في 26 يوليو/ تموز من العام 1956، اعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تأميم قناة السويس، الشريان المائي الحيوي بين البحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر والذي تمر عبره امدادات النفط الخليجي الى العالم وكانت الشركات المشغلة لهذا الشريان مملوكة لمواطنين انكليز وفرنسيين، وبطبيعة الحال، فقد اثارت خطوة عبد الناصر غضب الدولتين الإنكليزية والفرنسية، فيما رأت “اسرائيل” فيه فرصتها لضرب طموحات عبد الناصر العروبية من جهة وانهاء تهديده لها بعدم استخدام القناة لمرور سفنها من جهة اخرى.
يضيف بيرغمان، عند هذه النقطة تلاقت المصالح بين “اسرائيل” وكل من فرنسا وبريطانيا، وقد رأى فيها المدير العام الشاب والمليء بالحيوية لوزارة الدفاع “الاسرائيلية” في ذلك الحين شيمون بيريز الفرصة لوضع خطة حرب طموحة على مصر تبدأ بشن هجوم على شبه جزيرة سيناء يكون مبرراً لتدخل فرنسي ـ إنكليزي بذريعة حماية الممر المائي، وباشر فورا تنفيذ خطته بالتواصل الاستخباراتي مع البلدين الاوروبيين اللذين تعهدا له بتأمين غطاء جوي للقوات “الاسرائيلية” المهاجمة.
وقبل وقت قصير من اليوم المقرر للهجوم “الاسرائيلي”، يقول بيرغمان أن جهاز الاستخبارات “امان” علم ان رئيس اركان الجيش المصري المشير عبد الحكيم عامر سيغادر القاهرة على رأس وفد من كبار القادة العسكريين المصريين الى دمشق، وهذا الأمر شكّل فرصة كبيرة لم تكن منتظرة عند “الاسرائيليين”، فبضربة واحدة بالامكان القضاء تقريبا على كل القيادة العسكرية المصرية، وحظيت هذه الخطة بتأييد رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون ورئيس الاركان موشيه دايان. وهكذا، بدأت القوات الجوية “الاسرائيلية” سلسلة تدريبات ليلية مكثفة لاعتراض الطائرة المصرية التي تقل الوفد لاسقاطها بطريقة توحي بانها سقطت جراء عطل فني كي لا تتحمل “اسرائيل” مسؤولية الهجوم.
وقبل ايام قليلة من الموعد المقرر لزيارة عامر الى دمشق، كلّف جهاز “امان” وحدة من سلاح الاشارة لديه تحديد المسار الجوي لرحلة الوفد المصري في طائرتين من نوع اليوشين-14 (تحمل هذه الوحدة اليوم اسم “الوحدة 8200”). على الفور حدد عشرون شابا لا تتجاوز اعمارهم الخامسة والعشرين من فنيي هذه الوحدة الاشارة اللاسلكية التي ستستخدمها الطائرات المصرية ورسموا خطة عزلها وتناوبوا على ليلا نهارا على مراقبة هذه الاشارة في مقر قيادة وحدتهم في مستوطنة “رامات هاشاروم” شمال تل ابيب، ووضعت القيادة العسكرية “الاسرائيلية” ضغوطا هائلة عليهم لان القوات البرية كانت على اهبة الاستعداد للبدء بهجومها على شبه جزيرة سيناء المقرر في 29 اكتوبر/تشرين الاول ما ان تسقط الطائرتان، حيث سيصبح الجيش المصري تقريبا بلا قيادة عسكرية. وكان الوقت يمر ببطء قاتل عندما سمع عناصر وحدة التنصت “الاسرائيلية” اشارة طائرتي الاليوشن بالانطلاق في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم 28 اكتوبر/تشرين الاول. وتولى قيادة هذه العملية الحساسة ضابط سلاح الجو “شاتو بيرغر”، وهو احد اكفأ ضباط هذا السلاح. في الساعة الثامنة مساء علم سلاح الاشارة “الاسرائيلية” ان طائرة واحدة غادرت المطار واعرب عناصر السلاح عن اعتقادهم ان كل اعضاء الوفد المصري على متن هذه الطائرة فصدر الامر بالمباشرة بتنفيذ العملية.
الاستخبارات الاسرائيلية كانت قد أبلغت دايان ايضا ان المشير عامر كان قد قرر في اللحظات الاخيرة ان ينتظر الطائرة الثانية للمغادرة فلم يكن على متن الطائرة التي قصفت، وهذا ما اعلمه دايان لـ”شاتو”، فقال له الاخير انه على الاستعداد للعودة والتزود بالوقود لضرب الطائرة الثانية ولكن دايان رفض الفكرة
ما ان صدر القرار بالبدء بتنفيذ العملية، حتى تسلق الضابط “شاتو” طائرته من نوع “ميتيور ام كا 13” وانطلق في الجو مع ملاحه “شيفي بروش”. كان الظلام حالكا في تلك الليلة، ارتفع “شاتو” بطائرته الى علو عشرة الاف قدم وثبت في موقعه وما هي الا دقائق حتى اعطاه الرادار اشارة عن اقتراب طائرة منه. اقترب “شاتو” من الطائرة الى درجة انه كان يرى من خلال نوافذها عناصر الوفد المصري بلباسهم العسكري يتجولون بين المقاعد، فأرسل الى الارض تأكيده ان هذه الطائرة هي التي تم التخطيط لاستهدافها وطلب الاذن بضربها، وما ان اتاه الرد بالموافقة، حتى امطر مقدمة طائرة الاليوشين من رشاشات طائرته الاربعة من عيار عشرين ميلليمتر، فاعمت النيران التي اندلعت فيها على الفور عيونه لا سيما عندما انفجرت الطائرة المصرية وبدأت قطعها تهوي في البحر، فصرخ عبر جهاز اللاسلكي “نلت منه”. فجاءه السؤال من البر هل تؤكد تحطم الطائرة وسقوطها فاجاب “بالتأكيد”. فتلقى “شاتو” تهنئة مباشرة من رئيس الاركان موشيه دايان بعد ان كان قائد سلاح الجو “دان تولوفسكي” قد نقل اليه الخبر، ولكن الاستخبارات الاسرائيلية كانت قد أبلغت دايان ايضا ان المشير عامر كان قد قرر في اللحظات الاخيرة ان ينتظر الطائرة الثانية للمغادرة فلم يكن على متن الطائرة التي قصفت، وهذا ما اعلمه دايان لـ”شاتو”، فقال له الاخير انه على الاستعداد للعودة والتزود بالوقود لضرب الطائرة الثانية ولكن دايان رفض الفكرة، وقال ان ذلك سيشير بشكل واضح الى دورنا في العملية وسيكشف عميلنا في الجانب المصري، لذلك فلندع عبد الحكيم عامر حياً.
يقول بيرغمان، لا شك ان هذه العملية كانت احد اكبر انجازات الاستخبارات الجوية وقد اطلق عليها الذين شاركوا فيها اسم “عملية اسقاط هيئة الاركان المصرية”، ولا شك ايضا ان الفوضى التي احدثتها هذه العملية في القيادة المصرية شكلت عاملا حاسما في ما اسماه “الاسرائيليون” النصر في الهجوم البري الذي انطلق في اليوم التالي. ويضيف بيرغمان، بمعزل عما اذا كان تأثير هذه العملية كبيرا كما يزعم هؤلاء، فان جيش الدفاع شق طريقه بسهولة في اليوم التالي مجتاحا قوات الجيش المصري ومظهرا للعالم ان “الدولة اليهودية” قد اصبحت قوة مقاتلة لا يستهان بها في المنطقة وجعل بن غوريون المغمور بالسعادة يرسل الى الضباط والجنود الذي شاركوا في العملية رسالة يتحدث فيها عن “مملكة اسرائيل الثالثة”.
من الواضح ان بيرغمان يهمش دور المملكة المتحدة وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ويظهر وكأن الحرب في تلك الايام كانت فقط بدور اسرائيلي ولكن الحقيقة انه بغطاء عسكري جوي فرنسي وإنكليزي ضخم هو الاكبر بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الجيش “الاسرائيلي” هجومه البري تماما في الموعد المحدد فتقدمت قواته لتجتاح بسهولة قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، وعندما ثبت “الاسرائيليون” احتلالهم للقطاع ارسل “ريهافيا فيردي” البعض من عناصر الوحدة 504 لتفتيش المبنى الذي كانت تتخذه الاستخبارات المصرية مقرا لها حيث قتل قبل اشهر ضابط الاستخبارات مصطفى حافظ وعثروا هناك على كنز من المعلومات لا يقدر بثمن. اذ وجدوا ملفات فات رجال الاستخبارات تلفها قبل رحيلهم على عجل وكانت هذه الملفات تتضمن اسماء كل الفلسطينيين الذي كانوا يعملون تحت امرة حافظ لخمس سنوات قبل غزو سيناء. وكانت هذه الملفات المصرية بمثابة لائحة اغتيال بالنسبة لفيردي الذي طلب موافقة دايان للبدء بحملة اغتيال واسعة لهؤلاء الفلسطينيين، وبدوره، حصل دايان على موافقة بن غوريون على اطلاق حملة الاغتيالات، فاصدر فيردي امره لقائد وحدة المتفجرات ناتان روتبيرغ ورجاله بالبدء بالتنفيذ.
يروي بيرغمان تفاصيل عملية تشبه افلام جيمس بوند نفذها فريق كبير من الاستخبارات “الاسرائيلية” بقيادة رئيسها ايسر هاريل، وبامر من بن غوريون شخصيا، في احد شوارع بيونس ايرس حيث جرى خطف كليمانت وتهريبه بطائرة “عال” الى تل ابيب حيث حوكم واعدم
يقول بيرغمان: لقد تمكن رجال روتبيرغ في الفترة الممتدة من نوفمبر/تشرين الثاني 1957 الى مارس/اذار 1958 (اي خلال خمسة اشهر)، من قتل ثلاثين فدائيا فلسطينيا من الذين وردت اسماؤهم في ملفات المخابرات المصرية في قطاع غزة، وقد استخدموا في عمليات الاغتيال كل ما يمكن ان يخطر على البال من سلال الخضار والفواكه الى ولاعات السجائر وقطع المفروشات. وينقل بيرغمان عن فيردي قوله تعليقاً على عمليات القتل المتعمد هذه “لقد شكلت انتصارا تكتيا لنا ولكنه لم يكن انتصارا استراتيجيا لان كل من جرى قتله استبدل بسرعة وبسهولة”.
ما بدا انه انتصار للمؤامرة السرية “الاسرائيلية” الانكليزية الفرنسية، تحول الى كارثة دبلوماسية عالمية، فقد اجبرت الولايات المتحدة الامريكية “اسرائيل” على الانسحاب من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء فيما انكفأ الفرنسيون والانكليز عن المنطقة وتقبلوا واقع خسارتهم لقناة السويس. وادت هذه النتيجة الى اظهار عبد الناصر منتصرا على قوتين اوروبيتين كبيرتين وحولته الى بطل يقود العالم العربي، علما ان عبد الناصر وافق على السماح للسفن الاسرائيلية بعبور القناة وبوقف دعمه لعمليات الفدائيين الفلسطينيين في قطاع غزة، على حد تعبير بيرغمان.
وللدلالة على ما وصلت اليه الاستخبارات “الاسرائيلية” من كفاءة، يقول بيرغمان انه بعد وفاة زعيم الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين وتولي خلفه نيكيتا خروتشوف منصب الامين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، القى الاخير كلمة سرية في المؤتمر العشرين للحزب في موسكو تحدث فيها بصورة واضحة عن الجرائم التي ارتكبها سلفه، وقد جهد عملاء كل اجهزة الاستخبارات السرية الغربية للحصول على النص الحرفي للكلمة وفشلوا، غير ان عملاء الاستخبارات “الاسرائيلية” نجحوا في الحصول عليها وامر رئيسها “ايسر هاريل” بارسال نسخة من الكلمة الى رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية “سي اي ايه” الان دالاس الذي قدمها بدوره الى الرئيس الاميركي دوايت ايزنهاور الذي امر بدوره بتسريب الكلمة الى صحيفة “نيويورك تايمز” ما اثار عاصفة سياسية عالمية واثار احراجا كبيرا للاتحاد السوفياتي. وشكلت هذه العملية إحدى مقدمات ولادة تعاون سري بين اجهزة الاستخبارات السرية الامريكية و”الاسرائيلية”. وقاد هذا التعاون من الجانب الامريكي رئيس جهاز مكافحة التجسس في “السي اي ايه” جيمس جيسوس انكلتون الذي كان ممسوسا بهاجس وجود جاسوس سوفياتي تحت كل سرير في بلاده، بحسب ما يقول بيرغمان، والذي كان ايضا من اكثر الداعمين لدولة “اسرائيل”. وعبر قناة التعاون المتمثلة بهاريل انكلتون، حصلت “السي اي ايه” على كمية كبيرة من المعلومات الاستخبارية في الشرق الاوسط ولا تزال تحصل عليها حتى يومنا هذا.
ويقول بيرغمان في كتابه ان الراحة النسبية من شن الحروب التي قدمتها “حملة سيناء” ساهمت الى حد كبير في اعادة اطلاق الاستخبارات الاسرائيلية حملتها ضد المسؤولين النازيين في العالم وكان من نتيجتها في العام 1960 رصد ادولف ايخمان وهو احد كبار قادة جهاز “اس اس” الاستخباري النازي ومطاردته في العاصمة الارجنتينية بيونس ايرس حيث كان يعيش منذ عشرة اعوام تحت اسم ريكاردو كليمانت.
ويروي بيرغمان تفاصيل عملية تشبه افلام جيمس بوند نفذها فريق كبير من الاستخبارات “الاسرائيلية” بقيادة رئيسها ايسر هاريل، وبامر من بن غوريون شخصيا، في احد شوارع بيونس ايرس حيث جرى خطف كليمانت وتهريبه بطائرة “عال” الى تل ابيب حيث حوكم واعدم.
(*) في الحلقة المقبلة، كيف حاربت إسرائيل مشروع تطوير الصواريخ المصرية؟