قد يكون السؤال اللبناني الأول المطروح على جمال عبد الناصر هل كان يحب لبنان؟ هذا السؤال يجيب عنه الرئيس شارل حلو في حوار بثته قناة التلفزة اللبنانية (TL) الرسمية (4 ـ 6 ـ1993) وأجراه معه استاذ الصحافة اللبنانية غسان تويني. في الحوار يقول حلو “يا سيدي حُكي الكثير عن عبد الناصر وعن صفاته وعن نواقصه، بالنسبة لي وبالنسبة للبنان، اعتقادي الكلي أن الرجل أحبنا، وحاول مساعدتنا في الأوقات التي كان بإمكانه المساعدة فيها”.
هذه الإجابة القاطعة التي ذهب إليها الرئيس اللبناني الراحل، الذي عايش ورافق أبرز مفاصل السياسة الناصرية حيال لبنان منذ كان مقرباً من سلفه اللواء فؤاد شهاب ثم بعدما خلفه في الرئاسة اللبنانية الأولى، تتقاطع مع ما يقوله قطب الصحافة المصرية والعربية محمد حسنين هيكل في سلسلة حوارات فائقة الأهمية بثرائها وشموليتها، كان أجراها معه الروائي المصري يوسف القعيد، وأصدرتها “دار الشروق” القاهرية عام 2003 بعنوان “عبد الناصر والمثقفون والثقافة”. يقول هيكل عن الزعيم المصري الراحل:
“كان جمال عبد الناصر يعتبر أن هناك مركزين للحيوية الفكرية والفنية في الوطن العربي، القاهرة وبيروت، كان عبد الناصر يعتقد أن الشام تصب في بيروت في النهاية، وأن الأردن والخليج تصب في بيروت، وأن شمال افريقيا ووسط افريقيا وجنوبها والسودان تصب في القاهرة، وأن تفاعل وتلاقي العاصمتين مع بعضهما يمكن أن يحدث المعجزة”.
نظر السرّاج إلى الرئيس شهاب وقال له: لقد وصل سيادة الرئيس عبد الناصر، ألا تود أن تستقبله يا فخامة الرئيس؟ فأجابه شهاب: لقد حطت طوافة الرئيس عبد الناصر على أرضه، كيف لي أن أستقبله في بلده؟ ثم لا تنسَ أن سيادة الرئيس قبل وصوله إلى السلطة كان عقيداً أما أنا فلواء، وهكذا كان الإستقبال على الحدود بين البلدين
هذه الشهادة لبيروت من جانب الشخصية الأكثر أهمية في التاريخ العربي الحديث ترد على الآتي:
ـ أ: تشويهات وتشويشات غلاة اليمين اللبناني للسياسة الناصرية في لبنان واتهامهم لعبد الناصر بأنه يريد استلحاق لبنان بمصر.
ـ تشويهات وتنقيصات غلاة “الثوريين” من يساريين وقوميين عرب وإسلاميين للدور الريادي لبيروت ومحوريتها الثنائية مع القاهرة ـ دون غيرهما ـ في استنهاض العالم العربي.
وبحسب الراحل محسن إبراهيم، الأمين العام لـ”منظمة العمل الشيوعي” في لبنان، وكما ينقل عنه الزميل غسان شربل في مقالة (8 ـ 6 ـ 2020) نشرتها صحيفة “الشرق الأوسط” أن عبد الناصر الذي ربطته علاقة مودة مع محسن ابراهيم “كان مهتماً بصورته في الشارع البيروتي”، وقال إبراهيم إن الزعيم المصري “كان يسأله عن التفاصيل اللبنانية بعد أن يستهل الحديث بالإستفسار عن أحوال كمال جنبلاط، ويعرّج على صحيفة النهار اللبنانية ومقالات رئيس تحريرها ميشال أبوجودة”، واستنتج إبراهيم أن عبد الناصر “كان يعتبر أن بيروت تعطي ما يشبه الشرعية للزعامة العربية، ولهذا لازم حلم انتزاع الإعتراف من بيروت كل الذين أصيبوا بعقدة عبد الناصر”.
وهذه النظرة الخاصة للبنان من قبل عبد الناصر كان أوجزها الزعيم الوطني كمال جنبلاط في مقالة (14 ـ 10 ـ 1967) نشرها في صحيفة “الأنباء” الناطقة بلسان “الحزب التقدمي الإشتراكي” قال فيها “إن الرئيس عبد الناصر عُني كثيرا بدراسة الأنظمة الاشتراكية واسكندنافيا، ولم نستغرب نظرته الواقعية عندما أشار الى ضرورة اعتماد لبنان سياسة اقتصادية خاصة وواقعية على غرار أسوج ونروج وسواها من البلدان المتقدمة، حيث لكل بلد وفق قول الرئيس عبد الناصر، ظروف من المكان والزمان خاصة، وهكذا بالنسبة للبنان حيث لا تنطبق الأسس التي تبنّتها التجربة الناصرية الاشتراكية في الجمهورية العربية المتحدة”.
الخصوصية اللبنانية التي احترمها عبد الناصر ورفع شأنها عالياً، أكثر ما تمثلت عملياً في “لقاء الخيمة” الشهير مع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب، إذ التقى القطبان في الحيز الحدودي اللبناني ـ السوري؛ نصف الخيمة في لبنان ونصفها الآخر في سوريا (الإقليم الشرقي للجمهورية العربية المتحدة) والخطوات والأمتار التي قطعها شهاب بإتجاه عبد الناصر هي نفسها التي قطعها عبد الناصر باتجاه شهاب، ويصف وزير الخارجية اللبنانية فؤاد بطرس لقاء ـ القمة ذاك في “المذكرات” بقوله:
“انتهج الرئيس فؤاد شهاب سياسة عربية، قامت على التفاهم مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر على قاعدة تناغم لبنان مع سياسة مصر العربية مقابل عدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وقد كرست هذه القاعدة القمة الوحيدة التي عقدها الرئيسان اللبناني والمصري في اجتماع الخيمة الشهير على الحدود اللبنانية – السورية في الخامس والعشرين من آذار/مارس 1959”.
ويستطرد فؤاد بطرس قائلاً “علمتُ في ما بعد أن الرئيس شهاب هو صاحب فكرة الإجتماع، يومذاك وصل الرئيس اللبناني إلى منطقة الحدود قبل نظيره المصري وكان في استقباله رئيس المخابرات السورية عبدالحميد السرّاج، بعد نحو عشر دقائق حطت الطوافة التي تقل الرئيس عبد الناصر على بعد أربعين أو خمسين مترا داخل الأراضي السورية، فنظر السرّاج إلى الرئيس شهاب وقال له: لقد وصل سيادة الرئيس عبد الناصر، ألا تود أن تستقبله يا فخامة الرئيس؟ فأجابه شهاب: لقد حطت طوافة الرئيس عبد الناصر على أرضه، كيف لي أن أستقبله في بلده؟ ثم لا تنسَ أن سيادة الرئيس قبل وصوله إلى السلطة كان عقيداً أما أنا فلواء، وهكذا كان الإستقبال على الحدود بين البلدين، والإجتماع في خيمة نصفها في لبنان ونصفها في الجمهورية العربية المتحدة”.
يتضح من شهادة فؤاد بطرس حرص عبد الناصر على استقرار لبنان وإبعاده عن الإضطرابات الداخلية والقلاقل الأمنية، ويتوازى ذلك مع تمسك الرئيس المصري الراحل بدور لبنان السياسي كحلقة اتصال ووئام بين الأقطار العربية
ويضيف بطرس “أرسى اجتماع الخيمة معادلة ثابتة شكلت صمّام أمان للإستقرار في لبنان: احترام سيادة لبنان من جانب القطب العربي الأبرز مقابل تفاهم على أن لا تتعارض السياسة الخارجية اللبنانية مع السياسة العربية والدولية التي تنتهجها الجمهورية العربية المتحدة، ولكن من غير أن يفرض ذلك على لبنان التخلي عن صداقاته مع العالم الخارجي، وقيل لي إن الرئيس عبد الناصر وعد نظيره اللبناني ـ فؤاد شهاب ـ بأن يسعى مع الجماعة التي تتعاطف معه كي لا تخلق أية مشاكل للحُكم والسلطة ” في لبنان.
يتضح من شهادة فؤاد بطرس حرص عبد الناصر على استقرار لبنان وإبعاده عن الإضطرابات الداخلية والقلاقل الأمنية، ويتوازى ذلك مع تمسك الرئيس المصري الراحل بدور لبنان السياسي كحلقة اتصال ووئام بين الأقطار العربية، كما يرى شارل حلو في مذكراته “حياة في ذكريات” إذ يقول:
“في القمة العربية في الرباط 1969، حصل أن عبد الناصر انسحب ثم عاد، وهذا مسألة تحتاج إلى شرح، لكن الخلاف بقي لوقت من الأوقات، ووصلنا إلى نهاية المؤتمر وأردنا أن نرفع الجلسات، وكنا ننتظر في القاعة الكبيرة لنُصدر البيان الأخير، نهض عبد الناصر وقال: ما رأيكم لو تركنا للرئيس حلو أن يلخص الموضوع ويعرض ما توصلنا إليه؟ هذا ما حصل، يعني أنا عرضت بإسم كل العرب، واعتُبرت همزة الوصل أو المعبّرعن رأي جميع العرب، وكان جميعهم راض عن هذا التعبير”.
وفي كتابه الآخر “مذكراتي 1964 ـ 1965” يروي الرئيس شارل حلو أجواء القمة العربية المنعقدة في الإسكندرية عام 1964 وما تخللها من مزايدات الرؤساء العرب “التقدميين” على لبنان في حال نشبت حرب محتملة مع اسرائيل، ومن ضمنهم الرئيس العراقي عبد السلام عارف الذي استخف واستهزأ بقول الرئيس حلو بأن إدخال قوات عربية إلى لبنان يحتاج موافقة مجلس النواب اللبناني فقال “مجلسكم هذا قد لا يكون أكثر من عذر أو ذريعة” ، إلا أن عبد الناصر اقترح “أن نتبنى موقف أخينا الرئيس اللبناني، فقبيل المعركة سيلجأ القائد الأعلى ـ للقوات العربية الموحدة ـ إلى نقل الجيوش من دولة إلى أخرى ضمن احترام الأسس الدستورية للدولة المعنية، وهذا ليس شواذاً لبنانياً، بل هو قاعدة عامة، فلجميعنا نُظم يجب احترامها”.
والمزايدات والمبالغات التي كان يتبارى في سباقها الرؤساء العرب “التقدميون”، كانت حطت رحالها في مؤتمرعربي في ليبيا على ما يروي شارل حلو أيضا “وأقام القذافي حفلة كبيرة ليستفيد منها ويعرض أموره وطلباته ومساعداته، ولم تتم دعوتنا أنا ورشيد كرامي، وطلب مني رشيد أن أرافقه إلى عند عبد الناصر وقلنا له: لم توجهوا دعوة لنا ونحن نتساءل لماذا؟ أجاب عبد الناصر: سوف أقول لكم لماذا، لأن في الإجتماع الكثير من الإشتراكيين وسوف يغرقون في المزايدات، ولا أريد تعريضكم لذلك، وإذا كنتم تريدون الحضور فأهلا وسهلا”.
يُعلّق شارل حلو على ذلك قائلاً “هذا موقف عبد الناصر وهذه حكمة كبيرة تكررت في مناسبات عديدة”، حيث كان عبد الناصر دائم الوقوف إلى جانب لبنان وفق حلو “ففي عام 1967 لم يدخل لبنان الحرب، وهناك من صار يقول إن بعض الدول العربية ستأخذ علينا أننا لم نقاتل، من الذي دافع عن موقفنا؟ عبد الناصر ولم يحب أن يطعن بنا أحد”.
عن تلك الحكمة يتحدث الرئيس أمين الجميل في كتابه “الرهان الكبير” فيقول “النزاعات في لبنان لم تكن تنفجر إلا في الأزمات الجامحة التي تعصف ببلدان الشرق الأوسط، وأول نزاع عام 1958 على إثر أزمة السويس وتصاعد الحركة الناصرية التي أدت إلى قيام الجمهورية العربية المتحدة، فالحيوية التي حركها هذا الإتحاد انعكست نتائجها على الوضع في لبنان، وقبل بداية صيف 1958 وقع لبنان فريسة نزاع بين مؤيدي الناصرية الصاعدة والمتمسكين بقوميتهم اللبنانية، ولكن حكمة الرئيس عبد الناصر وانحسار قضية الشرق الأوسط وواقعية اللبنانيين أتاحت العودة إلى الوئام ورص الصفوف”.
ويشيد الرئيس الجميل بواقعية عبد الناصر وإقراره بالخصوصية اللبنانية، فقد اعترف الرئيس عبد الناصر بوضعنا الخاص وبإمكاناتنا المحدودة وبنوع الدعم الذي نستطيع تقديمه، لم تبد الدول العربية أي اهتمام بتوسع الفلسطينيين في لبنان، والرئيس عبد الناصر تنبه سنة 1970 إلى أن لبنان لا يستطيع أن يتحمل عبئا ثقيلا كالذي يُفرض عليه الآن”.
وهذه الخصوصية اللبنانية التي احترمها عبد الناصر يتحدث عنها فؤاد بطرس بالقول “اعتقد ـ عبد الناصر ـ أن للبنان خصائص وطاقة محددة ليس بإمكانه أن يطلب أكثر منها، وأذكر تحديدا كيف أن عبد الناصر تفهم موقف لبنان الذي لم يقطع علاقاته الدبلوماسية مع فرنسا إبان الأزمة الجزائرية، ولم يحاول أن يفرض رأيه بطريقة أو بأخرى”.
ولا تخرج شهادة الرئيس الأسبق لحزب “الكتائب اللبنانية” كريم بقرادوني عن هذا السياق، ففي كتابه “لعنة وطن” يؤكد أن عبد الناصر “كان يحرص على سيادة لبنان واستقلاله ويدرك خصوصيته ومدى الحساسيات فيه”.
استناداً إلى أجوبة محمد حسنين هيكل على أسئلة يوسف القعيد “كان عند عبد الناصر إعجاب حقيقي بفيروز ولم يكن يخفي إعجابه بفيروز ووديع الصافي، وكان من أمنياته أن يكون عندنا في مصر لون من الغناء الذي هو لون فيروز ووديع الصافي”
ويوجز بقرادوني في مقالة منشورة في صحيفة “البيان” الإماراتية (24 ـ 7 ـ2002) المراحل التي قطعتها العلاقات اللبنانية ـ الناصرية ويحددها بثلاثة فصول وينتهي إلى القول “في البدء شكلت الناصرية خطرا على الخصوصية اللبنانية، وفي النهاية صارت الناصرية خط الدفاع العربي الأول عن نظرية الحفاظ على لبنان وعن سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه، قصة عبد الناصر مع لبنان بدأت خلافا سياسيا وصل الى حد الصدام العسكري في العام 1958، في البدء لم يفهم جمال عبد الناصر لبنان من منظار مشروعه الوحدوي، وفي النهاية تفهمه من منظار مشروعه القومي وفي صراعه الثقافي مع إسرائيل”.
في الأخير ختامان:
ـ ختام أول؛ عبد الناصر والفن اللبناني:
امتد رهان عبد الناصر على الدور الفكري والثقافي لبيروت ـ واستطراداً لبنان ـ إلى المجال الفني، واستناداً إلى أجوبة محمد حسنين هيكل على أسئلة يوسف القعيد في كتاب “عبد الناصر والمثقفون والثقافة”.. “كان عند عبد الناصر إعجاب حقيقي بفيروز ولم يكن يخفي إعجابه بفيروز ووديع الصافي، وكان من أمنياته أن يكون عندنا في مصر لون من الغناء الذي هو لون فيروز ووديع الصافي”.
ـ ختام ثان؛ عبد الناصر ضمانة لبنان:
في كتاب “لعنة وطن”، يكشف كريم بقرادوني أن الرئيس شارل حلو كان يقول “عندي ضمانة إسمها عبد الناصر”.
رحلت الضمانة فقرعت الأجراس رحيل لبنان.