنارد مونتغمري في معركة “العلمين” بمصر (صيف 1942). برغم إمتثاله لأوامر رئيسه أدولف هتلر بالقتال حتى الموت، لكن رمال الصحراء الليبية قهرته في النهاية. وقتذاك، كتب رومل في يومياته: لقد “سالت أنهار من الدماء في هذه المناطق البائسة التي لا يعيرها أفقر العرب اهتماما في الأوقات العادية”. (كتاب: سادة المعارك- تيري برايتون).

إقرأ على موقع 180  حوار ماكرون نصرالله.. العودة إلى الحريري؟

****

 هنا تاه واختفى ياسر عرفات في نيسان/أبريل عام1992، لما سقطت طائرته الخاصة، القديمة والروسية الصنع. في مساء السابع من نيسان/أبريل، فقد برج المراقبة في مطار الكفرة الليبي الاتصال مع الطائرة التي تقل أبو عمار. وكان السبب هبوب عواصف رملية لم تشهد الصحراء الليبية مثيلا لها منذ عقود وسنوات طويلة.

يقال إنه تم إنقاذ عرفات بواسطة طائرات فرنسية ومصرية وليبية، استطاعت بعد ساعات تحديد مكانه، حيث وجدت الطائرة منشطرة إلى قسمين وقد مات طاقمها، ونجا أبو عمار وحارسه الشخصي. معجزة لن تتكرر دائما. ظل عرفات وحارسه مع مرافقين اثنين ممن نجوا بإعجوبة، في ليل الصحراء الليبية حوالي ست عشرة ساعة مفقودين، وقد عمدوا إلى إشعال النار على أمل أن يراهم الناس، برغم أن الرؤية كانت مستحيلة. والغريب أن عواء الذئاب أخذ يقترب منهم، ولهذا بدأوا يخرجون ملابسهم  ويشعلون فيها النار، لأن الذئاب لا تقترب من النار. كان أبو عمار يستعد لإطلاق النار لقتل الذئاب، لكن حارسه أفهمه أن عمله لن يزيد الذئاب إلا شراسة ويستدعي مزيدا من أعدادها لافتراسهم.

لعل هذا ما يحدث اليوم في ليبيا التي يسقط في صحرائها المخيفة المتهافتون للسيطرة عليها، لكنهم  أخطأوا لما أشهروا أسلحتهم وأطلقوا النار، فازدادت شراسة الذئاب من الدول الطامعة، وهي اليوم تنهش الليبيين وتستعد لافتراسهم والاستيلاء على خيرات البلد، ولن تسخى إلا بالفتات تلقمه لمن بقي من أهل البلد الأصليين.

هي نفس الصحراء التي جاء منها معمر القذافي وافتتن بأسرارها، فنقش اسمه وأفكاره على حجر ودفن في رمالها، حتى تجدها الأجيال القادمة بعد انهيار العالم وانبعاثه من جديد.

***

كأننا أمام مباراة كرة قدم، ما أن يفرح هذا الفريق بتسجيل هدف التفوق، حتى يسجل الفريق الخصم هدف التعادل، لتستقر المباراة في لا غالب ولا مغلوب. ويطول زمن المباراة ولا نعرف ما إذا دخلت مباراة النهاية أشواطها الإضافية، أم أنها ستنتقل مباشرة إلى ضربات الجزاء الفاصلة والحاسمة. لكن الأكيد أن ليبيا هي المهزومة وشعبها هو المغلوب والمقتول.

الحقيقة تقول شيئا أبعد ما يكون عن قواعد الرياضة المرتبطة بالسلم والسلام بين الشعوب. إننا أمام مقامرين شرسين في لعبة رهان قاتلة، هي أخطر من مغامرة “الروليت” الروسية. على صدغ كل مراهن مسدس محشو برصاصة فريدة، وبعد صافرة “الحكم” يتم الضغط على زناد المسدسين في نفس اللحظة والآن. سيكون انتحارا إراديا. إذ أن المراهنة تسفر عن موت واحد، ولكن من يضمن عدم موت الاثنين معا. هذا غالبا ما يخشى أن تؤول إليه نتيجة الصراع المستعر والمجنون في ليبيا ما بعد القذافي.

في الصحراء الليبية تم تصوير عدة أفلام، لكن أشهرها فيلم “الرسالة” وفيلم “أسد الصحراء” حول سيرة البطل عمر المختار، وهما للمخرج الأميركي من أصل سوري مصطفى العقاد. في كلا العملين، تم تصوير حروب طاحنة، كأنما ليبيا خلقت للحروب قديما وحديثا.

في “الرسالة” انتصر المسلمون ودينهم الجديد بالسيوف والرماح والنبال. وفي “أسد الصحراء” هزم المجاهدون ببنادقهم البسيطة أمام قذائف ومدرعات الجيش الفاشي، وشنق العدو الإيطالي قائدهم عمر المختار، لكن الحرب سجال، تتواصل معاركها بين كر وفر.

“وتلك الأيام نداولها بين الناس لعلهم يتفكرون” (قرآن).

هل سيفوز فايز السراج ويضع سرجه على صهوة حكم البلد، أم سيكون خليفة القذافي هو خليفة حفتر؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  إردوغان الخائف.. يُرهق الإقتصاد التركي بـ"المَكرُمات" الإنتخابية